اطبع هذه الصفحة


شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث الـ 224 في حرمة صيد الحرم ولقطته وشوكه

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

 

ح 224

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ – : لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ , وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ . وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا .
وَقَالَ : يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ : إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأَحَدٍ قَبْلِي , وَلَمْ يَحِلَّ لِي إلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ؛ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ , وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ , وَلا يَلْتَقِطُ لُقْطَتَهُ إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا ، وَلا يُخْتَلَى خَلاهُ .
فَقَالَ الْعَبَّاسُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إلاَّ الإِذْخِرَ ، فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ . فَقَالَ: إلاَّ الإِذْخِرَ .
القَينُ : الحَدَّاد .

في الحديث مسائل :

1= قوله : " لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ "
هل يتعارض هذا مع قوله عليه الصلاة والسلام : لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
ومثله قوله عليه الصلاة والسلام لمجاشع بن مسعود رضي الله عنه : مَضَتِ الهجرة لأهلها . رواه البخاري .
وفي رواية له : ذَهَبَ أهل الهجرة بما فيها .
لا تَعارُض بينهما ، لأن الأول بخصوص مكة ، أي لا هَجرَة بعد فتح مكة .
والثاني عام في بقاء حُكم الهجرة ، من بلد الكُفر إلى بلد الإسلام ، ومن بلد البدعة إلى بلد السنة ، ومن بلد المعصية إلى بلد الطاعة .
قال ابن عبد البر : معناه لا هجرة تُبْتَدأ بعد الفتح مُفترضة ، لا على أهل مكة ولا على غيرهم . اهـ .
وقال النووي : قال أصحابنا وغيرهم من العلماء : الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام باقية إلى يوم القيامة وتأوّلوا هذا الحديث تأويلين :
أحدهما : لا هجرة بعد الفتح من مكة ، لأنها صارت دار إسلام ، فلا تُتَصَوّر منها الهجرة .
والثاني : - وهو الأصح - أن معناه أن الهجرة الفاضلة المهمّة المطلوبة التي يمتاز بها أهلها امتيازا ظاهرا انقطعت بفتح مكة ، ومَضَتْ لأهلها الذين هاجروا قبل فتح مكة ، لأن الإسلام قوي وعَزّ بعد فتح مكة عزا ظاهرا ، بخلاف ما قبله . اهـ .
ويَعضد القول الثاني ما جاء في حديث مُجاشع بن مسعود رضي الله عنه ، وفيه : ذَهَبَ أهل الهجرة بما فيها .

2= قوله : " وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ "
وهذا موافِق لِقوله عليه الصلاة والسلام لمجاشع بن مسعود رضي الله عنه .
روى البخاري من حديث مجاشع رضي الله عنه قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وأخي ، فقلت : بَايِعْنَا على الهجرة . فقال : مَضَتِ الهجرة لأهلها . فقلت : عَلامَ تُبَايِعُنا ؟ قال : على الإسلام والجهاد . رواه البخاري .
قال النووي : " ولكن جهاد ونية " معناه أن تحصيل الخير بسبب الهجرة قد انقطع بفتح مكة ، ولكن حَصِّلُوه بالجهاد والنية الصالحة . وفى هذا الحثّ على نِيّـة الخير مُطلقا ، وأنه يثاب على الـنِّـيَّـة .

3= قوله صلى الله عليه وسلم :" وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا " معناه : إذا طلبكم الإمام للخروج إلى الجهاد فاخرجوا . وهذا دليل على أن الجهاد ليس فرض عين ، بل فرض كفاية إذا فعله من تحصل بهم الكفاية سَقَطَ الْحَرَج عن الباقين ، وإن تركوه كلهم أثِمُوا كلهم . قال أصحابنا : الجهاد اليوم فرض كفاية ، إلا أن يَنْزِل الكفار بِبَلَد المسلمين ، فَيَتَعَيّن عليهم الجهاد ، فإن لم يكن في أهل ذلك البلد كفاية وَجَبَ على من يليهم تَتْمِيم الكفاية . قاله النووي .

4= في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال : قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ .
وفي حديث أبي شُريحٍ السابق " الْغَد مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ " .
فهل كانت خطبته صلى الله عليه وسلم في يوم الفتح أو في اليوم الثاني ؟
لا تَعارُض بين الحديثين ، لأن فَتح مكة يُسمّى به اليوم الذي دَخَل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ، وتُسمّى به تلك الأيام التي أقامها النبي صلى الله عليه وسلم في مكة بعد الفتح ، ويُسمّى به العام ، ومنه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخَل عام الفتح وعلى رأسه المغفر . رواه البخاري ومسلم . وسيأتي شرحه .
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يَخطُب أول يود دَخَل مكة ، وإنما خَطَب في اليوم الثاني من دخوله ، فأبو شُريح رضي الله عنه قاله على وجه الدقّة ، وابن عباس على وجه الإجمال .

5= هل تحريم مكة كان في زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو كان قبل ذلك ؟
تحريم مكة كان قبل ذلك – كما سيأتي – .
وقد يقول قائل : ما فائدة تحريم النبي صلى الله عليه وسلم لها مع كونها مُحرّمة من زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ومع كون ذلك مُستَقِرّاً عند العرب قبل الإسلام ؟
فالجواب عنه : أن ذلك للتأكيد على حُرمة مكة ، وعلى حُرمة سَفك الدم فيها ، وقَطع شوكها ... - إلى غير ذلك مما سيأتي بيانه - .
وتضمّن ذلك إزالة شُبهة ، وهي قد يقول قائل ، أو يَحتَجّ مُحتَجّ بِقتال النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح .

6= هل إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو الذي حَرَّم مكة ؟
في الحديث : " أن إبراهيم حَرّم مكة " .
وفي الحديث أيضا : " إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى , وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ "
وفي التنْزِيل : (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا) .
كيف الجمع بينهما ؟
الجواب :
مِن الأحاديث الدّالة على أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حرّم مكة : حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم حَرّم مكة ، ودعا لها ، وحَرّمتُ المدينة كما حَرّم إبراهيم مكة ، ودعوت لها في مُدّها وصَاعها مثل ما دعا إبراهيم عليه السلام لمكة . رواه البخاري ومسلم .
ومِن الأحاديث التي تدلّ على أن الله حرّم مكة : حديث أبي شريح العدوي رضي الله عنه – حديث الباب –
وفي رواية للبخاري : إن الله حَرَّم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة لم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي ، ولم تحلل لي إلا ساعة من الدهر .

والجمع بين هذه الأحاديث ، والتوفيق بينها أن يُقال :
إن الله هو الذي حرّم مكة ، وجَعَلها حراماً إلى يوم القيامة .
وإبراهيم عليه الصلاة والسلام أول من بنى البيت ، كما هو معلوم ، فتكون من هذا الباب نسبة التحريم إليه، وإلاّ فمن المعلوم أن الأنبياء لا يُحرِّمون مِن قِبَل أنفسهم .
ويكون إبراهيم عليه السلام هو أول من أُوحِي إليه تحريم البيت ، أي بعد بنائه للبيت .
فتكون نسبة التحريم إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام .
وأصل التحريم من الله تبارك وتعالى .
فإن من المعلوم بداهة أن التحليل والتحريم تشريع ، وهو من الله ابتداءً .
ويُقال مثل ذلك في اللعن .
فإن في بعض الأحاديث لعن الله ، وفي بعضها لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد يكون في الشيء الواحد ، كما في حديث ابن مسعود – المتّفقِ عليه – ، وفي أوله قال : لَعَنَ الله الواشمات ، والموتشمات ، والمتنمصات ، والمتفلِّجات للحُسن ، المغيرات خلق الله . فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب ، فجاءت فقالت : إنه بلغني أنك لَعَنْتَ كَيْتَ وكَيْت ؟ فقال : ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ الحديث .
فالشاهد من ذلك أن ابن مسعود رضي الله عنه نَسَب اللعن ابتداء إلى الله ، ثم لما رُوجِع قال : ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
فابتداء التشريع من الله ، وقد يُنسب إلى مَن جاء به .
أو يُنسب إلى أول من عمِل به .
كما يُقال : فعل الأمير كذا .
وقد لا يكون للأمير إلا إصدار الأمر .
وهذا جائز في اللغة ، ولذا جاءت اللغة العربية بالتوكيد والمؤكِّدات .
فإذا قلت : جاء الأمير فيُحتمل أنك تريد رسوله أو أمره أو بعض حاشيته ، ونحو ذلك .
لكنك عندما تقول : جاء الأمير بنفسه ، فقد أكّدت قولك بأنك لا تعني سواه .
فعلى هذا لا يكون هناك إشكال في إضافة تحريم مكة إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأنه أول من جاء به وعمِل به .
ولا إشكال في إضافته لله لأن الله تبارك وتعالى هو الذي أمَرَ به وشَرَعه .
كما تقول : ناقة الله ، وتقول : ناقة قوم صالح .

قال ابن عطية في تفسيره : ولا تعارُض بين الحديثين ، لأن الأول إخبار بسابِق علم الله فيها وقضائه وكون الْحُرْمَة مُدة آدم وأوقات عمارة القُطر بإيمان .
والثاني إخبار بتجديد إبراهيم لحرمتها وإظهاره ذلك بعد الدثور .
وكل مقال من هذين الإخْبَارَين حسن في مقامه . عَظَّم الحرمة ثاني يوم الفتح على المؤمنين بإسناد التحريم إلى الله تعالى ، وذَكَر إبراهيم عند تحريمه المدينة مثالاً لنفسه ، ولا محالة أن تحريم المدينة هو أيضا من قِبَلِ الله تعالى ومْنْ نافِذ قضائه وسابِق علمه . اهـ .
وقول ابن عطية " بعد الدثور " أي بعد الاندثار .

وقال القرطبي في تفسير سورة البقرة : اخْتَلَف العلماء في مكة هل صارت حرما آمنا بسؤال إبراهيم ، أو كانت قبله كذلك ؟
على قولين :
أحدهما : أنها لم تزل حَرَماً من الجبابرة المسلطين ومن الخسوف والزلازل ، وسائر المثُلات التي تَحِلّ بالبلاد وجعل في النفوس المتمردة من تعظيمها والهيبة لها ما صار به أهلها متميزين بالأمن من غيرهم من أهل القرى ، ولقد جَعَل فيها سبحانه من العلامة العظيمة على توحيده ما شُوهِد من أمْرِ الصيد فيها ، فيجتمع فيها الكلب والصيد فلا يُهَيّج الكلب الصيد ، ولا يَنْفُر منه ، حتى إذا خَرَجَا من الحرم عَدا الكلب عليه ، وعاد إلى النفور والهرب . وإنما سأل إبراهيم ربه أن يجعلها أمْناً من القحط والجدب والغارات وأن يرزق أهله من الثمرات ...
الثاني : أن مكة كانت حلالا قبل دعوة إبراهيم عليه السلام كسائر البلاد ، وأن بدعوته صارت حَرما آمنا كما صارت المدينة بتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمنا بعد أن كانت حلالا .
احتج أهل المقالة الأولى بحديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : إن هذا البلد حَرّمه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة ...

وقال ابن كثير رحمه الله :
فإذا عُلِمَ هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث الدالة على أن الله حَرَّم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، وبين الأحاديث الدالة على أن إبراهيم عليه السلام حَرَّمها ؛ لأن إبراهيم بَلَّغَ عن الله حُكْمَه فيها ، وتحريمه إياها ، وأنها لم تَزَل بَلداً حَراما عند الله قبل بناء إبراهيم عليه السلام لها . اهـ .

7= قوله : " فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " تحريم مكة فيما ذُكِر ، من تحريم القِتال فيه ، وقطع شوكِه وشَجَره النابت بغير فِعل الإنسان ، وتنفير صيده ، واصطياد صيده . بالإضافة إلى تعظيم الْحَرَم .
وأما من قال : إن التحريم أن لا يَدخلها أحد إلا بإحرام فضعيف ، يُضعِّفَه فِعله عليه الصلاة والسلام وفِعل بعض أصحابه .
فالنبي صلى الله عليه وسلم دَخَل مكة عام الفتح وعلى رأسه الْمِغْفَر ، كما سيأتي في حديث أنس .
ومن أصحابه من دَخَل مكة بغير إحرام في حجة الوداع .
قال تعالى : (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا)
قال ابن كثير : أي الذي إنما صَارَتْ حَرَاماً شَرْعاً وقَدَراً بتحريمه لها .

8= قوله : " لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ " أي لا يجوز قطع شَوك الْحَرَم ، والمقصود الشجر النابت من غير فِعل الإنسان
والعضْد هو القَطْع ، ومنه قول ابن مسعود رضي الله عنه : ليتني شجرة تُعْضَد . رواه ابن أبي شيبة . وجاء مثله عن أبي بكر رضي الله عنه وعن أبي ذرّ رضي الله عنه .
قال ابن حجر : قال القرطبي : خَصّ الفقهاء الشجر المنهي عن قطعه بما يُنبته الله تعالى من غير صنع آدمي . فأما ما يَنبت بمعالجة آدمي فاخْتُلِف فيه ، والجمهور على الجواز .
وقال الشوكاني : وقد ورد الترخيص في الإذخر ، وفي عَلَف الدواب منها ، فهذان الصِّنْفَان هما المستثنيان من النبات النابت في الْحَرَم ، وأما الشجر المؤذي فلم يَرِد دليل يدل على الترخيص فيه ، لكن إذا كان نَابِتاً في الطريق مثلا على وجه لا يمكن المرور إلا بحصول ضَرر منه ، فقواعد الشريعة تَدُلّ على جواز قطع ما كان ضارا، وقد جاز قتل الحيوان لِضَرَرِه ، فكيف لا يجوز قطع النبات ؟ وما ورد في رواية بلفظ لا يُعْضَد شوكها فمحمول على ما يمكن الْمُحْرِم تَجَنّبه إلا إذا ألَحَّتْ الضرورة إلى المرور عليه والوقوف فوقه ، فإنّ قَطْعَه لدفع ضرره أوْلى من تركه مع حصول الضرر منه ، وقد أَذِنَ صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة أن يحلق رأسه لضرر ما فيه من القمل . اهـ .
قال ابن حجر : وأجازوا قطع الشوك لكونه يؤذى بطبعه ، فأشبه الفَواسق ، ومَنَعَه الجمهور . اهـ .

9= قوله : " وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ "
في رواية البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله حَرَّمَ مكة ولم تحل لأحد قبلي ولا لأحد بعدي ، وإنما حَلّتْ لي ساعة من نهار ، لا يْخْتَلى خلاها ، ولا يُعْضَد شجرها ، ولا يُنَفَّر صيدها ، ولا يلتقط لقطتها إلا لْمُعَرِّف . وقال عباس بن عبد المطلب : إلا الإذخر لصاغتنا ولِسُقُفِ بيوتنا . فقال : إلا الإذخر .
فقال عكرمة : هل تدري " ما يُنَفَّر صيدها " ؟ هو أن تُنَحِّيه من الظلّ وتَنْزِل مكانه .
قال عبد الوهاب : عن خالد : لصاغتنا وقبورنا .
وعبد الوهاب هو ابن عبد المجيد الثقفي . وخالد هو الحذَّاء .
قيل نَـبّـه عكرمة بذلك على المنع من الإتلاف وسائر أنواع الأذى تنبيها بالأدنى على الأعلى ، وقد خالف عكرمة عطاء ومجاهد ، فقالا : لا بأس بِطَرْدِه ما لم يُفْضِ إلى قتله . أخرجه بن أبي شيبة .
وروى بن أبي شيبة أيضا من طريق الحكم عن شيخ من أهل مكة أن حَمَاماً كان على البيت فَذَرَق على يَدِ عمر فأشار عمر بيده فطار فوقع على بعض بيوت مكة ، فجاءت حية فأكلته ، فَحَكَم عمر على نفسه بِشَاة . وروى من طريق أخرى عن عثمان نحوه . أفاده ابن حجر .
وقال في التلخيص الحبير : حديث عمر أنه أوْجَبَ في الحمامة شاة ، وعن عثمان مثله : الشافعي من طريق نافع بن عبد الحارث قال : قَدِمَ عُمر مكة فدخل دار الندوة يوم الجمعة فألقى رداءه على واقف في البيت ، فوقع عليه طير فخشي أن يَسْلَح عليه فأطاره ، فوقع عليه ، فانتهرته حية فقتلته ، فلما صلى الجمعة دَخَلْتُ عليه أنا وعثمان فقال : احْكُما عليّ في شيء صنعته اليوم - فذكر لنا الْخَبَر - قال : فقلت لعثمان : كيف ترى في عَنْز ثنية عفراء ؟ قال : أرى ذلك ، فأمر بها عمر . إسناده حسن ، ورواه بن أبي شيبة عن غندر عن شعبة عن شيخ من أهل مكة أن عمر - فَذَكَره مُرْسَلا مُبْهَما . اهـ .
ومن طريق الشافعي رواه البيهقي في السنن الكبرى .

10= وَلا يَلْتَقِطُ لُقْطَتَهُ إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا "
قال ابن دقيق العيد : اللقطة - بإسكان القاف ، وقد يقال بِفتحها - الشيء الملتقط .
وذهب الشافعي إلى أن لقطة الْحَرَم لا تُؤخذ للتملك ، وإنما تؤخذ لِتُعَرّف لا غير .
وذهب مالك إلى أنها كغيرها في التعريف والتملك . ويُسْتَدَلّ للشافعي بهذا الحديث . اهـ .

11= وَلا يُخْتَلَى خَلاهُ .
والخلى - بفتح الخاء والقصر - الحشيش إذا كان رطبا ، واختلاؤه قطعه . قاله ابن دقيق العيد .
وقال الكمال ابن الهمام في فتح القدير : فالْخَلى هو الرَّطب من الكلا ، وكذا الشجر اسم للقائم الذي بحيث ينمو ، فإذا جَفّ فهو حطب ، والشوك لا يعارضه ، لأنه أعَمّ يُقال على الرطب والجاف ، فليحمل على أحد نوعيه دفْعَاً للمعارَضة ، وأما الذي نَبَت من غير أن ينبته الناس وهو من جنس ما ينبتونه ، فلا أدرى ما المخرج له غير أن المصنف عَلّل إخراج أهل الإجماع ما يُنْبِته الناس بأن إنباتهم يقطع كَمَال النسبة إلى الْحَرَم . اهـ .

12= فَقَالَ الْعَبَّاسُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إلاَّ الإِذْخِرَ ، فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ . فَقَال : إلاَّ الإِذْخِرَ "
قال ابن دقيق العيد : والإذخر نَبْتٌ معروف طيب الرائحة . اهـ .
وقال أيضا : وقوله : " فإنه لِقَيْنِهم " الْقَين الْحَدّاد ، لأنه يحتاج إليه في عمل النار . وبيوتهم تحتاج إليه في التسقيف .
وقوله عليه السلام : " إلا الإذخر " على الفور تَعَلّق به من يرى اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم ، أو تفويض الحكم إليه من أهل الأصول .
وقيل : يجوز أن يكون يُوحى إليه في زمن يسير ، فإن الوحي إلقاء في خُفية ، وقد تظهر أماراته وقد لا تظهر . اهـ .

والله تعالى أعلم .

 

عمدة الأحكام
  • كتاب الطهارة
  • كتاب الصلاة
  • كتاب الصيام
  • كتاب الحج
  • شرح العمدة
  • مـقـالات
  • بحوث علمية
  • محاضرات
  • فتاوى
  • الصفحة الرئيسية