اطبع هذه الصفحة


جنة الرضا

عبدالله بن محمد بادابود

 
بسم الله الرحمن الرحيم


دار كدح وعناء، ووصب وشقاء:
إنْ أسعدَتْ يومًا، أشْقَت أيامًا، وإن أضْحَكَت يومًا، أبْكَت أيَّامًا.
ليس لها دوام؛ فهي فانية، وأحوالها لا تدوم؛ فهي مُتقلِّبة.
وهذه الظروف وهذه الأحوال تحتاج لنفسٍ راضية؛ راضية عن الله، وراضية بقضاء الله.
إن كانت النعمة مُقبلة، كان الشكر لها لازمًا، وإنْ جاءَت النِّقمة فجأة، كان الصبر لها حلاًّ، والصبر خير: مُرٌّ في أوَّله، حُلو في آخره.
يوفِّي اللهُ الصابر أجره بغير حساب، ولك أن تتخيَّل ما وراء (بغير حساب)، ومِمَّن؟ مِن الله العزيز الحكيم.
- الرضا: درجة تعلو الصبر، فهي أعلى منه درجةً، وأسمى مَقامًا.
سلام رُوحي مع كل قضاء، حُب رُوحي لكلِّ ما يُحبه الله، حتى أقدار الدنيا ومصائبُها، أحزانها وآلامها، يراها خيرًا له، وكيف لا تكون خيرًا وهي من الله؟!
- كان بلال - رضي الله عنه - يُعاني سَكرات الموت وهو يقول: "وافرحتاه! غدًا ألْقَى الأحبَّة، محمدًا وصَحْبه".
هي صورة من صُوَر الرضا، ومن كان الرضا حالَه، كان السرور مُرافقًا له، والانشراح يملأ قلبَه.
لا حُزْن ولا ضَجَر، ولا شَكوى ولا سخط، تسليم تامٌّ، ورضًا تامٌّ، وسرور تامٌّ.
- تَمرُّ برجل فاقدٍ لبصره، تتعجَّب من ابتسامة تملأ وجْهَه، وعبارات الشُّكر والرضا يَلهج بها لسانُه، لا يشكو لأحدٍ ولا يَضْجَر من حاله، فتتعجَّب: كم منَّا مِن مُبصرٍ يشكو من الدنيا وهمومها وهو سليم يُبصر!
- تزور مريضًا لازَمَ السَّرير، لَم يَلزمه يومًا أو شهرًا، بل سنوات، لا يتحرَّك منه شيء سوى رأْسٍ يحرِّكه يمنة ويسرة، ولسانٍ ذاكرٍ شاكر، وتَشعر بانشراح صدْره وتقَبُّله لمرضِه، فتتعجَّب: كم منَّ معافًى يتحرَّك ويذهب، ويغدو ويتنقَّل في كلِّ مكان، ومع ذلك يَمقُت حاله، ويشكو ظروفه!
- عامل نظافة بسيط، تحت أشِعَّة الشمس الحارقة يُمارس عمله برضًا تامٍّ، ورَجل في سيَّارته المُكَيَّفة المُريحة، تَجده يشكو من الحرِّ وأشعة الشمس، فسبحان الله!
- موظف بسيط، يأخذ راتبًا قليلاً، ولكنَّه مُنظَّم في نَفَقاته، ويَستهلك حسب حاجته، شاكرٌ لله، ويتصدَّق من ماله؛ يَبتغي وجْه الله، وآخَرُ راتبُه أعلى، ومَنصبه أكبر، يشكو من النفقات واستهلاك الأبناء، ودائمًا الشكوى معه أينما ذهَب.
إنَّ الرِّضا بما قدَّر الله أمرٌ ليس بالسهل، فنحن نكرِّر يوميًّا: "رَضِيت بالله ربًّا"، وهي تعني رضانا التامَّ عن الله - عزَّ وجلَّ - رضًا بكلِّ ما يُقَدِّره لنا؛ مِن رفْعٍ وخَفضٍ، غنًى وفقرٍ، حُزنٍ وفرَحٍ.
"وبالإسلام دينًا": بالاستسلام لهذا الدين العظيم، نقوم بالواجبات، ونَمتنع عن المحرَّمات والمنهيَّات؛ طلبًا لِمَرضاة ربِّ الأرض والسموات.
"وبمحمدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم - نبيًّا": يكون لنا مثلاً أعلى وأُسوة حسنة، نقتدي به ونَتَّبعه في كلِّ أمور حياتنا، ونَسعد بذلك، ونُحبه حبًّا يفوق حبَّنا لأنفسنا.

صُوَر من الرضا:
هي كثيرة في المجتمع الخالد، مجتمع الصحابة الأجِلاَّء، وقَبْلهم سيِّدُ المرسلين - عليه الصلاة والسلام - فمِن تلك الصُّوَر:
ما كان يُلاقيه المسلمون في مكة من عذاب وتنكيلٍ، ولكنَّهم تقبَّلوا ذلك بقلوبٍ راضية عن الله، وألْسُنٍ شاكرة لله.
ورُوِي أنَّ عُروة بن الزبير - رضي الله عنهما - قُطِعت رِجْله ومات أعزُّ أولاده في ليلة واحدة، فدخَل عليه أصحابه وعزَّوه، فقال: "اللهم لك الحمد، كان أولادي سبعة، فأخَذت واحدًا وأبْقَيت ستة، وكان لي أطرافٌ أربعة، فأخَذت واحدًا وأبْقَيت ثلاثة، فلئن كنتَ قد أخَذت، فلقد أعْطَيت، ولئن كنتَ قد ابْتَلَيتَ، فقد عافَيْت".

هذا حال الراضي، فما حال الساخط؟
يكون حاله مُضطربًا، ووضعه مُحزنًا، يتقلَّب بين حُزن وهمٍّ، وبين شقاءٍ وتعبٍ، مُتضجرًا دومًا، مُتجهِّمًا، إنْ وقَع البلاء سَخِط وتألَّم، ضاقَت عليه الدنيا بما رَحُبَت، وأظْلَمَت الأرض فلا يرى النور الساطع الذي يحلُّ في كلِّ مكان، فقلبه مُظلم دامس.
ليس له دليلٌ يقوده، فتكون النفس الأمَّارة بالسوء دليلاً له حين فقَد الهدي العظيم، ويكون الشيطان دليلاً له حين ابتَعد عن الرحمن، فيقودانه للمَهالك - نسأل الله السلامة.
ارضَ أخي الكريم بما كتَبَ الله لك، فلن تموت حتى تستوفي ما قُدِّر لك، لن ينقصَ من رزقك شيءٌ، ولن ينقص من عُمرك شيء، فلِمَ الخوف؟ تترقَّب المستقبل بهمٍّ كبيرٍ، وتعيش الحاضر وأنت تقاسي أحزانَ الماضي، فضاع اليوم وضاع العُمر وأنت بين حزنٍ وهَمٍّ.
ارضَ عن الله، يرضَ عنك، ألَم تتدبَّر قوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ [البينة: 8]؟
اللهم إنا نسألك أنْفُسًا راضية بقضائك، مُحِبَّة للقائِك.

هـدى:
قال - تعالى -: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157].

نور من السُّنة:
قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ أحدكم يُجمع خَلْقُه في بطن أُمِّه أربعين يومًا نُطفة، ثم يكون عَلَقة مثلَ ذلك، ثم يكون مُضغة مثلَ ذلك، ثم يُرسَل إليه المَلكُ، فيَنفُخ فيه الرُّوح، ويؤمَر بأربع كلمات: بكَتْب رِزْقه وأجَله وعمله، وشَقي أو سعيد، فو الذي لا إله غيره، إنَّ أحدَكم ليَعمل بعملِ أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذِراع، فيَسبق عليه الكتاب، فيعمل بعملِ أهل النار، فيَدخلها، وإنَّ أحدَكم ليَعمل بعملِ أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلاَّ ذراع، فيَسبق عليه الكتاب، فيَعمل بعمل أهل الجنة فيَدخلها))؛ رواه البخاري ومسلم.
من الأدب:
فَلَيْتَكَ تَحْلُو وَالْحَيَاةُ مَرِيرَةٌ
وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالأَنَامُ غِضَابُ

وَلَيْتَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَامِرٌ
وَبَيْنِي وَبَيْنَ الْعَالَمِينَ خَرَابُ

إِذَا صَحَّ مِنْكَ الْوُدُّ فَالْكُلُّ هَيِّنٌ
وَكُلُّ الَّذِي فَوْقَ التُّرَابِ تُرَابُ

إشـراقة:
قال عمر بن عبدالعزيز: "ما بَقِي لي سرور إلاَّ مواقع القَدَر، قيل له: ما تشتهي؟ قال: ما يقضي الله تعالى".


بقلم : عبدالله بن محمد بادابود .

A.Badabood@gmail.com




 

عبدالله بادابود
  • مقالات
  • كتب
  • دورات
  • الصفحة الرئيسية