اطبع هذه الصفحة


شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث 131 في رفع الصوت بالذِّكْرِ بعد الصَّلاةِ

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

 
128 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ , حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كُنْتُ أَعْلَمُ إذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إذَا سَمِعْتُهُ .
وَفِي لَفْظٍ : مَا كُنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلاّ بِالتَّكْبِيرِ.

في الحديث مسائل :

1= بابُ الذِّكْرِ عَقِبَ الصَّلاةِ
لما فرغ المصنف رحمه الله من صفة الصلاة والدعاء فيها ، وصفة صلاة الوتر ذَكَر الذِّكر عقب الصلاة ، لا لأن الذكر عقب النافلة ، ولكن لنُزول رتبته في الأهمية عن رتبة الوتر .

2= حُكم رفع الصوت بالذِّكْر بعد الصلاة المكتوبة :
نَقَلَ ابن بطال وآخرون أن أصحاب المذاهب المتبوعة وغيرهم مُتَّفِقُون على عدم استحباب رفع الصوت بالذِّكْر والتكبير ، وحَمَل الشافعي رحمه الله تعالى هذا الحديث على أنه جَهَرَ وَقْتا يسيرًا حتى يعلمهم صِفَة الذِّكر لا أنهم جَهروا دائما . قال : فأخْتَار للإمام والمأموم أن يَذكر الله تعالى بعد الفراغ من الصلاة ويُخفِيان ذلك إلاَّ أن يكون إمَامًا يُريد أن يُتَعَلَّم منه فيجهر حتى يَعلم أنه قد تُعلِّم منه ثم يُسِرّ ، وحَمَلَ الحديث على هذا . نقله النووي

3 = كَرَاهة رَفع الصَّوت بالذِّكْر ، خاصة إذا كان فيه تشويش على المصلِّين .
قال القرطبي : وروي عن قيس بن عباد أنه قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يَكْرَهون رَفْع الصوت عند الذِّكْر . وممن رُوي عنه كراهة رفع الصوت عند قراءة القرآن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والقاسم بن محمد والحسن وابن سيرين والنخعي وغيرهم ، وكَرِهه مالك بن أنس وأحمد بن حنبل ، كلهم كَرِهَ رَفع الصوت بالقرآن والتطريب فيه . اهـ .
وذلك لِمَا في رَفْع الصَّوت بالذِّكْر والقرآن مِن التَّشويش على مَن يُصلِّي وعلى مَن يذكُر الله ، ولذا لَمَّا سَمِع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يَرْفَعُون أصْواتَهم بالقراءة قال : ألا إنَّ كُلّكم يُنَاجِي رَبَّـه ، فلا يؤذي بعضكم بعضا ، ولا يَرفعن بعضكم على بعض في القراءة . رواه عبد الرزاق ومِن طريقه النسائي في الكبرى .

4 = قوله : " كُنْتُ أعْلَم إذا انصرفوا " :
قال القاضي عياض : الظاهر أنه لم يكن يَحْضُر الجماعة ، لأنه كان صغيرا ممن لا يُواظب على ذلك ، ولا يُلْزَم به ، فكان يَعرف انقضاء الصلاة بما ذَكَر . وقال غيره : يحتمل أن يكون حاضرا في أواخر الصفوف فكان لا يعرف انقضاءها بالتسليم ، وإنما كان يعرفه بالتكبير .
وقال النووي : قوله : " كنت أعلم إذا انصرفوا " ظاهره أنه لم يكن يحضر الصلاة في الجماعة في بعض الأوقات لِصِغَرِه . اهـ .
أقول : وليس في هذا دليل على تَرْك الصغير للصَّلاة ، إذ قد يُؤمَر بالصَّلاة ولا يُؤمَر بِحضُور الْجَمَاعة ، وبينهما فَرْق .

5= كيف يُعرف انقضاء الصلاة بالتكبير والصلاة إنما تنقضي بالتسليم ؟
قال ابن دقيق العيد : فَلَوْ كَانَ مُتَقَدِّمًا فِي الصَّفِّ الأَوَّلِ لَعَلِمَ انْقِضَاءَ الصَّلاةِ بِسَمَاعِ التَّسْلِيمِ . وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مُسْمِعٌ جَهِيرُ الصَّوْتِ يُبَلِّغُ التَّسْلِيمَ بِجَهَارَةِ صَوْتِهِ .
وقال ابن حجر : المراد أن رفع الصوت بالذِّكْر ، أي بالتكبير ، وكأنهم كانوا يبدءون بالتكبير بعد الصلاة قبل التسبيح والتحميد .
وحَمَله بعض العلماء على التكبير في أيام التشريق ، لأنه يكون أدبار الصلوات في تلك الأيام .

6 = وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ تَأْخِيرُ الصِّبْيَانِ فِي الْمَوْقِفِ . قاله ابن دقيق العيد . أي في الوُقُوف في الصَّفّ .
وبهذا يقول الفقهاء .

وفي هذه مسألة تقدّم الصبيان في الصف قال ابن عبد البر :
وقد رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان إذا أبصر صَبِيًّا في الصف أخرجه .
وعن زِرّ بِن حُبيش وأبي وائل مثل ذلك .
قال : وهذا يحتمل أن يكون ذلك الصبي من لا يؤمن لعبة وعبثه ، أو يكون كثرة التقدم له في الصف مع الشيوخ ...
وقد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى كراهة ذلك .
قال الأثرم : سمعت أحمد بن حنبل يَكْره أن يقوم مع الناس في المسجد إلاَّ مَن قد احتلم أو أنْبَت أو بلغ خمس عشرة سنة، فَذَكَرْتُ له حديث أنس واليتيم ، فقال : ذلك في التطوع . اهـ .

وقال الجد بن تيمية في " بلغة الساغب " : وموقف الصبيان خَلْف الرِّجَال .

7= قال تعالى : ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ)
دلّ هذا على أن رَفْع الصَّوت بالذِّكر ممنوع . قاله القرطبي .

8= قوله : " حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ "
فيه دليل على أن الأذكار بعد الانتهاء من الفريضة ، وليس بعد النافلة .

9= فيه دليل على أن الدعاء عقب الصلوات لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم ، ولا من فِعل أصحابه .
وأن هديه صلى الله عليه وسلم الذِّكْر في أدبار الصلوات المكتوبة .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : لم يكن بعد الصلوات يَجتمِع هُو وهُم على دُعاء ورَفع أيدٍ ونحو ذلك ، إذ لو فَعَل ذلك لَنَقَلُوه .
وقال أيضا : دعاء الإمام والمأمومين جَميعًا فهذا لا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله في أعقاب المكتوبات ، كما كان يفعل الأذكار المأثورة عنه ، إذ لو فَعَلَ ذلك لنقله عنه أصحابه ثم التابعون ثم العلماء ، كما نَقَلُوا ما هو دون ذلك . اهـ .

وَمن تَرَك هدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع وعمِد إلى الدعاء ، فقد ترك السنة إلى البِدعة !

والله تعالى أعلم .


 

عمدة الأحكام
  • كتاب الطهارة
  • كتاب الصلاة
  • كتاب الصيام
  • كتاب الحج
  • شرح العمدة
  • مـقـالات
  • بحوث علمية
  • محاضرات
  • فتاوى
  • الصفحة الرئيسية