اطبع هذه الصفحة


شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث 140 في خُطبة الجمعة قائما

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

 
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قال : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ وَهُوَ قَائِمٌ , يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجُلُوسٍ .

فيه مسائل :

1 = هذا الحديث رواه البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بِلفظ : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين يقعد بينهما .
ورواه مسلم بلفظ : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائما ثم يجلس ثم يقوم . قال : كما يفعلون اليوم .
ورواه مسلم من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خُطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويُذَكِّر الناس .

2 = قال ابن حجر : وللنسائي والدارقطني من هذا الوجه : كان يخطب خطبتين قائما يفصل بينهما بجلوس . وغفل صاحب العمدة فَعَزَا هذا اللفظ للصحيحين ، ورواه أبو داود بلفظ : كان يخطب خطبتين كان يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن ، ثم يقوم فيخطب ، ثم يجلس فلا يتكلم ، ثم يقوم فيخطب . اهـ .

3 = الْخُطْبَة : بِضمّ الخاء : خُطبة الجمعة ، وبِكسرها : خِطبة النكاح .
ومن الثاني قوله تعالى : (وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ) .

4 = أكثر العلماء على اشتراط الْخُطبتين لِصِحّة الصلاة .
قال الثوري : لا تكون جمعة إلاّ بخطبة .
وقال الشافعي : لا تجزئ الجمعة بأقل من خطبتين قائما ، فإن خَطب جالسا وهو يُطيق لم يُجْزِه ، وإن علموا أنه يطيق لم تُجْزِهم جمعة .
وقال القاضي : ذهب عامة العلماء إلى اشتراط الخطبتين لِصِحّة الجمعة .
وقال القرطبي في تفسيره : والخطبة شرط في انعقاد الجمعة لا تَصِحّ إلاَّ بها، وهو قول جمهور العلماء .
وقال ابن الملقِّن : لم يُنقل عنه أنه صلاّها بِلا خُطبة .

5 = وأكثر العلماء على اشتراط القيام للخُطبة إلاّ في حال الْعُذر ، بل حَكى ابن عبد البر الإجماع على ذلك ، فقال : وأجمعوا أن الخطبة لا تكون إلاَّ قائما لمن قَدر على القيام ، فإن أعْيَا وجلس للراحة لم يتكلم حتى يعود قائما . اهـ .
وفي حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما ثم يجلس ثم يقوم فيخطب قائما ، فمن نبأك أنه كان يخطب جالسا فقد كَذَب . رواه مسلم .
قال النووي : وفي هذه الرواية دليل لمذهب الشافعي والأكثرين أن خطبة الجمعة لا تَصِحّ من القادر على القيام إلاَّ قائما في الخطبتين ، ولا يصح حتى يجلس بينهما ، وأن الجمعة لا تصح إلاّ بخطبتين . اهـ .

وأنْكر كعب بن عجرة رضي الله عنه على عبد الرحمن ابن أم الحكم حين خَطب قاعدًا ، فقال كعب رضي الله عنه : انظروا إلى هذا الخبيث ! يخطب قاعِدًا ، وقال الله تعالى : (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) . رواه مسلم .
قال النووي : هذا الكلام يتضمن إنكار المنكر ، والإنكار على ولاة الأمور إذا خالفوا السنة ، ووجه استدلاله بالآية أن الله تعالى أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما . اهـ .
وفي مسند الإمام أحمد مِن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب قائما على رِجْلَيه .
قال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم .

6 = حُكم الجلوس بين الخطبتين :
قال ابن عبد البر : واختلف الفقهاء في الجلوس بين الخطبتين ؛ هل هو فرض أم سنة ؟
فقال مالك وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه : الجلوس بين الخطبتين في الجمعة سُـنّة ، فإن لم يجلس بينهما فقد أساء ، ولا شيء عليه .
إلاّ أنّ مالكًا قال : يجلس جلستين إحداهما قبل الخطبة والأخرى بين الخطبتين .
وقال أبو حنيفة : لا يجلس الإمام أول ما يخطب ويجلس بين الخطبتين .
وقال الشافعي : يجلس حين يظهر على المنبر قبل أن يخطب ؛ لأنه ينتظر الأذان ، ولا يفعل ذلك في العيدين لأنه لا ينتظر أذانًا ، فإن ترك الجلوس الأول كرهته ولا إعادة عليه ؛ لأنه ليس من الخطبتين ولا فَصل بينهما ، وأما الجلوس بين الخطبتين فلا بُدّ منه ، فإن خَطَب خُطبتين لم َيفصل بينهما أعاد ظهرا أربعا .

وقال ابن قدامة : يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ جَلْسَةً خَفِيفَةً ؛ لأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ ، كَمَا رَوَيْنَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ، وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ ، وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هِيَ وَاجِبَةٌ ؛ لأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْلِسُهَا ، وَلَنَا أَنَّهَا جَلْسَةٌ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ ، فَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً كَالأُولَى ، وَقَدْ سَرَدَ الْخُطْبَةَ جَمَاعَةٌ ، مِنْهُمْ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ .
قَالَهُ أَحْمَدُ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، قَالَ : رَأَيْتُ عَلِيًّا يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى فَرَغَ .
وَجُلُوسُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لِلاسْتِرَاحَةِ ، فَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً ، كَالأُولَى ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ ، فَإِنْ خَطَبَ جَالِسًا لِعُذْرٍ فَصَلَ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ بِسَكْتَةٍ ، وَكَذَلِكَ إنْ خَطَبَ قَائِمًا فَلَمْ يَجْلِسْ .
قَالَ : ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : ذَهَبَ مَالِكٌ ، وَالْعِرَاقِيُّونَ ، وَسَائِرُ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ إلاَّ الشَّافِعِيَّ ، أَنَّ الْجُلُوسَ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ لا شَيْءَ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ . اهـ .
والمقصود بِـ " سَرْد الخطبة " أنه لم يجلس بينهما ، وليس معناه أنه جعلها خُطبة واحدة .

7 = مقدار الجلوس بين الخطبتين :
فيه أربعة أقوال :
1 - قَدْر قراءة سورة الإخلاص 2 – قَدْر قراءة ثلاث آيات 3 - بِقَدْر تَمَكّن الخطيب في موضع جلوسه واستقرار كل عضو منه في موضعه 4 – قَدْر الجلسة بين السجدتين .
قال ابن عبد البر : يفصل بينهما بجلسة خفيفة قَدْر ما يقرأ : " قل هو الله أحد " .
وقال الباجي : وَمِقْدَارُ الْجِلْسَةِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ مِقْدَارُ الْجِلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ . رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ ؛ لأَنَّهُ فَصْلٌ بَيْنَ مُشْتَبِهَيْنِ كَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ .
وقال ابن قدامة : يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ جَلْسَةً خَفِيفَةً .
وقال النووي عن هذا الجلوس : وتجب الطمأنينة فيه .. قال أصحابنا : وهذا الجلوس خفيف جدا قَدْر سورة الإخلاص تقريبا . والواجب منه قَدْر الطمأنينة ؛ هذا هو الصحيح المشهور ، نَصّ عليه الشافعي ، وقَطَع به .

8 = شروط الخطبة :
قال النووي : شروط الخطبة سبعة :
وقت الظهر ، وتقديمها على الصلاة ، والقيام والقعود بينهما ، وطهارة الْحَدَث ، والنجس ، وسَتر العورة على الأصح في الخطبتين ... والسابع : رفع الصوت بحيث يسمعه أربعون من أهل الكمال . اهـ .
وفي بعضها مُنازعة لدى الفقهاء ، والصحيح : أنه لا يُشترط لها الطهارة ، ولا وقت الظهر ، وسيأتي ما يتعلق بالوقت في حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه .
وذَكَر النووي الخلاف في اشتراط كون الخطبة باللغة العربية ، والخلاف في الترتيب والموالاة .

قال ابن قدامة : وَالسُّنَّةُ أَنْ يَخْطُبَ مُتَطَهِّرًا . اهـ . فلم يعتبره شرطًا . وكذلك قال الجدّ بن تيمية .

ولا يُشترط أن يتولّى الخطابة من يتولّى الإمامة .
قال ابن قدامة : وَالسُّنَّةُ أَنْ يَتَوَلَّى الصَّلاةَ مَنْ يَتَوَلَّى الْخُطْبَةَ ؛ لأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَوَلاّهُمَا بِنَفْسِهِ ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ . اهـ .

9 = أركان الخطبة :
قال النووي : فروض الخطبة خمسة ، ثلاثة متفق عليها واثنان مختلف فيهما :
أحدها : حَمْد الله تعالى ، ويتعين لفظ الحمد ، ولا يقوم معناه مقامه بالاتفاق ، وأقَلّه : الحمد لله .
الثاني : الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتعين لفظ الصلاة ...
الثالث : الوصية بتقوى الله تعالى ...
الرابع : قراءة القرآن ...
الخامس : الدعاء للمؤمنين ...

وقال ابن دقيق العيد : وَقَدْ عَدَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَرْكَانِ الْخُطْبَةِ الْوَاجِبَةِ :
الأَمْرُ بِتَقْوَى اللَّهِ ، وَبَعْضُهُمْ جَعَلَ الْوَاجِبَ : مَا يُسَمَّى خُطْبَةً عِنْدَ الْعَرَبِ .

10 = السنة أن تكون الخطبة قصيرة بليغة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : إن طولَ صلاة الرجل وقِصر خطبته مَئِنّةٌ مِن فِقهه ؛ فأطِيلوا الصلاة واقصروا الخطبة ، وإن مِن البيان سِحْرًا . رواه مسلم .

11 = ليس مِن السنة ذِكْر الخلفاء ولا السلاطين في خُطب الجمعة ، ولا الدعاء الذي يُشبه دُعاء القنوت !
قال الإمام الشاطبي وهو يذكر ما نَالَه بِسبب تقديمه للسُّـنَّـة : وتارةً نُسِبت إلى الرَّفض وبغض الصحابة رضي الله عنهم ، بسبب أني لم ألْتَزِم ذِكْر الخلفاء الراشدين منهم في الخطبة على الخصوص ، إذ لم يكن ذلك من شأن السلف في خُطبهم ، ولا ذَكَره أحدٌ مِن العلماء المعتبرين في أجزاء الْخُطب . وقد سئل " أصبغ " عن دعاء الخطيب للخلفاء المتقدمين فقال : هو بِدعة ، ولا ينبغي العمل به ، وأحسنه أن يدعو للمسلمين عامة . قيل له : فدعاؤه للغزاة والمرابطين ؟ قال : ما أرى به بأسا عند الحاجة إليه ، وأما أن يكون شيئاً يصمد له في خطبته دائما فإني أكْرَه ذلك . ونص أيضاً عز الدين بن عبد السلام : على أن الدعاء للخلفاء في الخطبة بِدعة غير محبوبة .
وتارةً أُضِيف إليّ القول بجواز القيام على الأئمة ، وما أضافوه إلاَّ مِن عَدم ذِكري لهم في الخطبة ، وذِكرهم فيه مُحْدَث لم يكن عليه مَن تَقَدّم . اهـ .
وكذلك ذَكَره الألباني في " الأجوبة النافعة " .

12 = ليس من السنة الْتِزام تلاوة قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) في كل خُطبة ؛ لأن ذلك لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم ولا فَعَله أصحابه رضي الله عنهم .

والله أعلم .


 

عمدة الأحكام
  • كتاب الطهارة
  • كتاب الصلاة
  • كتاب الصيام
  • كتاب الحج
  • شرح العمدة
  • مـقـالات
  • بحوث علمية
  • محاضرات
  • فتاوى
  • الصفحة الرئيسية