اطبع هذه الصفحة


شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث الـ 238 في دخول مكة من غير إحرام

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

 
ح 238

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ , وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ، فَقَالَ : اُقْتُلُوهُ .

فيه مسائل :

1= هذا الحديث حقّه التقديم في الباب الذي قبله ، أو ما قبله ، إلاّ أن يكون المصنف رحمه الله قصَد ما جاء في أوّل الحديث من دُخول مكة عام الفتح .

2= تبويب المصنف رحمه يُقصد به كيفية دُخول مكة ، وهل يجوز دخولها من غير إحرام ؟

3= دخول النبي صلى الله عليه وسلم لمكة وعلى رأسه المغْفَر ، هذا يعني أنه دَخَل حلالاً من غير إحرام .

4= جواز دُخول مكة من غير إحرام ، لأن العبرة بِعموم النص لا بخصوص السبب .

5= جواز قَتْل المفسد والجاني . وتقدّم ما في المسألة من كلام في حديث أبي شريح رضي الله عنه .
قال ابن عبد البر : كان هذا كله من رسول الله بمكة في الساعة التي حُلّت له من ذلك النهار ، ثم هي حرام إلى يوم القيامة . اهـ .

6= سبب قَتْل ابن خَطَل ؟
كان قد أسلَم وهاجر واستكتبه النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم كَفَر ولَحِق بِمكة .
وروى أنس أن ابن خطل كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشِّعْر . وضعّف ذلك ابن عبد البر ؛ فقال : ولو كانت العلة في قتله ... ما ترك منهم من كان يَسبه ، وما أظن أحدا منهم امتنع في حين كفره ومحاربته له مِن سَـبِّـه .
وذَكَر ابن عبد البر " أن ابن خطل كان قد قَتل رجلا من الأنصار مسلما ثم ارتد كذلك . ذكر أهل السير وهذا يُبيح دَمه عند الجميع " .
قال : أما قتل عبد الله بن خطل فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان عَهد فيه أن يَقتل وإن وُجد مُتعلقا بأستار الكعبة ؛ لأنه ارتدّ بعد إسلامه ، وكَفر بعد إيمانه ، وبعد قراءته القرآن ، وقتل النفس التي حرّم الله ، ثم لحق بدار الكفر بمكة ، واتخذ قَينتين يُغنيانه بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم . اهـ .
فلهذه الأسباب أمَر النبي صلى الله عليه وسلم بِقتله ولو كان مُتعلِّقا بأستار الكعبة .
ونَقل عن ابن إسحاق قوله : وإنما أمَر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله ؛ لأنه بعثه مُصَّدِّقا ، وكان مسلما ، وبعث معه رجلا من الأنصار ، وكان معه مولى له يخدمه ، وكان مسلما ، فَنَزَل ابن خطل مَنْزِلاً وأمر المولى أن يذبح له تيسًا ، ويصنع له طعاما ، فنام واستيقظ ولم يصنع له شيئا ، فعدا عليه فقتله ، ثم ارتد مشركا . اهـ .

7= قُتِل ابن خَطَل وقُتِل غيره ، فقد روى النسائي من حديث سَعْدٍ بن أبِي وقّاص رضي الله عنه ، قَال : لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ ، إِلاَّ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ ، وَامْرَأَتَيْنِ ، وَقَالَ : اقْتُلُوهُمْ ، وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ، عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِى جَهْلٍ ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ خَطَلٍ ، وَمَقِيسُ بْنُ صُبَابَةَ ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِى السَّرْحِ .
فَأَمَّا عَبْدُ اللهِ بْنُ خَطَلٍ ، فَأُدْرِكَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ، فَاسْتَبَقَ إِلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ ، فَسَبَقَ سَعِيدٌ عَمَّارًا ، وَكَانَ أَشَبَّ الرَّجُلَيْنِ ، فَقَتَلَهُ ، وَأَمَّا مَقِيسُ بْنُ صُبَابَةَ ، فَأَدْرَكَهُ النَّاسُ فِى السُّوقِ ، فَقَتَلُوهُ . وَأَمَّا عِكْرِمَةُ ، فَرَكِبَ الْبَحْرَ ، فَأَصَابَتْهُمْ عَاصِفٌ . فَقَالَ أَصْحَابُ السَّفِينَةِ : أَخْلِصُوا فَإِنَّ آلِهَتَكُمْ لاَ تُغْنِى عَنْكُمْ شَيْئًا هَا هُنَا . فَقَالَ عِكْرِمَةُ : واللهِ لَئِنْ لَمْ يُنَجِّنِى مِنَ الْبَحْرِ إِلاَّ الإِخْلاَصُ لاَ يُنَجِّينِى فِى الْبَرِّ غَيْرُهُ ، اللَّهُمَّ إِنَّ لَكَ عَلَىَّ عَهْدًا ، إِنْ أَنْتَ عَافَيْتَنِى مِمَّا أَنَا فِيهِ ، أَنْ آتِىَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، حَتَّى أَضَعَ يَدِى فِى يَدِهِ ، فَلأَجِدَنَّهُ عَفُوًّا كَرِيمًا ، فَجَاءَ فَأَسْلَمَ ، وَأَمَّا عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِى السَّرْحِ ، فَإِنَّهُ اخْتَبَأَ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، فَلَمَّا دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ ، جَاءَ بِهِ ، حَتَّى أَوْقَفَهُ عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، بَايِعْ عَبْدَ اللهِ . قَالَ : فَرَفَعَ رَأْسَهُ ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلاَثًا ، كُلَّ ذَلِكَ يَأْبَى ، فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلاَثٍ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ : أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ، يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْثُ رَآنِى كَفَفْتُ يَدِى عَنْ بَيْعَتِهِ فَيَقْتُلَه ؟ فَقَالُوا : وَمَا يُدْرِينَا يَا رَسُولَ اللهِ مَا فِى نَفْسِكَ ، هَلاَّ أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَيْنِكَ . قَالَ : إِنَّهُ لاَ يَنْبَغِى لِنَبِىٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ أَعْيُنٍ .

8= فإن قيل : في حديث أنس – حديث الباب – ذَكَر ابن خطل ، وفي حديث سَعْدٍ هذا ذَكَر أربعة رجال وَامْرَأَتَيْن . فكيف يُجمع بينهما ؟
يُقال : كُلّ حدّث بِما سَمِع ، فلعل أنسًا رضي الله عنه سمِع الأمر بِقتل ابن خطل ، وسعد سمع الأمر بِقتل الأربعة المرأتين .

9= اسْتَدَلّ به من يرى حتمية قَتْل من سبّ النبي صلى الله عليه وسلم .
ومنع منه ابن عبد البر ؛ لأن القياس لا يصح . حيث قال : وهذا لا يجوز عند أحدٍ علمته من العلماء أن يَقيس الذمي على الحربي ؛ لأن ابن خطل في دار حرب كان ولا ذِمّة له ، وقد حكم الله عز وجل في الحربي إذا قَدَر عليه بتخير الإمام فيه ، إن شاء قتله ، وإن شاء مَنّ عليه ، وإن شاء فدى به ، فلهذا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن خطل وغيره ممن أراد منهم قَتله . اهـ .
قال ابن عبد البر : وقد اختلف الفقهاء في الذي يسبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم ذَكَر الخلاف ، فليُراجَع في " التمهيد " . وفي " اقتضاء الصراط المستقيم " لابن تيمية بسْط للمسألة .

10= الْمِغْفَر : ما يُلبس على الرأس لوقايته في الحرب . وتُسمّى " الْخُوذة " .
قال أبو عُبيد : سمي المغْفَر لأنه يَغفر الرأس - أي : يَلبسه ويُغطيه .
وقال ابن الأثير : هو ما يَلْبَسُه الدَّارِعُ على رأسه من الزَّرَدِ ونَحوه .

11= وفي حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ . رواه مسلم . وفي رواية له : وعليه عمامة سوداء بغير إحرام . وَفِي رِوَايَة : خَطَبَ النَّاس وَعَلَيْهِ عِمَامَة سَوْدَاء .
فكيف الْجَمْع بينهما ؟
قَالَ الْقَاضِي : وَجْه الْجَمْع بَيْنهمَا : أَنَّ أَوَّل دُخُوله كَانَ عَلَى رَأْسه الْمِغْفَر ، ثُمَّ بَعْد ذَلِكَ كَانَ عَلَى رَأْسه الْعِمَامَة بَعْد إِزَالَة الْمِغْفَر ، بِدَلِيلِ قَوْله : " خَطَبَ النَّاس وَعَلَيْهِ عِمَامَة سَوْدَاء " ؛ لأَنَّ الْخُطْبَة إِنَّمَا كَانَتْ عِنْد بَاب الْكَعْبَة بَعْد تَمَام فَتْح مَكَّة . ذَكَره النووي .
وقال ابن عبد البر : قد يُمكن أن يكون على رأسه عمامة سوداء وعليها المغفَر ، فلا يتعارض الحديثان . اهـ .
والقول الأول أقوى ، فقد جاء في حديث أنس : " وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ ، فَلَمَّا نَزَعَهُ ..." ، فهذا يدلّ على أنه لبس المغفر أولاً ثم نَزَعه .

12= جواز التمسّك بأستار الكعبة دون التمسّح بها ، وفَرْق بين الأمرين :

أما التمسّك بأستار الكعبة ، فهو كَحَال المستجير بِمن يخافه ، فيُمسك بأطراف أثوابه ، وكان التعلّق معروفاً ، وهو يدلّ على اللجوء والاستعاذة بالله .
ويدلّ عليه ما في هذا لحديث ؛ لأنه لو كان يُمنع من التمسّك بأستار الكعبة ، لبيّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة .

وأما التمسّح بها طلبا للبركة ، فلا يصح ؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه التمسّح به ، والـتَّبَرّك دِيانة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ولما كانت الكعبة بيت الله الذي يُدعى ويُذكر عنده ، فإنه سبحانه يُستجار به هناك ، وقد يُستمسك بأستار الكعبة . اهـ .

13= فَإِنْ قِيلَ : فَفِي الْحَدِيث الآخَر :" مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِد فَهُوَ آمِن " ، فَكَيْف قَتَلَهُ وَهُوَ مُتَعَلِّق بِالأَسْتَارِ ؟ فَالْجَوَاب : أَنَّهُ لَمْ يَدْخُل فِي الأَمَان ، بَلْ اِسْتَثْنَاهُ هُوَ وَابْن أَبِي سَرَح وَالْقَيْنَتَيْنِ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ ، وَإِنْ وُجِدَ مُتَعَلِّقًا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة ، كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي أَحَادِيث أُخَر ، وَقِيلَ : لأَنَّهُ مِمَّنْ لَمْ يَفِ بِالشَّرْطِ ، بَلْ قَاتَلَ بَعْد ذَلِكَ . قاله النووي .

 

عمدة الأحكام
  • كتاب الطهارة
  • كتاب الصلاة
  • كتاب الصيام
  • كتاب الحج
  • شرح العمدة
  • مـقـالات
  • بحوث علمية
  • محاضرات
  • فتاوى
  • الصفحة الرئيسية