اطبع هذه الصفحة


شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث 156 في ابتداء مشروعية صلاة الخوف

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم


عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنهما قَالَ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلاةَ الْخَوْفِ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ , فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ , وَطَائِفَةٌ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ , فَصَلَّى بِاَلَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً , ثُمَّ ذَهَبُوا , وَجَاءَ الآخَرُونَ , فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً , وَقَضَتِ الطَّائِفَتَانِ رَكْعَةً رَكْعَةً .

فيه مسائل :

1= " صَلاةَ الْخَوْفِ " سُمِّيَت كذلك ؛ لأنها تُصلّى في حال شِدّة الخوف ، أو خوف مُفاجأة العدو على حين غِـرّة .

2= " فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ " في رواية للبخاري : غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ نَجْدٍ .
فيكون المقصود به " ذات الرِّقَاع " .
وذات الرقاع بعد خيبر ، وخيبر في السنة السابعة ، وتَعيّن أن تكون ذات الرقاع بعد خيبر لِشهود أبي موسى وأبي هريرة لها ، وهما لم يشهدا خيبر ؛ لتأخّر إسلامهما .

3= المقصود بـ " الأيام " الأيام المشهودة ، وهي هنا : الغزوة .

4= " فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ " كان ذلك بعد نُزول آية النساء (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) .
وفي حديث جابر رضي الله عنه : غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمًا مِنْ جُهَيْنَةَ .. وسيأتي شرح حديث جابر رضي الله عنه .
وفي حديث أبي عياش الزرقي رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بِعُسفان ، فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد ، وهُم بيننا وبين القبلة ، فَصَلّى بِنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر ، فقالوا : قد كانوا على حال لو أصَبْنا غِرّتهم ، ثم قالوا : تأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم مِن أبنائهم وأنفسهم ، قال : فَنَزَل جبريل عليه السلام بهذه الآيات بين الظهر والعصر (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) قال : فحضرت فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا السلاح ، قال : فَصَفَفْنا خَلْفَه صَفَّين . رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي ، وصححه الألباني والأرنؤوط .

5= " بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ " في رواية للبخاري : " فَوَازَيْنَا الْعَدُوَّ فَصَافَفْنَا لَهُمْ " : الموازاة ، والإزاء : هي الْمُقابَلَة .
قال القاضي عياض : وازينا العدو ، أي : قَرَّبْنا مِنه وقابَلْناه .
وقال ابن الأثير : فَوَازَينا العدوّ ، أي : قابلناهم .
وفي " لسان العرب " : والإزاءُ الْمُحَاذاةُ والْمُقَابَلة .

6= عِظَم قَدْر الصلاة ، فلم يتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه وَهُم في حال قِتال ومُصافّة العدوّ .
وأن أداء الصلاة مُتعيّن ولو مع الإخلال بشيء مِن أركانها ، كما في الإيماء بها ، حال الخوف الشديد .
وقد عَلِم المشركون بمحبّة المؤمنين للصلاة !
ففي حديث جابر رضي الله عنه : فلما صلينا الظهر قال المشركون : لو مِلْنا عليهم مَيلة لاقتطعناهم . فأخبر جبريلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، فَذَكَر ذلك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : وقالوا : إنه ستأتيهم صلاة هي أحبّ إليهم من الأولاد . رواه البخاري ومسلم ، واللفظ لمسلم .

7= وُجوب صلاة الجماعة ، فلم يُعذَر الْمُحارِب بِتَرْك الجماعة ، كما لم يُعْذَر الأعمى الذي ليس له قائد يُلائمه ، وهو بعيد الدار ، كما في صحيح مسلم .

8= هذه الصِّفَة التي ذَكَرها ابن عمر رضي الله عنهما هي صِفَة مِن صِفات كثيرة جاءت في صِفات صلاة الخوف ، وهو اختلاف تنوّع .
ومِن أهل العِلْم مَن أوْصَلها إلى تسع صِفات ، ومنهم مِن أوْصَلها إلى أربع عشرة ، وإلى سِتّ عشرة صِفَة .
قال الخطابي: صلاة الخوف أنواع صلاّها النبي صلى الله عليه وسلم في أيام مختلفة وأشكال متباينة ، يُتوخّى فيها كلها ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة .
وقال القرطبي في " المفهم " : اختلف الجمهور في كيفية صلاة الخوف على أقوال كثيرة ، لاختلاف الأحاديث المروية في ذلك .
وقال النووي : وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَغَيْره وُجُوهًا أُخَر فِي صَلاة الْخَوْف بِحَيْثُ يَبْلُغ مَجْمُوعهَا سِتَّة عَشَرَ وَجْهًا . وَذَكَرَ اِبْن الْقَصَّار الْمَالِكِيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاّهَا فِي عَشْرَة مَوَاطِن . وَالْمُخْتَار أَنَّ هَذِهِ الأَوْجُه كُلّهَا جَائِزَة بِحَسَبِ مَوَاطِنهَا . وَفِيهَا تَفْصِيل وَتَفْرِيع مَشْهُور فِي كُتُب الْفِقْه . قَالَ الْخَطَّابِيُّ : صَلاة الْخَوْف أَنْوَاع صَلاّهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَيَّام مُخْتَلِفَة وَأَشْكَال مُتَبَايِنَة يَتَحَرَّى فِي كُلّهَا مَا هُوَ أَحْوَط لِلصَّلاةِ وَأَبْلَغ فِي الْحِرَاسَة ، فَهِيَ عَلَى اِخْتِلاف صُوَرهَا مُتَّفِقَة الْمَعْنَى .

9= يجوز أن يُصلّي الإنسان صلاة الخوف في غير القتال ، إلاّ أن الْمُقيم لا يَقصر الصلاة .
قَالَ الإمام الشّاَفعيُّ : فَلِلْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ إذا كان آن الْخَوْفُ أَنْ يُصَلِّيَهَا صَلاَةَ الْخَوْفِ ، وَلَيْسَ لِلْمُقِيمِ أَنْ يُصَلِّيَهَا إلاَّ بِكَمَالِ عَدَدِ صَلاَةِ الْمُقِيمِ ، وَلِلْمُسَافِرِ أَنْ يَقْصُرَ في صَلاَةِ الْخَوْفِ إنْ شَاءَ لِلسَّفَرِ ، وَإِنْ أَتَمَّ فَصَلاَتُهُ جَائِزَةٌ ، وَأَخْتَارُ له الْقَصْرَ .
وقال النووي : قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله : صلاة الخوف جائزة في كُلّ قِتال ليس بِحَرام ، سواء كان واجبا ، كَقِتال الكفار والبغاة وقُطاع الطريق إذا قاتلهم الإمام ، وكذا الصائل على حَريم الإنسان أو على نفسه ، إذا أوجبنا الدَّفْع ، أو كان مُباحا مُستوي الطرفين ، كَقِتال مَن قصد مال الإنسان أو مال غيره ، وما أشبه ذلك ، ولا يجوز في القتال الْمُحَرَّم بالإجماع ، كَقِتال أهل العَدْل ، وقِتال أهل الأموال لأخذ أموالهم ، وقتال القبائل عصبية ونحو ذلك .

وقال أيضا : إذا كان مُحْرِمًا بِحَجّ ، وهو بِقُرْب عرفات ، ولم يكن وَقَف بها ، ولا صَلى العشاء ، ولم يَبْقَ مِن وقت العشاء والوقوف إلاَّ قَدْر يَسير ، بِحيث لو صَلّى فاته الوقوف ، ولو ذهب إلى الوقوف لفاتته الصلاة وأدْرَك الوقوف ؛ ففيه ثلاثة أوجه :
الثالث منها : يُصَلِّي صلاة الخوف ماشِيا ، فَيُحَصِّل الحج والصلاة جميعا ، ويكون هذا عُذْرا مِن أعذار صلاة شدة الخوف .
وقال ابن رجب : فأما قصر الصلاة في حال الخوف في الحضَر ، فالجمهور على منعه .

10= في هذه الصِّفَة يُصلِّي الإمام ركعة ويظلّ قائما ، وتُتِمّ الطائفة الأولى ركعة ثانية لأنفسهم ، كُلّ على حِدَة ، ثم يُسلِّمون ويَنصَرِفون ، ثم تأتي الطائفة الثانية فتُصلّي مع الإمام ركعة ، ثم يجلس الإمام حتى يُتِمّون ، فيُسلّمون جميعا ( الإمام والطائفة الثانية ) .
ويُحتمل على ما في رواية الترمذي : صلى صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة ، والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا فقاموا في مقام أولئك ، وجاء أولئك فَصَلَّى بهم ركعة أخرى ثم سَلّم عليهم ، فقام هؤلاء فقضوا ركعتهم ، وقام هؤلاء فقضوا ركعتهم .
أي : يكون صلّى بالطائفة الثانية ركعة ثم سلّم ، فقاموا يقضون ركعة . فتكون كل طائفة صلّت ركعة مع الإمام وقَضَتْ ركعة على انفراد .
قال الترمذي : ورُوي عن غير واحد : أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى بإحدى الطائفتين ركعة ركعة ، فكانت للنبي صلى الله عليه و سلم ركعتان ، ولهم ركعة ركعة . اهـ .
وهذه صِفة لا يُمكن أن يُقاس عليها ؛ لأنها صِفة مُنفردة عن صلاة الأمن والحضر والسفر ؛ ولأن الأصول لا يُقاس بعضها على بعض ، كما قال العلماء .
ولا يصح الانفراد عن الإمام ، إلاّ باستئناف الصلاة ، كما في قصة الرجل الذي انفرد عن معاذ ، فإنها استأنف صلاته ، كما عند مسلم .
قال القرطبي : هذه الصلاة المذكورة في القرآن إنما يُحتاج إليها والمسلمون مُستدبرون القبلة ووجه العدو القبلة ، وإنما اتفق هذا بذات الرقاع ، فأما بِعُسْفان والموضع الآخر فالمسلمون كانوا في قبالة القبلة . اهـ .

11= اخْتَلفوا في صِفة صلاة المغرب في الخوف .
قال القرطبي : اختلفوا في كيفية صلاة المغرب ؛ فَرَوى الدارقطني عن الحسن عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالقوم صلاة المغرب ثلاث ركعات ثم انصرفوا ، وجاء الآخرون فصلى بهم ثلاث ركعات، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم سِتًّا ، وللقوم ثلاثا ثلاثا ، وبه قال الحسن . والجمهور في صلاة المغرب على خلاف هذا ، وهو أنه يُصَلِّي بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة ، وتُقْضَى على اختلاف أصولهم فيه متى يكون ؟ هل قبل سَلام الإمام أو بعده ؟
هذا قول مالك وأبي حنيفة ، لأنه أحْفظ لِهَيئة الصلاة .
وقال الشافعي : يُصَلي بالأولى ركعة ، لأن عَلِيًّا رضي الله عنه فعلها ليلة الهرير ، والله تعالى أعلم . اهـ .

12= لم يُذْكَر في هذه الصِّفات حَمْل السِّلاح ، وهو مُصرَّح به في الآية ، وفي أحاديث أخرى .
ففي حديث أبي عياش الزرقي رضي الله عنه قال : فأمَرَهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخَذُوا السلاح ، قال : فَصَفَفْنا خَلْفَه صَفَّين . وقد تقدّم الحديث .
وانظر : تفسير القرطبي (5/346 -355) ،وذلك في تفسير آية النساء : (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) .

13= إذا اشتدّ الخوف ، صلّوا على حسب استطاعتهم .
ففي رواية للبخاري قال ابن عمر : فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ هُوَ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالا ، قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ أَوْ رُكْبَانًا ، مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ أَوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا . قَالَ مَالِكٌ : قَالَ نَافِعٌ : لا أُرَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ ذَكَرَ ذَلِكَ إِلاَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وفي رواية لمسلم : فَإِذَا كَانَ خَوْفٌ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَصَلِّ رَاكِبًا أَوْ قَائِمًا تُومِئُ إِيمَاءً .

قال الخرقي : وَإِذَا كَانَ الْخَوْفُ شَدِيدًا ، وَهُمْ فِي حَالِ الْمُسَايَفَةِ ، صَلَّوْا رِجَالا وَرُكْبَانًا ، إلَى الْقِبْلَةِ وَإِلَى غَيْرِهَا ، يُومِئُونَ إيمَاءً ، يَبْتَدِئُونَ تَكْبِيرَةَ الإِحْرَامِ إلَى الْقِبْلَةِ إنْ قَدَرُوا ، أَوْ إلَى غَيْرِهَا .
قال ابن قدامة : أَمَّا إذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ ، وَالْتَحَمَ الْقِتَالُ ، فَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا كَيْفَمَا أَمْكَنَهُمْ ؛ رِجَالا وَرُكْبَانًا ، إلَى الْقِبْلَةِ إنْ أَمْكَنَهُمْ ، وَإِلَى غَيْرِهَا إنْ لَمْ يُمْكِنْهُمْ ، يُومِئُونَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ ، وَيَجْعَلُونَ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ ، وَيَتَقَدَّمُونَ وَيَتَأَخَّرُونَ ، وَيَضْرِبُونَ وَيَطْعَنُونَ ، وَيَكُرُّونَ وَيَفِرُّونَ ، وَلا يُؤَخِّرُونَ الصَّلاةَ عَنْ وَقْتِهَا . وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ . اهـ .

وقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الخرقي : وَإِذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ وَهُوَ مَطْلُوبٌ ، ابْتَدَأَ الصَّلاةَ إلَى الْقِبْلَةِ ، وَصَلَّى إلَى غَيْرِهَا رَاجِلا وَرَاكِبًا ، يُومِئُ إيمَاءً عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ ، وَيَجْعَلُ سُجُودَهُ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ .
قال ابن قدامة : وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ ، بِحَيْثُ لا يَتَمَكَّنُ مِنْ الصَّلاةِ إلَى الْقِبْلَةِ ، أَوْ احْتَاجَ إلَى الْمَشْيِ ، أَوْ عَجَزَ عَنْ بَعْضِ أَرْكَانِ الصَّلاةِ ؛ إمَّا لِهَرَبٍ مُبَاحٍ مِنْ عَدُوٍّ ، أَوْ سَيْلٍ ، أَوْ سَبُعٍ ، أَوْ حَرِيقٍ ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ، مِمَّا لا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْهُ إلاّ بِالْهَرَبِ ، أَوْ الْمُسَايَفَةِ ، أَوْ الْتِحَامِ الْحَرْبِ ، وَالْحَاجَةِ إلَى الْكَرِّ وَالْفَرِّ وَالطَّعْنِ وَالضَّرْبِ وَالْمُطَارَدَةِ ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ ، رَاجِلا وَرَاكِبًا إلَى الْقِبْلَةِ - إنْ أَمْكَنَ - ، أَوْ إلَى غَيْرِهَا إنْ لَمْ يُمْكِنْ .
وَإِذَا عَجَزَ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، أَوْمَأَ بِهِمَا ، وَيَنْحَنِي إلَى السُّجُودِ أَكْثَرَ مِنْ الرُّكُوعِ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الإِيمَاءِ ، سَقَطَ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْقِيَامِ أَوْ الْقُعُودِ أَوْ غَيْرِهِمَا ، سَقَطَ ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ وَالْكَرِّ وَالْفَرِّ ، فَعَلَ ذَلِكَ .
وَلا يُؤَخِّرُ الصَّلاةَ عَنْ وَقْتِهَا ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا) . اهـ .
وهذا يَرِد عليه : قول أنس رضي الله عنه : حَضَرْتُ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ حِصْنِ تُسْتَرَ عِنْدَ إِضَاءَةِ الْفَجْرِ وَاشْتَدَّ اشْتِعَالُ الْقِتَالِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاةِ ، فَلَمْ نُصَلِّ إِلاَّ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ ، فَصَلَّيْنَاهَا وَنَحْنُ مَعَ أَبِي مُوسَى فَفُتِحَ لَنَا . وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : وَمَا يَسُرُّنِي بِتِلْكَ الصَّلاةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا . علّقه البخاري .
قال الإمام البخاري : بَاب الصَّلاةِ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ الْحُصُونِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ . وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ : إِنْ كَانَ تَهَيَّأَ الْفَتْحُ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاةِ صَلَّوْا إِيمَاءً ، كُلُّ امْرِئٍ لِنَفْسِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الإِيمَاءِ أَخَّرُوا الصَّلاةَ حَتَّى يَنْكَشِفَ الْقِتَالُ ، أَوْ يَأْمَنُوا فَيُصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا صَلَّوْا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا لا يُجْزِئُهُمْ التَّكْبِيرُ وَيُؤَخِّرُوهَا حَتَّى يَأْمَنُوا ، وَبِهِ قَالَ مَكْحُولٌ .

وقال القرطبي عن قول أنس رضي الله عنه : ذَكَرَه البخاري ، وإليه كان يذهب شيخنا الأستاذ أبو جعفر أحمد بن محمد بن محمد القيسي القرطبي المعروف بأبي حجة ؛ وهو اختيار البخاري فيما يظهر . اهـ .
وقال أيضا : اختلفوا في صلاة الخوف عند الْتِحَام الحرب وشِدة القتال وخَيف خُروج الوقت ، فقال مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وعامة العلماء : يُصَلِّي كيفما أمكن ، لقول ابن عمر: فإن كان خوف أكثر مِن ذلك فيُصَلِّي راكبا أوْ قائما يُومئ إيماء .
قال في الموطأ : مُستقبل القبلة وغير مُستقبلها . اهـ .

وقال القرطبي : واخْتَلَفُوا في صلاة الطالب والمطلوب ؛ فقال مالك وجماعة مِن أصحابه : هما سواء ، كُلّ واحد منهما يُصَلِّي على دابته . وقال الأوزاعي والشافعي وفقهاء أصحاب الحديث وابن عبد الحكم : لا يُصَلِّي الطالِب إلاَّ بالأرض ، وهو الصحيح ؛ لأن الطَّلَب تَطَوّع ، والصلاة المكتوبة فَرْضها أن تُصَلى بالأرض حيثما أمكن ذلك ، ولا يُصَلّيها راكب إلاَّ خائف شديد خوفه ، وليس كذلك الطالب .

وهذا يَرِد عليه : ما قاله الترمذي ، حيث قال : رُوي عن أنس بن مالك أنه صلى على دابته في ماء وطين . والعمل على هذا عند أهل العلم ، وبه يقول أحمد وإسحاق ، وفعله جَابر بن زيد ، وأمَر به طاوس وعمارة بن غزية .
وما نَقَله ابن عبد البر عن مالك والشافعي أنهما قالا : يُصلِّي المسافر الخائف على قدر طاقته ، مُسْتَقْبِل القبلة وغيره مُستقبلها . وبذلك قال أهل الظاهر لعموم قوله : (فإن خفتم)
وقال ابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه : لا يُصلّي الخائف إلاّ إلى القبلة .
وما قاله ابن قدامة في " المغني " : ومَن كان في ماء وطين أوْمأ إيماء . وجملة ذلك أنه إذا كان في الطين والمطر ولم يمكنه السجود على الأرض إلاَّ بالتلوث بالطين والبلل بالماء ، فَلَه الصلاة على دابته يومئ بالركوع والسجود ، وإن كان راجلا أومأ بالسجود أيضا ، ولم يلزمه السجود على الأرض .
وقال النووي : وأما مراعاة القبلة للخائف في الصلاة ، فساقطة عنه عند أهل المدينة والشافعي إذا اشتد خوفه كما يسقط عنه النُّزول إلى الأرض .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : ويجوز للمريض إذا شق عليه القيام أن يُصَلِّي قاعدا ، فإن لم يستطع صَلَّى على جَنبه ، وكذلك إذا كان رجل لا يمكنه النُّزُول إلى الأرض صَلَّى على راحلته ، والخائف مِن عَدُوِّه إذا نَزَل ، يُصَلِّي على راحلته .
وقال ابن مفلِح : وتجوز صلاة الفرض على الراحلة - واقفة وسائرة ، وعليه الاستقبال وما يَقْدر عليه - خشية التأذي بالوَحْل .
وقال : فإن قَدر على النُّزُول مِن غير مَضَرة لَزِمه ذلك القيام والركوع كغير حالة المطر ، ويُومئ بالسجود لِمَا فيه مِن الضَّرر .

وقال ابن رجب : قال أبو داود : سألت أبا عبد الله [يعني : الإمام أحمد] عن الصلاة صبيحة المغار ، فيؤخرون الصلاة حتى تطلع الشمس ، أو يصلون على دوابهم ؟ قال : كلٌّ أرجوا ...
وجمهور أهل العلم على أنه لا يجوز تأخير الصلاة في حال القتال ، وتُصلّى على حسب حاله ، فإنه لا يأمن هجوم الموت في تلك الحال .

وقال ابن الملقِّن : وانفرد أبو حنيفة وأبو ليلى فقالا : لا يُصلِّي الخائف إلاَّ إلى القبلة . وعامة العلماء على خلافه .
وقال أيضا :
من أنواع صلاة الخوف صلاة الْمُسَايَفَة ، وهو إذا الْتَحَم القِتال أو اشتد الخوف ؛ فيُصَلّي كيف أمكن : راكبًا ، وماشيًا ، ويُعْذَر في ترك القبلة والأعمال الكثيرة للحاجة . وهو قول ابن عمر ، وبه أخذ مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وعامة العلماء . ويَشهد لَه قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) .
قال بعض العلماء : بحسب ما يتمكن منه . اهـ .

والله تعالى أعلم .

 

عمدة الأحكام
  • كتاب الطهارة
  • كتاب الصلاة
  • كتاب الصيام
  • كتاب الحج
  • شرح العمدة
  • مـقـالات
  • بحوث علمية
  • محاضرات
  • فتاوى
  • الصفحة الرئيسية