اطبع هذه الصفحة


شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث الـ 124 في الصلاة الإبراهيمية بعد التشهد

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

 
ح 124
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ : لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ فَقَالَ : أَلا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً ؟ إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَلَيْنَا , فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ : فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ ؟ فَقَالَ : قُولُوا : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آل إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ . اللهم بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آل إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ .

في الحديث مسائل :

1= هذه الرواية هي المتفق عليها ، أي بهذا اللفظ .

2= كان الصالحون يَتهادَون الأحاديث ، والمعاني الفاضلة ، والكلمات المؤثِّرَة ، فيما بينهم ، كما يَتهادى الناس المتاع .
فهاهو كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ رضي الله عنه يقول لعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى : أَلا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً ؟
قال محمد بن واسع : قدمت مكة فلقيت بها سالم بن عبد الله بن عمر ، فحدثني عن أبيه عن جده عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من دخل السوق فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، لـه الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير . كَتَبَ الله له ألف ألف حسنة ، ورفع له ألف ألف درجة ، وبَنى له بيتا في الجنة .
قال محمد بن واسع : فقدمت خراسان فأتيت قتيبة بن مسلم ، فقلت : أتيتك بهدية ، فحدثته الحديث .
قال : فكان قتيبة يركب في موكبه حتى يأتـيَ السوق ، فيقولها ، ثم ينصرف .
قال الذهبي : إسناده صالح غريب . والحديث حسنه الألباني .

وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق من طريق محمد بن إبراهيم المؤذن قال سمعت محمد بن عيسى الزاهد يقول فيما بلغنا أن عبد الرحمن بن مهدي مات له ابنٌ فجزع عليه جزعاً شديداً حتى امتنع عن الطعام والشراب ، فبلغ ذلك الإمام الشافعي فكتب إليه أما بعد :
فَـعَـزِّ نفسك بما تـُعَـزِّ به غيرك ، ولتستقبح من فعلك ما تستقبحه من فعل غيرك ، واعلم أن أمضى المصائبِ فقـْـدُ سرورٍ مع حرمان أجر ، فكيف إذا اجتمعا على اكتساب وزر ؛ وأقول :
إني مُعَزِّيكَ لا إني على طمع = من الخلود ولكن سـُنّةُ الـدينِ
فما المُعزِّي بباقٍ بعد صاحبه = ولا المُعزَّى ولو عاشا إلى حين
قال : فكانوا يتهادونه بينهم بالبصرة .

3= هل يجوز قول " سيدنا " في التشهّد ، خاصة مع قوله صلى الله عليه وسلم : أنا سيد ولد آدم يوم القيامة . رواه مسلم ؟
الجواب : لا يجوز ، لأن الأذكار مبناها على الاقتصار على ما وَرَد ، وقد عّلّم النبي صلى الله عليه وسلم البراء حديث الذِّكْر قبل النوم . قال البراء : فرددتها على النبي صلى الله عليه وسلم فلما بَلَغْتُ : اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت قلتُ : ورسولك الذي أرسلت . قال : لا ، ونبيك الذي أرسلت . رواه البخاري ومسلم .
فما كان من الأذكار والأوراد اليومية فيُقتصر فيها على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يُزاد عليها بخلاف الدعاء ، فإن للمسلم أن يدعو بما شاء غير أنه لا يدعو بإثم ولا بقطيعة رحم ، ولا يعتدي في الدعاء .

وهذا لا يَقتضي إنكار السيادة له صلى الله عليه وسلم ، فهو صلى الله عليه وسلم سيّد ولد آدم ، وإنما هذا من باب امتثال أمره ، والوقوف مع تعليمه حيث لم يَشْرَع لأمته أن تقول ذلك في التشهّد في الصلاة .

4= وردت عدة صيغ في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، في الصلاة الإبراهيمية التي تُقال في التشهد الأخير من الصلوات .
من هذه الصيغ :

أ - اللهم صل على محمد وعلى أهل بيته وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى أهل بيته وعلى أزواجه وذريته ،كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد . رواه الإمام أحمد ، ورواه البخاري ومسلم دون ذكر " أهل بيته " .
ب - اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد . رواه البخاري ومسلم .
جـ - اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم ، وبارك على محمد النبي الأمي كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد . رواه مسلم .
د - اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد عبدك ورسولك وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم .
هـ - اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد .
و – اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد . رواه النسائي .
ز - اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم . رواه البخاري .

فأي صيغة ذكرها أجزأته ، ولا يكفي أن يقول : اللهم صل على محمد .
وهذه الصيغ قد ذكرها الشيخ الألباني في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم .

5= المقصود بـ آل النبي صلى الله عليه وسلم :
من هذه الصِّيَغ السابق يتبيّن أن آل النبي صلى الله عليه وسلم أعم من آل بيته ، فقد جاء في هذه الأحاديث :
أزواجه ، وذريته .
وإذا أُطلِق آل النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه يشمل أهل بيته وأزواجه وذريته وأتباعه على دِينه .
لقوله تعالى : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) والخِطاب لأزواجه صلى الله عليه وسلم .
ولقوله تبارك وتعالى : (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)
عن آل لوط : (إِلاَّ آَلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ)
قال الشيخ حافظ حكمي :
والآل : أي آله صلى الله عليه وسلم ، وهم أتباعه و أنصاره إلى يوم القيامة ، كما قيل :
آل النبي همو أتباع ملته *** على الشريعة من عجم ومن عرب
لو لم يكن آله إلا قرابته *** صَلَّى الْمُصَلِّي على الطاغي أبي لهب

ويدخل الصحابة في ذلك من باب أولى ، ويدخل فيه أهل بيته من قرابته وأزواجه وذريته من باب أولى . اهـ.
وقد قال الله تبارك وتعالى في قوم فرعون وجُنوده وأتباعه : (وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ) .
وقال فيهم أيضا : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) .
وليس هذا خاصاً بفرعون وقرابته ، وإنما هو عام فيه وفي جنوده وأتباعه ، لقوله تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) .
وللشيخ ابن عثيمين رحمه الله تفصيل في هذه المسألة في مقدمة الشرح الممتع .

6= قولهم رضي الله عنهم : " يَا رَسُولَ اللَّهِ , قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ : فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ ؟ "
فيه أدب الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه حبّهم للنبي صلى الله عليه وسلم .
فهم قد علِموا كيفية السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألوا عما جهِلوا ، وهو كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث قال الله تبارك وتعالى : (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) فَهُم أرادوا امتثال هذا الأمر ، فسألوا .
قال أبو عمر [ ابن عبد البر ] : روى شعبة والثوري عن الحكم بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال : لما نزل قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله هذا السلام عليك قد عرفناه ، فكيف الصلاة ؟ فقال : قُل : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد .
قال ابن عباس : ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ؛ ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة ، كلهن في القرآن (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) ، (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ) ، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى) ، ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم .

7= حُكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة ، أي حُكم قول الصلاة الإبراهيمية في الصلاة .
قال القرطبي في آية الأحزاب المتقدِّمة : أمر الله تعالى عباده بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم دون أنبيائه تشريفا له ، ولا خلاف في أن الصلاة عليه فرض في العمر مرة ، وفي كل حين من الواجبات وجوب السنن المؤكدة التي ، لا يَسع تركها ولا يغفلها إلا من لا خير فيه . اهـ .
وقال أيضا : واختَلَف العلماء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة ؛ فالذي عليه الجمّ الغفير والجمهور الكثير أن ذلك من سنن الصلاة ومستحباتها . قال ابن المنذر : يُستحب ألاّ يُصلي أحدٌ صلاة إلا صلى فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن تَرَكَ ذلك تارِك فصلاته مجزية في مذهب مالك وأهل المدينة وسفيان الثوري وأهل الكوفة من أصحاب الرأي وغيرهم ، وهو قول جلّ أهل العلم ، وحُكي عن مالك وسفيان أنها في التشهد الأخير مستحبة وأن تاركها في التشهد مُسيء . اهـ .

8= سبب عدم القول بالوجوب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالصلاة على هذه الصفة في الصلاة ، وإنما خَرَج هذا القول مَخْرَج الجواب .
فإن قال قائل : جواب النبي صلى الله عليه وسلم للسائل عن ماء البحر ، وجوابه صلى الله عليه وسلم : هو الطهور ماؤه ، الحلّ ميتته .
فالجواب : أن هذا لا يُفيد الوجوب أيضا ، فليس بواجب على من ركب البحر أن يتوضأ منه إلا إذا لم يجِد غيره ، وأما من لا يكون بِقُرب البحر فإنه لا يُخاطَب أصلا بهذا الحديث لعدم حاجته إليه .

9= معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم :
قال أبو العالية : صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة ، وصلاة الملائكة الدعاء .
وقال ابن عباس : (يُصَلُّونَ) يُبَرِّكُون . ذكر ذلك البخاري تعليقاً .
قال ابن حجر في قوله ابن عباس هذا : أي يَدْعُون له بالبركة .

10= معنى البركة :
قال الفيروز آبادي : البَرَكَة - مُحَرَّكة - النماء والزيادة والسعادة ، والتبريك الدعاء بها ، وبِرِيك مُبارك فيه ، وبارك الله لك وفيك وعليك وباركك . وبارِك على محمد وعلى آل محمد أَدِم له ما أعطيته من التشريف والكرامة .
وقال ابن الأثير في النهاية : وبارِك على محمد وعلى آل محمد ، أي أثْبِتْ له وأَدِم ما أعطيته من التشريف والكرامة ، وهو من بَرَك البعير إذا ناخ في موضع فلزمه ، وتطلق البركة أيضا على الزيادة ، والأصل الأول .

11= معنى : حميد :
قال ابن عطية : و حَمِيد : أي أفعاله تقتضي أن يُحمَد .
وقال ابن جُزي الكلبي في التفسير : حميد أي محمود .

12= معنى مجيد :
قال ابن عطية : و مَجِيد : أي مُتَّصِف بأوصاف العلو ، و مَجَد الشيء إذا حسنت أوصافه .
وقال ابن جُزي الكلبي في التفسير : مجيد من المجد ، وهو العلو والشرف .
وقال ابن منظور في لسان العرب : المجد المروءة والسخاء ، والمجد الكرم والشرف . قال ابن سِيده : المجد نيل الشرف ، وقيل : لا يكون إلا بالآباء . وقيل : المجد كرم الآباء خاصة ، وقيل : المجد الأخذ من الشرف والسؤدد ما يكفي . وقد مجد يمجد مجدا فهو ماجد ، و مَجُد بالضم مجادة فهو مجيد وتمجّد ، والمجد كرم فعاله ، وأمجده ومجدّه كلاهما عظَّمَه وأثنى عليه .

13= في اختتام هذه الصلاة بهذين الاسمين من أسماء الرب سبحانه وتعالى وهما : الحميد والمجيد .
قال ابن القيم :
فالحميد : فعيل من الحمد ، وهو بمعنى محمود وأكثر ما يأتي فعيلا في أسمائه تعالى بمعنى فاعل كسميع وبصير وعليم وقدير وعلي وحكيم وحليم ، وهو كثير وكذلك فعول كغفور وشكور وصبور ... وأما الحميد فلم يأتِ إلا بمعنى المحمود ، وهو أبلغ من المحمود .
وقال : فالحميد هو الذي له من الصفات وأسباب الحمد ما يَقتضي أن يكون محموداً ، وإن لم يحمده غيره ، فهو حميد في نفسه ، والمحمود من تَعَلَّق به حَمْد الحامدين ، وهكذا المجيد والممجَّد ، والكبير والمكبَّر ، والعظيم والمعظَّم . والحمد والمجد إليهما يَرجع الكمال كله ، فإن الحمد يستلزم الثناء والمحبة للمحمود ، فمن أحْبَبْتَه ولم تُثْنِ عليه لم تكن حامداً له حتى تكون مُثْنِياً عليه مُحِباً له ، وهذا الثناء والحب تَبَع للأسباب المقتضية له ، وهو ما عليه المحمود من صفات الكمال ونعوت الجلال والإحسان إلى الغير . اهـ .

14= بركة إبراهيم وآل إبراهيم :
قال تعالى : (سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ) ثم قال : (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ) قال البغوي : يعني على إبراهيم في أولاده .
وقال القرطبي في قوله تعالى : (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ) :
أي ثَنّينَا عليهما النعمة . وقيل : كثَرنا ولدهما ، أي باركنا على إبراهيم وعلى أولاده ، وعلى إسحاق حين أخرج أنبياء بني إسرائيل من صُلْبِه ، وقد قيل : إن الكناية في (عَلَيْهِ) تعود على إسماعيل ، وأنه هو الذبيح . قال المفضّل : الصحيح الذي يدل عليه القرآن أنه إسماعيل ، وذلك أنه قص قصة الذبيح ، فلما قال في آخر القصة : (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) ثم قال : (سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) قال : (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ) أي على إسماعيل وعلى إسحاق ، كَنَّى عنه لأنه قد تقدَّم ذِكره ، ثم قال : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا) فَدَلّ على أنها ذرية إسماعيل وإسحاق . اهـ .
ومن هذه البركة أن الله ما بَعث نبياً بعد إبراهيم إلا من ذريته .
قال سبحانه وتعالى : (وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)
وقال تعالى : (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) .
فالداعي بهذا الدعاء ، والمصلي بهذه الصلاة الإبراهيمية يسأل الله لمحمد صلى الله عليه وسلم ولآل محمد صلى الله عليه وسلم كما لإبراهيم عليه الصلاة والسلام وما لآل إبراهيم عليه الصلاة والسلام .

15= مسألة مشهورة :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : فإن قيل : فَلِمَ قِيل : صَلِّ على محمد وعلى آل محمد ، وبارك على محمد على محمد وآل محمد . فَذَكَر هنا : محمدا وآل محمد ، وذَكَرَ هناك لفظ : آل إبراهيم أو إبراهيم ؟
قيل : لأن الصلاة على محمد وعلى آله ذُكِرَتْ في مقام الطلب والدعاء ، وأما الصلاة على إبراهيم ففي مقام الخبر والقصة ، إذ قوله : " على محمد وعلى آل محمد " جملة طلبية ، وقوله : " صليت على آل إبراهيم " جملة خبرية ، والجملة الطلبية إذا بُسِطَتْ كان مناسبا ؛ لأن المطلوب يزيد بزيادة الطلب ، وينقص بنقصانه ، وأما الخبر فهو خبر عن أمْرٍ قد وَقَعَ وانقضى لا يحتمل الزيادة والنقصان ، فلم يمكن في زيادة اللفظ زيادة المعنى ، فكان الإيجاز فيه والاختصار أكمل وأتم وأحسن ، ولهذا جاء بلفظ : " آل إبراهيم " تارة وبلفظ : " إبراهيم " أخرى لأن كلا اللفظين يدل على ما يدل عليه الآخر ، وهو الصلاة التي وقعت وَمَضَتْ ، إذ قد عُلِمَ أن الصلاة على إبراهيم التي وقعت هي الصلاة على آل إبراهيم ، والصلاة على آل إبراهيم صلاة على إبراهيم ، فكان المراد باللفظين واحدا مع الإيجاز والاختصار ، وأما في الطَّلَب فلو قيل : " صَلِّ الله على محمد " لم يكن في هذا ما يدل على الصلاة على آل محمد ، إذ هو طَلَب ودعاء يُنشأ بهذا اللفظ ليس خبرا عن أمر قد وقع واستقرّ ، ولو قيل : " صَلِّ على آل محمد " لكان إنما يصلى عليه في العموم ، فقيل : " على محمد وعلى آل محمد " فإنه يحصل بذلك الصلاة عليه بخصوصه وبالصلاة على آله ، ثم إن قيل : إنه داخل في آله مع الاقتران كما هو داخل مع الإطلاق فقد صَلَّى عليه مرتين خصوصا وعموما . اهـ .

16= مسألة أخرى :
ذَكَر شيخ الإسلام ابن تيمية سؤالاً مشهوراً : " وهو أن قوله : " كما صليت على إبراهيم " يشعر بفضيلة إبراهيم ؛ لأن المشبَّه دون المشبَّه به ، وقد أجاب الناس عن ذلك بأجوبة ضعيفة [ ثم ذَكَرها 22/ 465] ثم قال:
الثالث : قول من قال : آل إبراهيم فيهم الأنبياء الذين ليس مثلهم في آل محمد ، فإذا طَلَب من الصلاة مثلما صلى على هؤلاء حصل لأهل بيته من ذلك ما يليق بهم ، فإنهم دون الأنبياء ، وَبَقِيتْ الزيادة لمحمد ، فحصل له بذلك من الصلاة عليه مزية ليست لإبراهيم ولا لغيره ، وهذا الجواب أحسن مما تقدم ، وأحسن منه أن يُقال : محمد هو من آل إبراهيم كما روى على ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) قال ابن عباس : محمد من آل إبراهيم . وهذا بَيِّن فإنه إذا دَخَلَ غيره من الأنبياء في آل إبراهيم فهو أحق بالدخول فيهم فيكون قولنا : كما صليت على آل إبراهيم " مُتناولا للصلاة عليه ، وعلى سائر النبيين من ذرية آل إبراهيم . اهـ .
والله تعالى أعلم .

 

عمدة الأحكام
  • كتاب الطهارة
  • كتاب الصلاة
  • كتاب الصيام
  • كتاب الحج
  • شرح العمدة
  • مـقـالات
  • بحوث علمية
  • محاضرات
  • فتاوى
  • الصفحة الرئيسية