ح 260
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمرو رضي الله عنهما : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ . فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ .
فَقَالَ : رَجُلٌ لَمْ أَشْعُرْ , فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ ؟ قَالَ :
اذْبَحْ وَلا حَرَجَ . وَجَاءَ آخَرُ , فَقَالَ : لَمْ أَشْعُرْ , فَنَحَرْتُ
قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ ؟ قَالَ : ارْمِ وَلا حَرَجَ . فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ
عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلا أُخِّرَ إلاَّ قَالَ : افْعَلْ وَلا حَرَجَ.
فيه مسائل :
1= التيسير والتوسعة على الناس فيما لهم فيه سَعَة ، ما لم يتوسّع الناس في أمر
مِن الأمور الْمُوسَّع لهم فيها ، فيُؤخذون حينئذ بالشِّدَّة من باب السياسة
الشرعية .
ومن أمثلته : مواصلة النبي صلى الله عليه وسلم الصيام بأصحابه ، كالْمُنكِّل
بهم . كما في الصحيحين .
وأخذ عُمر رضي الله عنه الناس في مسألة الطلاق بالثلاث ، لَمّا توسّع الناس
فيها .
2= في رواية في الصحيحين : " وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ
يَسْأَلُونَهُ " .
وعندهما : " بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ النَّحْرِ " .
وفي رواية للبخاري : رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عِنْدَ الْجَمْرَةِ وَهُوَ يُسْأَلُ .
وفي رواية للبخاري : " أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ النَّحْرِ " .
3= هذه الخطبة من أجل تعليم الناس ، وليست خُطبة راتبة مثل خُطبته يوم عرفة ،
وليست خُطبة للعيد ؛ لأن الحجاج لا يُخاطبون بِصلاة العيد .
فَـمعنى " يَخَطَب " هنا ، تُفسِّره الروايات الأخرى : " وَقَف " .
ولعله : وقف للناس يسألونه ، فلما كثرة السؤال خَطَب الناس لتعليمهم بِعامّة .
قال النووي : قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : قَالَ بَعْضهمْ : الْجَمْع بَيْن هَذِهِ
الرِّوَايَات أَنَّهُ مَوْقِف وَاحِد ، وَمَعْنَى خَطَبَ : عَلَّمَهُمْ . قَالَ
الْقَاضِي : وَيُحْتَمَل أَنَّ ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدهمَا : وَقَفَ
عَلَى رَاحِلَته عِنْد الْجَمْرَة ، وَلَمْ يَقُلْ فِي هَذَا : خَطَبَ ،
وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ وَقَفَ وَسُئِلَ ، وَالثَّانِي : بَعْد صَلاة
الظُّهْر يَوْم النَّحْر وَقَفَ لِلْخُطْبَةِ فَخَطَبَ ، وَهِيَ إِحْدَى خُطَب
الْحَجّ الْمَشْرُوعَة يُعَلِّمهُمْ فِيهَا مَا بَيْن أَيْدِيهمْ مِنْ
الْمَنَاسِك . هَذَا كَلام الْقَاضِي ، وَهَذَا الاحْتِمَال الثَّانِي هُوَ
الصَّوَاب . اهـ .
4= التقديم والتأخير شامل لجميع أعمال يوم النحر ، ففي رواية في الصحيحين :
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ
يَوْمَ النَّحْرِ ، إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ : كُنْتُ أَحْسِبُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ كَذَا وَكَذَا قَبْلَ كَذَا وَكَذَا ، ثُمَّ قَامَ آخَرُ
فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْتُ أَحْسِبُ كَذَا وَكَذَا - لِهَؤُلاءِ
الثَّلاثِ - فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : افْعَلْ
وَلا حَرَجَ . لَهُنَّ كُلِّهِنَّ يَوْمَئِذٍ - فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ
شَيْءٍ إِلاَّ قَالَ : افْعَلْ وَلا حَرَجَ .
5= الأصل في أعمال يوم النحر أنها تُرتّب على النحو التالي :
رمي جمرة العقبة ، ثم النحر – لِمن كان له هدي – ، ثم الْحَلْق أو التقصير ، ثم
طواف الإفاضة .
ففي حديث أنس رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَتَى مِنًى ، فَأَتَى الْجَمْرَةَ فَرَمَاهَا ، ثُمَّ أَتَى
مَنْزِلَهُ بِمِنًى وَنَحَرَ ، ثُمَّ قَالَ لِلْحَلاّقِ : خُذْ ، وَأَشَارَ
إِلَى جَانِبِهِ الأَيْمَن ثُمَّ الأَيْسَر ، ثُمَّ جَعَلَ يُعْطِيهِ النَّاسَ
. رواه مسلم .
قال النووي : السُّنَّة تَرْتِيبهَا هَكَذَا . رَمْي جَمْرَة الْعَقَبَة ،
ثُمَّ الذَّبْح ، ثُمَّ الْحَلْق ، ثُمَّ طَوَاف الإِفَاضَة . اهـ .
6= قصر بعض العلماء التقديم والتأخير على الْحَلْق والنحر ، أيهما قدّم فلا حرج
.
ويَرُدّه قول راوي الحديث : فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلا
أُخِّرَ إلاَّ قَالَ : افْعَلْ وَلا حَرَجَ .
والعبرة بِعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
وحَمَله بعضهم على حال السهو ، عملاً بِرواية : " لم أشعر " .
وهذا أيضا يَرُدّه جوابه عليه الصلاة والسلام ؛ لأن جوابه عامّ لكل أحد ، ولم
يُقصر رفع الحرج عن الناسي فحسب ؛ لأن الناسي أصلا مرفوع عنه الحرج ، كما في
قوله تعالى : (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) ،
وكما في قوله عليه الصلاة والسلام : إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان ،
وما استُكرهوا عليه . رواه ابن حبان والحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين .
7= اخْتَلَف العلماء في تقديم السعي على الطواف ، فالجمهور على أن السعي لا
بُدّ أن يسبقه طواف .
واختار جَمْع من أهل العلم جواز تقديم السعي على الطواف ، لِحديث أسامة بن
شَريك رضي الله عنه قال : خرجت مع النبي صلى الله عليه و سلم حاجًّا ، فكان
الناس يأتونه، فمن قال : يا رسول الله ، سَعيت قبل أن أطوف ، أو قَدّمت شيئا ،
أو أخَّرت شيئا ، فكان يقول : لا حَرَج لا حَرَج . رواه أبو داود بإسناد صحيح .
قال النووي : رواه أبو داود بإسناد صحيح ،كل رجاله رجال الصحيحين إلاَّ أسامة
بن شَريك الصحابي . اهـ .
وقد ذَكَر ابن حزم هذا الحديث ، ثم قال : فأخذ بهذا جمهور من السلف . ثم ذَكَر
من قال به .
وهذا الحديث تأوّله جمهور العلماء على مَن سعى بعد طواف القدوم وقبل طواف
الإفاضة .
وهذا التأويل ضعيف ؛ لأنه تحكّم بِلا دليل .
وبعض أهل العلم قال : إن السؤل عن تقديم السعي على الطواف ليس بِمحفوظ .
وهذا لا دليل عليه ، وصِحّة الإسناد قاضية على هذا الاحتمال .
وقد سُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة هذا السؤال :
معتمر لم يَدْرِ فَسَعى قبل أن يطوف ، فهل عليه بعد إعادة الطواف أن يسعى ثانية
؟
فأجابت اللجنة :
ليس عليه إعادة السعي ؛ لِمَا رَوى أبو داود في سننه بإسناد صحيح إلى أسامة بن
شريك قال : خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم حاجًا، فكان الناس يأتونه ، فمن
قائل : يا رسول الله سَعيت قبل أن أطوف ، أو قَدَّمت شيئًا وأخّرت شيئًا ، فكان
يقول : لا حرج ، لا حرج . اهـ .
والذي يظهر التوسّط في المسألة بين القولين :
فلا يُقال باشتراط الطواف قبل السعي في كل حال ، ولا بِجوازه في كل حال .
وذلك بأن يُقال : من سعَى في الحج من غير طواف جاز وأجزأ ، لأن القَارِن
والمفْرِد له أن يسعى بعد طواف القُدُوم ، وطواف القدوم في حقّهما سُـنَّـة .
وأما بالنسبة للعُمرة فإن السعي لا بُدّ أن يتقدّمه طواف ؛ لأن السؤال عن
التقديم والتأخير لم يقع في شأن أعمال العمرة ، وإنما وقع في أعمال الحج .
8= الحكمة في ذلك : التوسعة على الناس ، ورفع الحرج عن الأمة . وهذا يُقتصر فيه
على النصّ ، إذ لا يُستفاد من هذه الأحاديث تعميم قوله : " افعل ولا حرج " في
كل شيء ؛ لأن الإجماع مُنعقد على أن الحاج لو قدَّم طواف الإفاضة على وقوف عرفة
لم يُجزئه . وكذلك لو قدّم وقوف عرفة قبل يوم عرفة ، أو قدّم المبيت بِمزدلفة
قبلها بليلة ، أو أخّرَه بعدها بِليلة ، لم يصحّ منه .
فلهذا لا يصح القول بإطلاق " افعل ولا حرج " إلاّ على أعمال يوم النحر ، وما
ليس مِن شرطِه الترتيب .
9 = لو أخَلّ بترتيب رمي الجمرات ، كأن يُقدِّم الوسطى أو الكبرى على الصغرى .
أو : يبدأ بالكبرى ثم الوسطى ثم الصغرى في أيام منى .
رخّص فيها بعض السلف فيمن وقع منه من غير تعمّد .
قال ابن حزم في المحلّى : ومن طريق الحذافي نا عبد الرزاق نا سفيان الثوري عن
عبد الملك بن أبى سليمان عن عطاء : فيمن رمى الجمرة الوسطى قبل الأولى قال :
يرمي التي ترك وأجزأه .
وعطاء كان أعلم الناس بالمناسك .
روى يعقوب بن سُفيان عن سلمة بن شبيب قال : حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن عمر
بن كيسان أخبرني أبي قال : أذكرهم في زمان بني أمية يأمرون في الحاج صائحا
يَصيح : لا يُفتي الناس إلاَّ عطاء بن أبي رباح ، وإن لم يكن عطاء فعبد الله
ابن أبي نجيح .
والله أعلم .
|