اطبع هذه الصفحة


شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث الـ 84 في تخفيف الصلاة

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

 
ح 84
عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ ، فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَذَا الْحَاجَةِ , وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ .

في الحديث مسائل :

1= قوله : " إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ " يعني صلّى إماماً بالناس .
وتقدّم في حديث أنس : قوموا فلأُصَلِّ لكم . أي بِكم .
ومنه قوله عليه الصلاة والسلام عن الأئمة : يُصَلُّون لكم ، فإن أصابوا فلكم ، وإن أخطأوا فلكم وعليهم . رواه البخاري .

2= قوله : " فَلْـيُخفِّف " الأمر للاستحباب ، ويدل عليه فعله عليه الصلاة والسلام ، فإنه صلى المغرب فقرأ بالطّور ، كما في الصحيحين ، وقرأ مرّة بالمرسلات ، كما عند البخاري ، وقرأ مرّة بالأعراف .
ففي حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة المغرب بسورة الأعراف ، فرّقها بركعتين . رواه النسائي .
قال زيد بن ثابت لمروان بن الحكم : ما لَكَ تقرأ في المغرب بقصار ؟ وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بِطُولَى الطوليين .
فَدَلّ الأمر على الاستحباب .
قال ابن دقيق العيد : وَفِيهِ - بَعْدَ ذَلِكَ - بَحْثَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَتْ الْعِلَّةُ وَجَبَ أَنْ يَتْبَعَهَا الْحُكْمُ ، فَحَيْثُ يَشُقُّ عَلَى الْمَأْمُومِينَ التَّطْوِيلُ ، وَيُرِيدُونَ التَّخْفِيفَ : يُؤْمَرُ بِالتَّخْفِيفِ . وَحَيْثُ لا يَشُقُّ ، أَوْ لا يُرِيدُونَ التَّخْفِيفَ : لا يُكْرَهُ التَّطْوِيلُ . وَعَنْ هَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : إنَّهُ إذَا عَلِمَ مِنْ الْمَأْمُومِينَ : أَنَّهُمْ يُؤْثِرُونَ التَّطْوِيلَ طَوَّلَ ، كَمَا إذَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ لِقِيَامِ اللَّيْلِ . فَإِنَّ ذَلِكَ - وَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِمْ - فَقَدْ آثَرُوهُ وَدَخَلُوا عَلَيْهِ .
الثَّانِي : التَّطْوِيلُ وَالتَّخْفِيفُ : مِنْ الأُمُورِ الإِضَافِيَّةِ . فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ طَوِيلا بِالنِّسْبَةِ إلَى عَادَةِ قَوْمٍ . وَقَدْ يَكُونُ خَفِيفًا بِالنِّسْبَةِ إلَى عَادَةِ آخَرِينَ . اهـ .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : الواجب على المسلم أن يرجع في مقدار التخفيف والتطويل إلى السنة ، وبهذا يتبين أن أمره بالتخفيف لا يُنافى أمره بالتطويل أيضا في حديث عمار الذي في الصحيح لما قال : إن طول صلاة الرجل وقِصَرَ خُطبته مَئِـنَّـةٌ مِنْ فقهه ، فأطيلوا الصلاة واقُصُرُوا الخطبة . وهناك أمرهم بالتخفيف ولا منافاة بينهما فإن الإطالة هنا بالنسبة إلى الخطبة والتخفيف هناك بالنسبة إلى ما فعل بعض الأئمة في زمانه من قراءة البقرة في العشاء الآخرة . اهـ .
وهذا الذي أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية هو ما أنكره النبي صلى الله عليه وسلم على معاذ رضي الله عنه.
وقال ابن القيم : وأما قوله : " أيكم أمّ الناس فليخفف " وقول أنس رضي الله عنه : كان رسول الله أخف الناس صلاة في تمام . فالتخفيف أمْـرٌ نسبي يرجع إلى ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وواظب عليه ، لا إلى شهوة المأمومين ، فإنه لم يكن يأمرهم بأمرٍ ثم يخالفه ، وقد عَلِمَ أن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة ، فالذي فَعَلَه هو التخفيف الذي أَمَرَ به ، فإنه كان يمكن أن تكون صلاته أطول من ذلك بأضعاف مضاعفة ، فهي خفيفة بالنسبة إلى أطول منها ، وهَدْيه الذي كان واظب عليه هو الحاكم على كل ما تنازع فيه المتنازعون . اهـ.
وإطالته عليه الصلاة والسلام لم تكن في القراءة فحسب بل كانت في سائر الصلاة ، فقد روى البخاري ومسلم من طريق ثابت عن أنس قال : إني لا آلو أن أصلي بكم كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلي بنا . قال ثابت : فكان أنس يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه ، كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما حتى يقول القائل قد نَسِي ، وإذا رفع رأسه من السجدة مَكَثَ حتى يقول القائل قد نَسِي .
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن نَقْرٍ كَنَقْرِ الدِّيك ، وفي رواية : كَنَقْرِ الغُراب .

فالمرجع في ذلك إلى هديه الموافق لقوله عليه الصلاة والسلام ، لأنه لا يُتصوّر أن يأمر عليه الصلاة والسلام بالتخفيف ثم يُخالِف هذا الأمر .

قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالتخفيف ويَؤمُّنا بالصافات

3= سبب النهي عن التطويل .
1 - خشية تنفير الناس ، وسيأتي في الحديث الذي يلي هذا الحديث .
2 - ومراعاة حال المأمومين .
3 – مراعاة حال المريض والضعيف .

4= هل هذا النهي عام في كل صلاة ؟ أو هو خاص ببعض الصلوات ؟
الذي يظهر اختصاصه بالعشاء نظراً لسبب ورود الحديث ، وما سيأتي في حديث أبي مسعود رضي الله عنه .
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ربما أطال في صلاة المغرب .
ولكون العشاء بعد جهد يوم كامل ، وعمل شاق ، فيُسنّ فيها التخفيف .
ولأنه عليه الصلاة والسلام كان يُطيل في قراءة صلاة الفجر ، وهكذا كان خلفاؤه من بعده .

5= قوله : " وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ " فمن أراد الإطالة التي تشقّ على الناس ، وكان يُريد مناجاة ربّـه ، والانطراح بين يدي مولاه ، فـلْـيُصَلِّ لنفسه صلاة نافلة ثم يُطيل ما شاء الله له أن يُطيل .

6= هل يُطيل الإنسان لنفسه ما شاء في كل صلاة نافلة ؟
يُطيل فيما شُرِعت له الإطالة ، ويُخفِّف فيما جاءت به السنة بالتخفيف ، كراتبة الفجر ، وراتبة المغرب ، وركعتي الطواف ، فإن هَدْيه عليه الصلاة والسلام التخفيف في ذلك كله .
قالت عائشة رضي الله عنها : كان النبي صلى الله عليه وسلم يُخَفِّف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح حتى إني لأقول : هل قرأ بأم الكتاب . رواه البخاري ومسلم .
ويجب التخفيف في تحية المسجد إذا دَخَلَ الْمُصَلِّي والإمام يخطب يوم الجمعة ، لقوله عليه الصلاة والسلام لِسُليك : قم فاركع ركعتين وتجوّز فيهما ، ثم قال : إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوّز فيهما . رواه مسلم .

7= إذا طوّل الإنسان لنفسه فهل يجب أن يكون هذا الطول في جميع الأركان ؟
السنة أن يكون ذلك في جميع الأركان ، وأن تكون الأركان قريبة من بعضها في الطُّول .
عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : كان ركوع النبي صلى الله عليه وسلم وسجوده وبين السجدتين وإذا رفع من الركوع ما خلا القيام والقعود قريبا من السواء . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية لمسلم : كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وركوعه وإذا رفع رأسه من الركوع وسجوده وما بين السجدتين قريبا من السواء .
وفي حديث حذيفة رضي الله عنه : فكان ركوعه نحواً من قيامه ، ثم قال : سمع الله لمن حمده ، ثم قام طويلا قريبا مما ركع ، ثم سجد ، فقال : سبحان ربي الأعلى ، فكان سجوده قريبا من قيامه . رواه مسلم .

والله تعالى أعلم .
 

عمدة الأحكام
  • كتاب الطهارة
  • كتاب الصلاة
  • كتاب الصيام
  • كتاب الحج
  • شرح العمدة
  • مـقـالات
  • بحوث علمية
  • محاضرات
  • فتاوى
  • الصفحة الرئيسية