لما فتحت مدائن قبرص وقع الناس يقتسمون السبي ، ويفرقون بينهم - أي بين سبايا
العدو - ويبكى بعضهم على بعض ، فتنحى أبو الدرداء ثم احتبى بحمائل سيفه فجعل
يبكى ، فأتاه جبير بن نفير فقال : ما يبكيك يا أبا الدرداء أتبكى في يوم أعز
الله فيه الإسلام وأهله ، وأذل فيه الكفر وأهله ؟ فضرب على منكبيه ، ثم قال :
ثكلتك أمك يا جبير بن نفير ما أهون الخلق على الله إذا تركوا أمره ؛ بينما هي
أمة قاهرة ظاهرة على الناس لهم الملك حتى تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى ،
وإنه إذا سُلط السباء على قوم فقد خرجوا من عين الله ليست لله بهم حاجة .
رواه سعيد بن منصور في السنن وأبو نعيم في الحلية .
تذكرت هذه المقولة في بلاد الأندلس ( أسبانيا )
فبينما أمة الإسلام أمة قاهرة ظاهرة على الناس في بلاد الأندلس ذات صولات
وجولات تقف على حدود فرنسا ( في بواتيه ) وتهدد عروش الكفر يخاف الكل سطوتها
حتى ضيّعت أمر الله وفتحت على نفها ثغرات قاتلة ابتداء من أبرز أسباب الهلاك
( التنافس على الدنيا ) ( فتنافسوها كما تنافسوها ) يعني الذين من قبلنا (
فتهلككم كما أهلكتهم ) إلى ( الركون إلى الدنيا وكراهية الموت ) وقد عبّر عنه
رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ ( الوهن )
إلى التناحر والتقاسم إلى دويلات يصفها شاعر معاصر لها هو الحسن بن رشيق
بقوله :
مما يزهدني في أرض أندلس ***** أسـمـاء معتصم فيهـا ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها***** كالهـرِّ يحكي انتفاخا صولة الأسد
إلى ثغرات أخرى مثل ( موالات الكافر والاستنصار به على المسلم ) ولو أدى ذلك
إلى التنازل عن شيء من الأرض أو الدين .
إلى الانهماك في الملذّات واتـّباع الشهوات ، وتقديم الطرب وأهله على الجهاد
والمجاهدين ، بل والإنفاق عليه أكثر من الإنفاق في سبيل الله .
بينا هي أمة قاهرة إذ فتحت على نفسها تلك الثغرات وغيرها حتى إذا تمكّن العدو
منها ، خرجت ذليلة تجرّ أذيال الهزيمة حتى قالت أم أبي عبد الله الصغير
لابنها الذي أضاع نفسه وملكه : إبكِ مثل النساء ملكا مضاعا لم تحافظ عليه مثل
الرجال .
فلما أضاعوا أمر الله ضاعوا .
رأيت هذا رأي عين في أسبانيا ، فبينما المسلمون ترتفع منائرهم تناطح السحاب ،
وتصدح منابرهم بأصوات الحق عالية مدوّية ، حفظهم الله يوم حفظوا حدوده
وأطاعوا أوامره .
ثم أضاعوا أمر الله فضيّعهم الله ، حتى أصبح المسلمون اليوم في بلاد الأندلس
يُمنحون شقوقا - ربما تكون تحت الأرض - لـيُصلّوا فيها ، بل هذا المنح هو منح
مؤقت قابل للاسترجاع في أي وقت .
فكم بين الأمس واليوم ؟
كم بين دخول طارق بن زياد فاتحا بوابة الأندلس ( جبل طارق ) منتصرا ، وكم بين
خروج أبي عبد الله الصغير ذليلا منهزما يتلوا تلك الهزائم سقوط الأندلس
ومحاكم التفتيش وما صاحبها من ذل للمسلمين حتى كان الاختتان يُعدّ جريمة في
عرف النصارى ، ولما أعلن النصارى العفو عمن خرج من المسلمين من بلاد الأندلس
خرج يومئذ أكثر من خمسمائة ألف مسلم .
كم بين دخول طارق بن زياد فاتحا وبين تلف الأنفس اليوم - غرقا - في ذلك
المضيق لجوءا إلى ( أسبانيا ) بحثا عن لقمة العيش ؟
كم بين دخول الفاتحين أعزّة ، وبين لجوء المهجّرين إلى بلاد المشركين ؟
كم بين ذلك الأمس المشرق واليوم المظلم ؟
من عَرَفَ الأمس ببطولاته وانتصاراته فلن يعتقد أن هناك صلة بين الأمس واليوم
؟
بل ربما لن يعتقد أن ثمة صلة بين أولئك الآباء وهؤلاء الأحفاد .
كيف لو خرج طارق أو عبد الرحمن الناصر ورأى ما حلّ بالأندلس ، وما حلّ بقصر
الحمراء ومسجد قرطبة الجامع ؟
أما إنه لن يبكي على الأطلال بل سيموت كمداً .
لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ ***** إن كان في القلب إسلام وإيمان
وكفى …