شرح الحديث الـ 210
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ .
فَاعْتَكَفَ عَامًا , حَتَّى إذَا كَانَتْ لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ -
وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنْ اعْتِكَافِهِ -
قَالَ : مَنْ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَعْتَكِفْ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ فَقَدْ
أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ . ثُمَّ أُنْسِيتُهَا , وَقَدْ رَأَيْتُنِي
أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ مِنْ صَبِيحَتِهَا . فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ
الأَوَاخِرِ . وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ .
فَمَطَرَتِ السَّمَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ . وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ
. فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ , فَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم وَعَلَى جَبْهَتِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ مِنْ صُبْحِ إحْدَى
وَعِشْرِينَ .
فيه مسائل :
1 = " كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ " ، لا يعني
هذا أنه لم يعتكف ما قبل ذلك ؛ لأن ذِكْر ما قبل ذلك مَطويّ في هذه الرواية ،
ففي رواية للبخاري :
قال : اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر الأول مِن رمضان واعتكفنا معه ،
فأتاه جبريل فقال : إن الذي تطلب أمامك ! فاعتكف العشر الأوسط فاعتكفنا معه ،
فأتاه جبريل فقال : إن الذي تطلب أمامك ! فقام النبي صلى الله عليه وسلم
خَطِيبًا صبيحة عشرين مِن رمضان فقال : مَن كان اعتكف مع النبي صلى الله عليه
وسلم فليرجع ، فإني أريت ليلة القدر ، وإني نسيتها ، وإنها في العشر الأواخر في
وِتْر ، وإني رأيت كأني أسجد في طين وماء ، وكان سقف المسجد جريد النخل ، وما
نَرَى في السماء شيئا ، فجاءت قَزَعَة فأُمْطِرنا ، فَصَلى بنا النبي صلى الله
عليه وسلم حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأرنبته ، تصديق رؤياه .
ولذلك كان آخر الأمر منه عليه الصلاة والسلام أنه يعتكف العشر الأواخر مِن
رمضان حتى توفّاه الله . كما في حديث عائشة رضي الله عنها .
2 = وفي رواية للبخاري : والْتَمِسُوها في كل وِتر ، فَمَطَرت السماء تلك
الليلة ، وكان المسجد على عريش ، فَوَكَف المسجد ، فَبَصُرت عيناي رسول الله
صلى الله عليه وسلم على جبهته أثر الماء والطين مِن صُبح إحدى وعشرين .
3 = تأكيد إخفاء ليلة القدر ، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف مِن
كُلّ رَمضان الْتِمَاسًا لها .
4 = سبق بيان سبب إخفاء ليلة القدر في حديث ابن عمر السابق .
ونسيان تعيين ليلة القدر لا تأثير له على البلاغ ، بل هو لِحكمة ظاهرة ، فقد
أخفاها الله كما أخفى ساعة الجمعة ، وقد ذَكَر ابن حجر أربعين قولا في تعيين
ساعة الجمعة .
قال ابن حجر في مسألة أخرى : وفيه دليل على جواز وقوع السهو مِن الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام في الأفعال . قال ابن دقيق العيد : وهو قول عامة العلماء
والنظار . اهـ .
5 = تواضعه عليه الصلاة والسلام في سجوده على الماء والطين ، وليس فيه دليل على
وُجوب مُباشرة الأرض ؛ لأنه خبر عن حال ، وليس أمرًا .
قال أبو عبد الله [البخاري] : كان الحميدي يحتج بهذا الحديث ، إلاَّ يمسح
الجبهة في الصلاة ، بل يمسحها بعد الصلاة ، لأن النبي رُئي الماء في أرنبته
وجبهته بعد ما صلى . ذَكَره ابن رجب رحمه الله .
6 = مِن صبيحتها : يعني : في صلاة الفجر ، وهذه علامة يُستأنس بها لِمن قام
ليلة القدر ، وهي مثل طلوع الشمس من غير شعاع .
= " فَمَطَرَتِ السَّمَاءُ " لا يتعارض مع حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله
عنه مرفوعا : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ؛ فأما من قال مطرنا بفضل الله
ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال : مُطِرْنا بنوء كذا وكذا فذلك
كافر بي مؤمن بالكوكب . رواه البخاري ومسلم .
لأن هذا مِن نِسْبَة المطر إلى جهة نُزُوله ، وما في حديث زيد بن خالد مِن
نِسْبَة الفِعل إلى الأنواء .
7 = " قوله : " وَكَف المسجد " ، أي : قَطَر سقفه بالماء ، وأوكف أيضا . قاله
القاضي عياض .
وقال العيني في شرح أبي داود : قوله : " فوكَف المسجد " بفتح الكاف ، أي : قَطر
ماء المطر مِن سقفه .
8 = بساطة بناء مسجده صلى الله عليه وسلم .
ومع ذلك كان مُنطلَقًا للدعوة والجهاد .
9 = فيه دليل على تنقّل ليلة القدر بين ليالي الوتر . وهو قول الجمهور .
قال الحافظ العراقي : وذهب جماعة من العلماء إلى أنها تنتقل ، فتكون سنة في
ليلة ، وسنة في ليلة أخرى وهكذا ، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي قلابة ،
وهو قول مالك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وغيرهم .
اهـ .
10 = ذَكَر الحافظ العراقي في تعيين ليلة القدر ثلاثة وثلاثين قولا . وقد سبقت
الإشارة إليه .
11 = كان السلف يجتهدون في العشر الأواخر ، ويتحرّون ليلة القدر ، ويستعدّون
لها .
وبالله تعالى التوفيق .
|