اطبع هذه الصفحة


شرح أحاديث عمدة الأحكام
الحديث الـ 262 في الدعاء للمُحَلِّقِين رؤوسهم

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

 
ح 262

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ . قَالُوا : وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ . قَالُوا وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : وَالْمُقَصِّرِينَ .

فيه مسائل :

1= اخْتُلِف في هذا الحديث على مسائل فيه :
أ – هل كان يوم الحديبية أم في حجة الوداع ؟
ب – هل حُكمه باقٍ أو هو واقعة عين لا عموم لها ؟
جـ - هل دعا النبي صلى الله عليه وسلم للمحلِّقِين مرتين أو ثلاثا ؟
د – هل دعا للمحلِّقين بالرحمة أو بالمغفرة ؟ وما الفرق بينهما ؟

أما المسألة الأولى ؛ ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما : حَلَقَ رِجَالٌ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَصَّرَ آخَرُونَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُقَصِّرِينَ ؟ قَالَ : يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُقَصِّرِينَ ؟ قَالَ : يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُقَصِّرِينَ ؟ قَالَ : وَالْمُقَصِّرِينَ . قَالُوا : فَمَا بَالُ الْمُحَلِّقِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ظَاهَرْتَ لَهُمْ الرَّحْمَةَ ؟ قَالَ : لَمْ يَشُكُّوا . رواه الإمام أحمد . ورواه ابن ماجه مختَصرا . وفي رواية ابن ماجه : قيل : يا رسول الله لم ظاهرتَ للمحلقين ثلاثا والمقصرين واحدة ؟ قال : إنهم لم يَشُكُّوا . وصححه الألباني والأرنؤوط .
وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم أحْرم وأصحابه عام الحديبية غير عثمان وأبي قتادة ، فاستغفر للمُحَلِّقين ثلاثا ، وللمقصرين مرة . رواه الإمام أحمد .

فهذا الحديث صريح في أنه كان يوم الحديبية ، وفي ذلك اليوم تأخّر الصحابة رضي الله عنهم عن الْحَلْق رغبة في أداء العمرة ، حتى أشارتْ أم سلمة رضي الله عنها على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج ويدعو حالِقَه ، فيحلقه ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمشورتها رضي الله عنها ، فخرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يُكلّمْ أحدًا منهم حتى فعل ذلك : نحرَ بُدْنَهُ ودَعا حالِقَهُ فحلَقَه ، فلما رأَوا ذَلكَ قاموا فَنَحروا ، وجَعلَ بعضُهم يَحلِقُ بعضًا ، حتى كادَ بعضُهم يَقتُلُ بعضًا غَمًّا . كما في صحيح البخاري .
قال ابن عبد البر : أما حديث ابن عمر هذا فليس فيه ذِكر الموضع الذي كان من رسول الله هذا القول . وهو محفوظ مِن حديث ابن عباس وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة والْمِسْوَر بن مَخْرَمة أن رسول الله قال ذلك يوم الحديبية . اهـ .
وقال : والمحفوظ في هذا الحديث أن دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة إنما جرى يوم الحديبية حين صُدّ عن البيت ، فَنَحَر وحَلَق ودَعا للمُحَلِّقِين . اهـ .

وفي حديث يحيى بن الحصين عن جدته أنها سمعت النبي صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع دعا للمُحَلِّقِين ثلاثا . رواه مسلم . وقال : وَلَمْ يَقُلْ وَكِيعٌ : فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ .
ويُسْتَرْوَح مِن صَنيع الإمام البخاري أنه كان في حجة الوداع ، وقد يُحمَل على تكرار الدعاء .
قال القاضي عياض : فَلا يَبْعُد أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ . اهـ .

وأما الثانية ؛ فإن الْحَلْق أفضل ، لِقيام أدلة أخرى ، وسيأتي مزيد تفصيل حول التفضيل .

وأما الثالثة ؛ فقد قال البخاري عقب روايته للحديث : وَقَالَ اللَّيْثُ : حَدَّثَنِي نَافِعٌ : رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ . قَالَ : وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ : حَدَّثَنِي نَافِعٌ وَقَالَ فِي الرَّابِعَةِ : وَالْمُقَصِّرِينَ .
وفي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ . قَالُوا : وَلِلْمُقَصِّرِينَ ؟ قَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ . قَالُوا : وَلِلْمُقَصِّرِينَ ؟ قَالَهَا ثَلاثًا . قَالَ : وَلِلْمُقَصِّرِينَ . رواه البخاري .
وفي رواية لمسلم : قال : رَحِم الله المحلقين . قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : رَحِم الله المحلقين . قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : رَحِم الله المحلقين . قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : والمقصرين . فلما كانت الرابعة قال : والمقصرين .

وأما الرابعة ؛ هل دعا للمحلِّقين بالرحمة أو بالمغفرة ؟ وما الفرق بينهما ؟
ففي حديث الباب – حديث ابن عمر – وحديث ابن عباس رضي الله عنهم ؛ أنه صلى الله عليه وسلم دعا لهم بالرحمة .
وفي حديث أبي هريرة أنه دعا لهم بالمغفرة ، وفي حديث أبي سعيد أنه استغفر لهم .
والجواب عن ذلك :
أنه إما أن يكون دعا لهم بالأمرين في موضعين ، إذا حُمِل ذلك على تكرار الواقعة في الحديبية وفي حجة الوداع ، كما تقدّم .
وإما أن يكون دعا لهم بالرحمة ، ويَكون مَن ذَكَر الاستغفار ذَكَرَه بالمعنى .

وأما الفَرق بينهما ؛ فقد قال القرطبي : المغفرة هي الستر على عباده في الدنيا والآخرة .
ونَقَل عن ابن فارس قوله : ورحمة الله لعباده : إنعامه عليهم وعفوه لهم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : العفو متضمن لإسقاط حقه قِبَلِهم ومُسامحتهم به .
والمغفرة متضمنة لوقايتهم شرّ ذنوبهم وإقباله عليهم ورضاه عنهم ؛ بخلاف العفو المجرّد ، فإن العافي قد يَعفو ولا يُقْبِل على مَن عَفا عنه ، ولا يرضى عنه ؛ فالعفو تَرْك مَحض ، والمغفرة إحسان وفضل وجُود ، والرحمة متضمنة للأمرين مع زيادة الإحسان والعطف والبر ؛ فالثلاثة تتضمن النجاة مِن الشرّ والفوز بالخير .
وقال ابن القيم :
فَصْلٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ :
وَقَدْ جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُمَا مُقْتَرِنَيْنِ، وَذِكْرُ كُلاًّ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا عَنِ الآخَرِ، فَالْمُقْتَرِنَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ : (رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ) ، وَالْمُنْفَرِدُ كَقَوْلِهِ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) ، وَقَوْلِهِ فِي الْمَغْفِرَةِ : (وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) ، وَكَقَوْلِهِ: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا) ، وَنَظَائِرِهِ.
فَهَاهُنَا أَرْبَعَةُ أُمُورٍ : ذُنُوبٌ، وَسَيِّئَاتٌ، وَمَغْفِرَةٌ، وَتَكْفِيرٌ .
فَالذُّنُوبُ : الْمُرَادُ بِهَا الْكَبَائِرُ، وَالْمُرَادُ بِالسَّيِّئَاتِ: الصَّغَائِرُ، وَهِيَ مَا تَعْمَلُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ ، مِنَ الْخَطَأِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ ، وَلِهَذَا جُعِلَ لَهَا التَّكْفِيرُ ، وَمِنْهُ أُخِذَتِ الْكَفَّارَةُ ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا سُلْطَانٌ وَلا عَمَلٌ فِي الْكَبَائِرِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ ، فَلا تَعْمَلُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ ، وَلا فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ ، فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ السَّيِّئَاتِ هِيَ الصَّغَائِرُ وَالتَّكْفِيرِ لَهَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا) ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ : الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِر .
وَلَفْظُ الْمَغْفِرَةِ أَكْمَلُ مِنْ لَفْظِ التَّكْفِيرِ ، وَلِهَذَا كَانَ مع الْكَبَائِرِ، وَالتَّكْفِيرُ مَعَ الصَّغَائِرِ، فَإِنَّ لَفْظَ الْمَغْفِرَةِ يَتَضَمَّنُ الْوِقَايَةَ وَالْحِفْظَ، وَلَفْظَ التَّكْفِيرِ يَتَضَمَّنُ السَّتْرَ وَالإِزَالَةَ، وَعِنْدَ الإِفْرَادِ يَدْخُلُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي الآخَرِ ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى : (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) يَتَنَاوَلُ صَغَائِرَهَا وَكَبَائِرَهَا ، وَمَحْوَهَا وَوِقَايَةَ شَرِّهَا ، بَلِ التَّكْفِيرُ الْمُفْرَدُ يَتَنَاوَلُ أَسْوَأَ الأَعْمَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) .
وَإِذَا فُهِمَ هَذَا فَهْمَ السِّرِّ فِي الْوَعْدِ عَلَى الْمَصَائِبِ وَالْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالنَّصَبِ وَالْوَصَبِ بِالتَّكْفِيرِ دُونَ الْمَغْفِرَةِ ، كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ هَمٍّ وَلا غَمٍّ وَلا أَذًى - حَتَّى الشَّوْكَةُ يَشَاكُهَا - إِلاّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ " ، فَإِنَّ الْمَصَائِبَ لا تَسْتَقِلُّ بِمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ، وَلا تُغْفَرُ الذُّنُوبُ جَمِيعُهَا إِلاَّ بِالتَّوْبَةِ ، أَوْ بِحَسَنَاتٍ تَتَضَاءَلُ وَتَتَلاشَى فِيهَا الذُّنُوبُ ، فَهِيَ كَالْبَحْرِ لا يَتَغَيَّرُ بِالْجِيَفِ ، وَإِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ .
فَلأَهْلِ الذُّنُوبِ ثَلاثَةُ أَنْهَارٍ عِظَامٍ يَتَطَهَّرُونَ بِهَا فِي الدُّنْيَا ، فَإِنْ لَمْ تَفِ بِطُهْرِهِمْ طُهِّرُوا فِي نَهْرِ الْجَحِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : نَهْرُ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ ، وَنَهْرُ الْحَسَنَاتِ الْمُسْتَغْرِقَةِ لِلأَوْزَارِ الْمُحِيطَةِ بِهَا ، وَنَهْرُ الْمَصَائِبِ الْعَظِيمَةِ الْمُكَفِّرَةِ ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ خَيْرًا أَدْخَلَهُ أَحَدَ هَذِهِ الأَنْهَارِ الثَّلاثَةِ، فَوَرَدَ الْقِيَامَةَ طَيِّبًا طَاهِرًا، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى التَّطْهِيرِ الرَّابِعِ . (مدارج السالكين 1 / 317 – 319)

2= إذا قيل بأن الْحَلْق أفضل استدلالا بهذا الحديث فلأدلّة أخرى ، منها :
فعله عليه الصلاة والسلام ، ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما قَال : حَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَقَصَّرَ بَعْضُهُمْ . رواه البخاري .
ولأنه أبلغ في قضاء التفَث ، كما قال تعالى : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : الـتَّفَث : حَلْق الرأس ، وأخذ مِن الشاربين ، ونَتف الإبط ، وحلق العانة ، وقصّ الأظفار .
وقال مجاهد : حَلْق الرأس ، وحلق العانة ، وقصر الأظفار ، وقصّ الشارب .
قال البغوي في تفسيره : الـتَّفَث : الوسخ والقذارة مِن طول الشعر والأظافر والشعث ، تقول العرب لمن تستقذره : ما أتفثك : أي : ما أوسخك . والحاج أشعث أغبر ، لم يحلق شعره ولم يُقَلِّم ظُفره . فقضاء التفث : إزالة هذه الأشياء ، ليقضوا تفثهم ، أي : ليزيلوا أدرانهم ، والمراد منه الخروج عن الإحرام بالحلق ، وقص الشارب ، ونتف الإبط ، والاستحداد ، وقَلْم الأظفار ، ولبس الثياب . اهـ .
ولكونه مُذهِب للزينة ، كما قال ابن بطال .
قال ابن دقيق العيد : الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ مَعًا . وَعَلَى أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ . اهـ .

وقال النووي : وَوَجْه فَضِيلَة الْحَلْق عَلَى التَّقْصِير أَنَّهُ أَبْلَغ فِي الْعِبَادَة ، وَأَدَلّ عَلَى صِدْق النِّيَّة فِي التَّذَلُّل لِلَّهِ تَعَالَى ، وَلأَنَّ الْمُقَصِّر مُبْقٍ عَلَى نَفْسه الشَّعْر الَّذِي هُوَ زِينَة ، وَالْحَاجّ مَأْمُور بِتَرْكِ الزِّينَة ، بَلْ هُوَ أَشْعَث أَغْبَر . اهـ .
ولكون الْحَلْق قد تضمّن مَزيد عمل ومَشقّة .
وليست كل مشقّة متضمنة لمزيد من الأجر .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : قَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ : " الثَّوَابُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ " لَيْسَ بِمُسْتَقِيمِ عَلَى الإِطْلاق ... وَلَوْ قِيلَ : " الأَجْرُ عَلَى قَدْرِ مَنْفَعَةِ الْعَمَلِ وَفَائِدَتِهِ" ، لَكَانَ صَحِيحًا . اهـ .

وأما ما قاله القرطبي : قال علماؤنا : ففي دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلِّقِين ثلاثا وللمقَصِّرين مرة ، دليل على أن الْحَلْق في الحج والعمرة أفضل مِن التقصير، وهو مقتضى قوله تعالى : (وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ) . الآية، ولم يَقُل تُقَصِّرُوا . اهـ .
فإنه مُتعقّب بأمرين :
الأول : أن الْحَلْق أبلغ من التقصير ، وهو في شأن النهي عن الْحَلْق ، والنهي عن الْحَلْق أبلغ ؛ فهو مُتضمّن للنهي عن الحلق والتقصير من باب أوْلى .
الثاني : أن الله ذَكَر الأمْرَين معا في مقام الامتنان ، وذلك في قوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) .

3= الأفضل كون الْحَلْق بعد رمي جمرة العقبة وبعد الذبح لِمن كان له هدي .
قال النووي : اتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الأَفْضَل فِي الْحَلْق وَالتَّقْصِير أَنْ يَكُون بَعْد رَمْي جَمْرَة الْعَقَبَة وَبَعْد ذَبْح الْهَدْي إِنْ كَانَ مَعَهُ ، وَقَبْل طَوَاف الإِفَاضَة ، وَسَوَاء كَانَ قَارِنًا أَوْ مُفْرِدًا . اهـ .

4= الْحَلْق خاص بالرجال دون النساء .
قال ابن عبد البر : وقد أجمع العلماء على أن النساء لا يَحْلِقْن ، وأن سُنَّتهن التقصير . اهـ .

5= " فيه دليل على الترحّم على الحي وعدم اختصاصه بالميت " . قاله العظيم آبادي في " عون المعبود " .

6= جواز الْحَلْق في غير الـنُّسُك ، إلاّ أن يكون شِعارًا لأهل البِدَع .
قال القرطبي : لا خلاف أن حَلق الرأس في الحج نُسُك مندوب إليه ، وفي غير الحج جائز ، خلافا لمن قال : إنه مُثْلَة ، ولو كان مُثلة ما جاز في الحج ولا غيره ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهى عن الْمُثْلَة ، وقد حَلَق رؤوس بني جعفر بعد أن أتاه قتله بثلاثة أيام ، ولو لم يَجُز الحلق ما حَلقهم .
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يَحلق رأسه .
قال ابن عبد البر : وقد أجمع العلماء على حَبس الشعر ، وعلى إباحة الحلق . وكَفى بهذا حُجّة ، وبالله التوفيق . اهـ .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : حَلْقُ الرَّأْسِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ :

أَحَدُهُمَا : حَلْقُهُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ؛ فَهَذَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ ، وَهُوَ مَشْرُوعٌ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الأُمَّةِ ...

وَالنَّوْعُ الثَّانِي :
حَلْقُ الرَّأْسِ لِلْحَاجَةِ ، مِثْلُ أَنْ يَحْلِقَهُ لِلتَّدَاوِي ، فَهَذَا أَيْضًا جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِجْمَاعِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ رَخَّصَ لِلْمُحْرِمِ الَّذِي لا يَجُوزُ لَهُ حَلْقُ رَأْسِهِ أَنْ يَحْلِقَهُ إذَا كَانَ بِهِ أَذًى ...


والنَّوْعُ الثَّالِثُ :
حَلْقُهُ عَلَى وَجْهِ التَّعَبُّدِ وَالتَّدَيُّنِ وَالزُّهْدِ ؛ مِنْ غَيْرِ حَجٍّ وَلا عُمْرَةٍ مِثْلَ مَا يَأْمُرُ بَعْضُ النَّاسِ التَّائِبَ إذَا تَابَ بِحَلْقِ رَأْسِهِ ، وَمِثْلَ أَنْ يُجْعَلَ حَلْقُ الرَّأْسِ شِعَارَ أَهْلِ النُّسُكِ وَالدِّينِ ؛ أَوْ مِنْ تَمَامِ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ أَوْ يُجْعَلَ مَنْ يَحْلِقُ رَأْسَهُ أَفْضَلَ مِمَّنْ لَمْ يَحْلِقْهُ ، أَوْ أدين أَوْ أَزْهَدَ ، أَوْ أَنْ يُقَصَّرَ مِنْ شِعْرِ التَّائِبِ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْمَشْيَخَةِ إذَا تَوّب أَحَدًا أَنْ يَقُصَّ بَعْضَ شَعْرِهِ ... فَهَذَا بِدْعَةٌ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهَا وَلا رَسُولُهُ ؛ وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلا مُسْتَحَبَّةً عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ ؛ وَلا فَعَلَهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلا شُيُوخِ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِينَ بِالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ لا مِنْ الصَّحَابَةِ وَلا مِنْ التَّابِعِينَ وَلا تَابِعِيهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ ...
وَمَنْ اعْتَقَدَ الْبِدَعَ الَّتِي لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلا مُسْتَحَبَّةً : قُرْبَةً وَطَاعَةً وَطَرِيقًا إلَى اللَّهِ وَجَعَلَهَا مِنْ تَمَامِ الدِّينِ وَمِمَّا يُؤْمَرُ بِهِ التَّائِبُ وَالزَّاهِدُ وَالْعَابِدُ ؛ فَهُوَ ضَالٌّ خَارِجٌ عَنْ سَبِيلِ الرَّحْمَنِ ، مُتَّبِعٌ لِخُطُوَاتِ الشَّيَاطِينِ .

وَالنَّوْعُ الرَّابِعُ :
أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ فِي غَيْرِ النُّسُكِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَلا عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ وَالتَّدَيُّنِ : فَهَذَا فِيهِ قَوْلانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَكْرُوهٌ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُبَاحٌ ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ . اهـ . ( باختصار ) .

والله أعلم .


 

عمدة الأحكام
  • كتاب الطهارة
  • كتاب الصلاة
  • كتاب الصيام
  • كتاب الحج
  • شرح العمدة
  • مـقـالات
  • بحوث علمية
  • محاضرات
  • فتاوى
  • الصفحة الرئيسية