اطبع هذه الصفحة


شرح أحاديث عمدة الأحكام
شرح الحديث الـ 201 في النهي عَن الْوِصَال

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

 
شرح الحديث الـ 201

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْوِصَالِ . قَالُوا : إنَّكَ تُوَاصِلُ . قَالَ : إنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ , إنِّي أُطْعَمَ وَأُسْقَى .
وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ .
وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه : فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ إلَى السَّحَرِ .

فيه مسائل :


1= معنى الوصال :
قال القاضي عياض : هو متابعة الصوم دون الإفطار بالليل .
وقال ابن الأثير : هو أن لا يُفْطِرَ يَوْمَيْن أو أيَّاما .

2= الحكمة من النهي عن الوصال :
أ – رحمة بهم ، وإبقاء عليهم ، وفي التنزيل : (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) .
وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت : نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رَحمة لهم . رواه البخاري ومسلم .
ب – النهي عن التعمّق والتكلّف .
قال الإمام البخاري : باب الوصال . ومَن قال ليس في الليل صيام لقوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) ، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه رحمة لهم وإبقاء عليهم ، وما يُكْرَه مِن الـتَّعَمُّق .
وفي حديث أنس رضي الله عنه : قال : وَاصَل النبي صلى الله عليه وسلم آخر الشهر ، وواصَل أناس مِن الناس ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لَوْ مُدَّ لَنَا الشَّهْرُ لَوَاصَلْنَا وِصَالاً يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ . رواه البخاري ومسلم .
جـ - لِمَا فيه مِن ضعف القوة ، وإنهاك الأبدان . قاله القرطبي .
د – دَفْع الْملل ، وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ! عَلَيْكُمْ مِنْ الَْعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا ، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دُووِمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ . رواه البخاري ومسلم .
ولَمَا نَهى عن الوصال صلى الله عليه وسلم قال : فَاكْلَفُوا مِنْ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ . رواه البخاري ومسلم مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
هـ - يُنهَى عن الوصال مِن أجل مُخالفة أهل الكتاب . ولذلك كانت أكلة السَّحَر مِما يُخالَف به أهل الكتاب .
و – لِمَا في الوصال مِن تضييع الحقوق والتقصير فيها ، وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يصوم النهار ويقوم الليل ، فلمّا زاره سلمان رضي الله عنه قال له سلمان : إن لربك عليك حقّا ، ولنفسك عليك حقّا ، ولأهلك عليك حقّا ، فأعطِ كل ذي حق حقّه ، فأتى أبو الدرداء النبيَّ صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدق سلمان . رواه البخاري . وسيأتي في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما .

3 = قول الصحابة رضي الله عنهم : " إنك تُواصِل " ليس فيه اعتراض ، وإنما هو سؤال واستفسار عن شأنه صلى الله عليه وسلم ، أنه يُواصِل وَيَنْهَى عن الوصال . لأنه صلى الله عليه وسلم كان قدوة لأصحابه ، وكان إذا أمرهم بأمر فَعَله ، وكان إذا أمرهم بأمر ابتدروا أمْرَه .
وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن الوصال ، ووصَال أناس منهم ، فإنه ليس معصية ولا على سبيل المنازعة له صلى الله عليه وسلم ، بل فهموا أن النهي ليس على سبيل المنع ، وإنما كان إبقاء عليهم .

قال القرطبي : واحتج مَن أجاز الوصال بأن قال : إنما كان النهي عن الوصال لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام ، فخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلفوا الوصال وأعلى المقامات ، فيفتروا أو يَضعفوا عَمَّا كان أنفع منه مِن الجهاد والقوة على العدو ، ومع حاجتهم في ذلك الوقت .
وكان هو يلتزم في خاصة نفسه الوصال وأعلى مقامات الطاعات ، فلما سألوه عن وصالهم أبْدَى لهم فارِقًا بينه وبينهم ، وأعلمهم أن حالته في ذلك غير حالاتهم ، فقال : " لَسْتُ مثلكم إني أبيت يُطعمني ربي ويَسقيني " .
فلما كَمُل الإيمان في قلوبهم واستحكم في صدورهم ورَسَخ ، وكَثُر المسلمون وظهروا على عدوهم ، واصل أولياء الله وألزموا أنفسهم أعلى المقامات . اهـ .

وقال ابن كثير : يحتمل أنهم كانوا يَفهمون مِن النهي أنه إرْشَاد ، أي : مِن باب الشفقة ، كما جاء في حديث عائشة : "رحمة لهم" . اهـ .

4 = حرص الصحابة رضي الله عنهم على الخير ، وإن كان فيه مشقّة .

5 = الخلاف في الوصال :
اخْتُلِف في حُكم الوصال على ثلاثة أقوال :
القول الأول : جائز مع الكراهة ، وحكمه باقٍ .
والقول الثاني : منهي عنه ، وهو منسوخ . وحُجة أصحاب هذا القول أن الليل ليس محلاًّ للصوم .
والجواب عنه ما قاله أبو الوليد الباجي : إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْوِصَالُ وَيَصِحُّ ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يُصَامُ زَمَنَ اللَّيْلِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ لِلنَّهَارِ ، فَأَمَّا أَنْ يُفْرَدَ بِالصَّوْمِ فَلا يَجُوزُ . اهـ .
والقول الثالث : أنه خاص بِرسول الله صلى الله عليه وسلم .

6 = الراجح في حُكم الوصال :
قال القرطبي : وعلى كراهية الوصال - ولِمَا فيه مِن ضعف القوى وإنهاك الابدان - جمهور العلماء .
وقد حَرَّمَه بعضهم لِمَا فيه من مخالفة الظاهر والتشبه بأهل الكتاب . اهـ .
وسبب الكراهية : ترك الإفطار ، وقد جاء الحثّ على تعجيل الإفطار ، وترك أكلة السحور التي جاء الحثّ عليها أيضا ، وما فيها من البركة .
فإن أدّى الوصال إلى ضرر فإنه مُحرّم .
وكان ابن الزبير رضي الله عنهما يُواصِل سبعة أيام .
وكان أبو الجوزاء يُواصِل سبعا . ولو قَبَض على ذراع الرجل الشديد لَحَطمها !

7 = الوصال الجائز ، هو ما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام : " فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ إلَى السَّحَرِ " .
قال القرطبي : قالوا : وهذا إباحة لتأخير الفطر إلى السَّحَر ، وهو الغاية في الوصال لمن أراده ، ومنع من اتصال يوم بيوم ، وبه قال أحمد وإسحاق . اهـ .

8 = يُؤجر الصائم على الوصال المشروع ، وإن كان الليل ليس محلاًّ للصوم ؛ لأن صيام الليل تَبَع لِصيام النهار .

9 = في حديث سهل بن سعد الحثّ على تعجيل الأفطار ، والوصال يُفوِّت ذلك . فكيف الجمع بينهما ؟
الجمع بينهما ، أن يُقال :
أ – حديث سهل هو الأصل ، وهو في حقّ أكثر الناس .
وحديث أبي سعيد في حالات مُستثناة ، وهو خلاف الأصل .
ب – حديث أبي سعيد لا يُعارِض ما في حديث سهل ؛ لأن من أراد الوصال لا يُخاطَب بتعجيل الإفطار .
جـ - تأخير الأفطار في حال الوصال لا يُراد منه الاحتياط والتنطّع ، وليس فيه شُبهة موافقة أهل الكتاب .
د – الوصال المشروع تأخير الإفطار إلى السحر ، بحيث يكون الإفطار والسحور في وقت واحد .

10 = جواز التعزير على مُخالفة أمر الإمام ورئيس القوم إذا كان الأمر لمصلحتهم .
فإن النبي صلى الله عليه وسلم نَكّل بأصحابه – فواصل بهم – كالْمُنكِّل بهم .
ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه : فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال ، واصَل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال ، فقال : لو تأخر لَزِدْتكم ، كالْمُنَكِّل بهم حين أبَوا . رواه البخاري ومسلم .
وفي حديث أنس رضي الله عنه : قال : وَاصَل النبي صلى الله عليه وسلم آخر الشهر ، وواصَل أناس مِن الناس ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لَوْ مُدَّ لَنَا الشَّهْرُ لَوَاصَلْنَا وِصَالاً يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ . رواه البخاري ومسلم .

11 = " إنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ " حُمِل على قوّة تحمّله عليه الصلاة والسلام . وما اختُصّ به عليه الصلاة والسلام .

12 = " إنِّي أُطْعَمَ وَأُسْقَى " ليس على حقيقته .
قال ابن كثير : الأظهر أن ذلك الطعام والشراب في حقه إنما كان معنويًّا لا حِسيًّا ، وإلا فلا يكون مُواصِلاً مع الحسي . اهـ .
وقال ابن حجر : وقال الجمهور : قوله : " يطعمني ويسقيني " مجاز عن لازِم الطعام والشراب ، وهو القوة ، فكأنه قال : يعطيني قوة الآكِل والشارِب ، ويُفيض عليّ ما يَسِدّ مَسَدّ الطعام والشراب ، ويَقْوَى على أنواع الطاعة من غير ضعف في القوة ولا كِلال في الإحساس . أو المعنى : إن الله يخلق فيه مِن الشبَع والرّيّ ما يغنيه عن الطعام والشراب ، فلا يحس بجوع ولا عطش . اهـ .
وحُمِل على اكتفائه صلى الله عليه وسلم بالذِّكر في حال الوصال .
قال ابن القيم عن الذِّكْر : قُوت القلب والروح ، فإذا فقده العبد صار بِمَنْزِلة الجسم إذا ِحيل بينه وبين قُوتِه ، وحَضَرْت شيخ الإسلام ابن تيمية مَرَّة صَلَّى الفجر ، ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب مِن انتصاف النهار ، ثم التفتَ إليّ ، وقال : هذه غَدْوَتي ، ولو لم أتَغَدّ الغداء سقطت قوتي ، أو كلاما قريبا من هذا . اهـ .

13 = الأحاديث التي أشار إليها المصنف رحمه الله ، مُخرّجة في الصحيحين .

14 = قول المصنف : " وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ " هذه الرواية ليست عند مسلم ، وقد رواها البخاري بلفظ : لا تُواصِلوا ، فأيكم إذا أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر .

وبالله التوفيق .


 

عمدة الأحكام
  • كتاب الطهارة
  • كتاب الصلاة
  • كتاب الصيام
  • كتاب الحج
  • شرح العمدة
  • مـقـالات
  • بحوث علمية
  • محاضرات
  • فتاوى
  • الصفحة الرئيسية