اطبع هذه الصفحة


شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث 172 في البراءة مِمَّن تُظهِر الجزع عند المصيبة

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم


عَنْ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَرِيءٌ مِنْ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ .
قال المصنف : الصالقة : التي تَرْفع صوتها عند المصيبة .

في الحديث مسائل :

1 = هذا الحديث رواه البخاري تعليقا .
فإن البخاري قال : وقال الحكم بن موسى - فَذَكَرَ الإسناد والمتن – .
قال ابن حجر : وَقَع في رواية أبي الوقت حدثنا الحكم . وهو وَهْـم ، فإن الذين جَمَعُوا رِجَال البخاري في صحيحه أطْبَقُوا على تَرْك ذِكْرِه في شُيُوخِه ؛ فَدَلَّ على أنَّ الصَّوَاب رِوَاية الجماعة بِصِيغَة التعليق ، وقد وَصَلَه مُسلم في صحيحه .

2 = البراءة من صَاحِب مَعصِيَة يَدُلّ على عِظَم ذلك الذَّنْب . وهذه الأفعال المذكورة مِن الكَبائر .

3 = كان سُفيان بن عُيينة يُمسِك عن تفسير مثل هذا اللفظ لِيَكُون أوْقَع في النّفوس ، وأبْلغ في الزَّجْر .
وهذا مَسْلَك مُطَّرِد عند أهل العِلْم في أحاديث الوعيد .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وَقَدْ نُقِلَ كَرَاهَةُ تَأْوِيلِ أَحَادِيثِ الْوَعِيدِ عَنْ سُفْيَانَ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَجَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ . اهـ .

4 = الصَّالِقة : التي تَرْفع صوتها عند المصيبة . كما فسَّرَه الْمُصَنِّف رحمه الله .
وهو مأخُوذ مِن الصَّلْق ، وهو شِدّة رَفْع الصوت .
والْمُراد به في هذا الحديث رَفْع الصَّوت عند الْمُصِيبة تَسَخُّطا وجَزَعا .
وفي رواية لمسلم : " أنا بَرِيء مِمَّن حَلَق وسَلَق وخَرَق " ، والسَّلْق بِمعنى الصَّلْق .

5 = الْحَالِقَة : التي تَحْلِق شَعْرها عند الْمُصِيبَة خَاصَّة ، وإن كان يَحْرُم على المرأة حَلْق شَعِر رأسها عموما . إلا أنه أعْظَم عِند الْمُصِيبة ، وهذا يُؤكِّد على أنَّ الذَّنْب قد يَحْتَف به ما يَجْعله مُسْتَعظما .

6 = الشَّاقَّـة : التي تَشُقّ ثوبها عند المصيبة .
وسيأتي حديث ابن مسعود رضي الله عنه : ليس مِنَّا مَن لَطَم الْخُدُود ، وشَقّ الْجُيوب ، ودَعَا بِدَعْوى الجاهلية .

7 = القاسم الْمُشْتَرَك بين هذه الأفعال : هو إظْهَار الْجَزَع والـتَّتسَخُّط ، وحَقيقة ذلك الاعْتِراض على أقْدَار الله .
وذلك أنَّ مَن رَضِي فله الرِّضا ، ومن سَخِط فعليه السُّخْط .
ويُلْحَق بِهذه الأشياء كُلّ مَا مِن شَأنه إظْهَار الْجَزَع والتَّسَخُّط ؛ لأنَّ الْحُكْم يَدُور مَع عِلَّتِه وُجُودا وعَدَما .
وقد بيّن ابن حجر أن الْحُزن لا يُنافي الرضا بالقضاء .
وقال في قول عائشة رضي الله عنها : لَمّا جاء النبي صلى الله عليه وسلم قَتل ابن حارثة وجعفر وابن رواحة جلس يُعْرَف فيه الحزن .
قال : ويؤخذ منه أن ظهور الحزن على الإنسان إذا أُصيب بمصيبة لا يُخرجه عن كونه صابرا راضيا إذا كان قلبه مطمئنا ، بل قد يُقال : إن من كان يَنْزَعج بالمصيبة ويُعَالِج نفسه على الرضا والصبر أرْفَع رتبة ممن لا يَبالي بِوقوع المصيبة أصلا ، أشار إلى ذلك الطبري وأطال في تقريره . اهـ .
وقال شيخنا العثيمين رحمه الله في ذِكر أنواع التسخُّط :
النوع الثالث : أن يكون بالجوارح كَلَطْم الخدود ، وشق الجيوب ، ونتف الشعور وما أشبه ذلك ، وكل هذا حرام مُنَافٍ للصبر الواجب .
وقال رحمه الله : إن اقترن بالْحُزن شيء مِن الْمُحَرَّم ؛ كَلَطْم الخدود ، وشَقّ الجيوب ، ونَتْف الشعور صار من هذه الناحية حراما ؛ لأنه اقترن بِفِعْل مُحْرَّم .

8 = فيه الْحَثّ على الصَّبر والتَّصَبُّر عند الْمُصِيبَة . وأنَّ الصَّبْر عِند الصَّدْمَة الأُولَى . كما في الحديث المتّفق عليه .
وأنَّ مَن لَم يَصْبِر صَبْر الْكِرَام ، سَلا سُلْوان البهائم !

وأن الرضا مَنْزِلة فوق التسليم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وأما " الرضا " فقد تنازع العلماء والمشايخ مِن أصحاب الإمام أحمد وغيرهم في الرضا بالقضاء : هل هو واجب أو مستحب ؟ على قولين : فَعَلَى الأول يكون من أعمال المقتصدين ، وعلى الثاني يكون من أعمال المقرَّبِين .
قال عمر بن عبد العزيز : الرضا عزيز ، ولكن الصبر مُعَوّل المؤمن .

9 = لا يُعذِّب الله بِدَمْع العين ، ولا بِحُزْن القَلْب ، كما قال عليه الصلاة والسلام ؛ لأن الإنسان لا يَتَحكَّم بِهذه الأشياء ، وإنّما يُعذِّب بِما تَجاوز ذلك مما يتحكّم فيه الإنسان ، ويَملِك التصرّف فيه ، مِن ضَرْب خُدود ، وشَقّ جِيوب ، ونِيَاحة ، وحَلْق شَعر أو جَزِّه تسَخُّطا وجَزَعا .

وسيأتي حديث ابن مسعود رضي الله عنه ، وفيه : ليس مِـنَّا مَن لَطَم الْخُدُود ، وشَقّ الْجُيوب ، ودَعَا بِدَعْوى الجاهلية .

10 = جاء في روايات الحديث سَبَب إيرَاد أبي موسى للحديث ، وهو مَا رَواه البخاري ومسلم مِن طَريق أبي بُردة بن أبي موسى رضي الله عنه قال : وَجِع أبو موسى وَجَعًا ، فَغُشِي عليه ورأسه في حِجْر امْرأة من أهله ، فلم يَسْتَطِع أن يَرُدّ عليها شيئا ، فَلَمَّا أفَاق قال : أنا بَرِيء مِمَّن بَرِئ مِنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَرِئ مِن الصَّالِقَة والْحَالِقَة والشَّاقَّـة .
وفي رواية لِمُسْلِم : أُغْمِي على أبي موسى ، وأقْبَلَت امْرَأته أم عبد الله تَصِيح بِرَنَّـة ، ثم أفَاق ، قال : ألم تعلمي ؟ وكان يُحَدِّثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أنا بَرِيء مِمَّن حَلَق وسَلَق وخَرَق .

وهذا يُؤكِّد أنَّ الْمَيِّت يُعذَّب بِبُكاء الْحِيّ ، إذا كان ذلك مِن عادة أهله ، وكان يَراهم حال تَكليفه ولا ينهاهم عن ذلك .
ولذلك أنْكَر أبو موسى هنا ، وتبرأ مِمَّن تبرَّأ مِنه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد عقد الإمام البخاري بابًا ، فقال :
باب قَول النبي صلى الله عليه وسلم : " يُعَذَّب الْمَيت بِبَعْض بُكَاء أهْلِه عليه " إذا كان النَّوْح مِن سُنَّتِه ، لِقَول الله تَعَالى :( قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) ، وقَال النبي صلى الله عليه وسلم : " كُلُّكُم رَاعٍ ومَسؤول عن رَعِيَّتِه " فإذا لم يَكُن مِن سُنَّتِه فَهو كَمَا قَالتْ عَائشَة رَضي الله عَنها : (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) ، وهو كَقَولِه : (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ) ذُنُوبًا (إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ) ، ومَا يُرَخَّص مِن الـبُكَاء في غَير نَوْح ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تُقْتَل نَفْس ظُلْمًا إلاَّ كَان على ابنِ آدَم الأوَّل كِفْل مِن دَمِها ؛ وذلك لأنه أوَّل مَن سَنَّ القَتْل . اهـ .

وقوله رحمه الله : " فَهو كَمَا قَالتْ عَائشَة رَضي الله عَنها " أي : مِثل استدلال عائشة رضي الله عنها ، فإنها قد اسْتَدَلَّتْ بِهَذِه الآيَة على تَخْصِيص تَعْذِيب الْمَيِّت بِبُكَاء الْحَيّ بالْكَافِر .

والله تعالى أعلم .

 

عمدة الأحكام
  • كتاب الطهارة
  • كتاب الصلاة
  • كتاب الصيام
  • كتاب الحج
  • شرح العمدة
  • مـقـالات
  • بحوث علمية
  • محاضرات
  • فتاوى
  • الصفحة الرئيسية