اطبع هذه الصفحة


في كـل الأحـوال

أ.د. عبدالكريم بكار

 
 1/2

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فإن إنجازاتنا وعطاءاتنا تخضع لثلاثة عوامل أساسية، هي:
1- ما ورثناه عن آبائنا وأجدادنا من خصائص عقلية ونفسية وجسمية.
2- البيئة التي نعيش فيها بما تشتمل عليه من مفاهيم وأعراف وتقاليد وبنى تحتية ومرافق عامة...
3- الجهود الشخصية والخاصة التي نبذلها في تثقيف عقولنا، وتزكية نفوسنا وصقل مهاراتنا، واستثمار الفرص المتاحة لنا.

ولا يخفى أن بين هذه العوامل الثلاثة علاقة جدلية مستمرة، فالذكاء المتفوق والقدرات الذهنية الممتازة تساعد المرء على أن يستفيد على أحسن وجه من المعطيات التي توفرها البيئة، كما أنها تجعله يدرك بسرعة حدود إمكاناته الحقيقية وطبيعة التحديات التي يلاقيها والطريقة المثلى لمواجهتها والتصرف حيالها.

البيئة الجيدة تجعل عمل الناس أسهل، وتوفر لهم الظروف التي تساعدهم على التفوق والارتقاء وهكذا..

والذي نستفيده من هذا هو أن التفوق في الجهد أو البيئة أو الموروث الجيني، سوف يخفف من أضرار القصور في الجانبين الآخرين. وأن أي قصور في أي جانب أو عامل من هذه الثلاثة سيؤثر سلباً في أداء العاملين الآخرين، وأعتقد أن التكامل والتفاعل بين ما ذكرنا يشكّل مظهراً من مظاهر ابتلاء الله –جل وعلا- لنا في هذه الحياة؛ حيث إن إمكانات الارتقاء والتقدم ستظل موجودة مهما كان الموروث الجيني سلبياً وضعيفاً، أو كانت البيئة صعبة وغير مواتية؛ وذلك من خلال تنمية الإمكانات الشخصية وبرمجة الوقت وتحديد الأهداف واكتساب المهارات، وقبل ذلك كله العبودية الحقة لله –تعالى- والاستعانة به، والتأهل لتوفيقه وفيوضاته غير المحدودة.

ولو أننا تأملنا في سير أولئك الذين صاغوا أمجاد هذه الأمة، وشيّدوا صرح حضارتها لوجدنا صدق ما نقول.

وأحب هنا أن أبلور المفهومات الثلاث الآتية:
أولاً: ما دامت المحصلات النهائية لكل جهودنا الدعوية والإصلاحية والتعليمية خاضعة لموروثاتنا عن الآباء والأجداد، وخاضعة للبيئة التي نعيش فيها وللجهد اليومي الذي نبذله، وما دامت كل هذه الأمور لا تكون أبداً حدِّية وكاملة؛ فإن المتوقع آنذاك أن تكون النتائج التي نحصل عليها مشوبة دائماً بالنقص والقصور، وستظل دائماً أقل مما نريد؛ فأنت لا تستطيع أن تصل إلى حلول كاملة في وسط غير كامل، وستظل هناك فجوة بين طموحاتنا وبين ما يتحقق على الأرض. هذا يعني أيضاً أننا سنظل نشكو ونشكو، وكأن الوعي البشري اخترع الشكوى من سوء الأحوال، ليتخذ منها محرضاً على التقدم.

وإذا تتبعنا هذه السلسلة من الإحالات والاستنتاجات فسنصل إلى الاعتقاد بأنه لن يكون في هذه الدنيا لأي أمة من الأمم أو جماعة من الجماعات أو فرد من الأفراد – نصر حاسم ونهائي- لا يقبل الجدل ولا الشك والنقد. ولهذا فإن الذين يحلمون بانتصارات نقية وتامة سيظلون يصابون بصدمات الإحباط وخيبات الآمال!.

ثانياً: إذا كان الأمر على هذه الصورة؛ فهذا يعني أننا لن نصل أبداً إلى اليوم الذي نعتقد فيه أننا قد حصلنا على البيئة المثلى للعمل والإنجاز، ولا على الأدوات التي نحتاجها لتحقيق أقصى الطموحات، وسنظل نشعر بوجود درجة من المجازفة والمخاطرة عند اتخاذ أي قرار حاسم في أي اتجاه. وهذا يجعلنا نبلور مفهوماً جوهرياً، هو:" اعمل ما هو ممكن الآن، ولا تنتظر تحسن الظروف".

وهذا المفهوم يقوم على مسلّمتين هما:
1- هناك دائماً إمكانية لعمل شيء جيد لأنفسنا وديننا والناس من حولنا.
2- مهما تحسنت الظروف؛ فإنه سيظل هناك من يمكنه أن يظن أن الظرف المطلوب توفره من أجل الإنجاز لم يتهيأ بعد.

ثالثاً: هناك مسلمون كثيرون مصابون بفقر شديد في الخيال، فهم خاضعون لمقولات مستعجلة أطلقها أعلام ومشاهير لم تنضج رؤيتهم لفيزياء التقدم ولا لطبيعة العلاقات التي تحكم قوى التحدي والاستجابة، ومن ثم فإنهم قد صاروا أشبه بمن وضع القيد بنفسه في رجليه في أجواء عاصفة وخطرة!.

إن الخيال نعمة كبرى من الله –جل وعلا-، وقد كان نابليون يقول: "إن مؤسساتنا مصابة بمحدودية الخيال، ولولا الخيال لكان الإنسان بهيمة". ويكفيني هنا لفت النظر إلى مسألة تتجلى فيها محدودية الخيال وعقمه الشديد:

من الواضح أن جمهرة غير قليلة من أبناء الجماعات والدعوات الإسلامية يعتقدون أن تطورات مذهلة سوف تطرأ على الحياة الإسلامية إذا قامت الدولة (الحلم) التي تسيّر شؤون الناس، ولهذا فإنهم عطلوا الكثير من الجهود، وأضاعوا الكثير من الفرص، وعلّقوا توازن أعداد هائلة من الناس على تحقيق ما يتطلّعون إليه!؛ بل إن الأمر تجاوز ذلك إلى ما هو أسوأ، وهو الاعتقاد بأنهم لا يستطيعون إنجاز أي شيء ذي قيمة إلا في ظل دولة إسلامية راشدة. وتلك الدولة ينبغي أن تكون من الطراز العمري، فإذا كانت من مستوى الحكومات الأموية أو العباسية، فربما كانت لا تستحق أقل من الثورة!.

هؤلاء الناس يتخيلون أن الحكومة الراشدة التي يحلمون بها سوف تكون على درجة عالية من الإخلاص والخلق والعلم وحسن التدبير والحنكة في تحفيز الجماهير على الكدح والعطاء، وعلى درجة عالية من الخبرة في حل المشكلات الداخلية ومواجهة التحديات الخارجية، مع أنهم لا يقولون لنا: أين ستكتسب (الدولة الحلم) هذه الخبرات الخطيرة؟ وفي أي بيئة ستتكون لدى أعمدتها هذه الصفات والأخلاق والمهارات الفذة والعجيبة؟ وهم ما فتئوا يشكون من سوء الأحوال وتدهور الزمان!.

في ظل هذه الدولة سوف يحدث ما يشبه الزلزال في النفوس والمجتمعات والعلاقات والتوجهات السائدة: في ظل تلك الدولة العجيبة سوف ينشط الكسول ويتعلم الجاهل، ويبذل الشحيح، ويقلع بذيء اللسان عن التفوه بالألفاظ القبيحة، ويكفّ مدمنو المخدرات والمكيفات عن تناولها، وسوف يحاول المدرس غير الكفء صقل مهاراته وإثراء ثقافته... كما أن العلمانيين والليبراليين وأصحاب المصالح المضادة سوف يسلمون لتلك الدولة (المعجزة) بالنزاهة والكفاءة معاً، ولذا فإنهم سوف يسلمون لها القيادة. والدول المناوئة في الخارج سترى أنه لا فائدة ترتجى من وراء مقارعة تلك الدولة؛ ولذا فإنها سوف تتجاهلها أو تهادنها...

وهكذا ستحدث تغيرات كونية هائلة لم تحدث في أي مرحلة من مراحل التاريخ! وحتى يحدث كل ذلك؛ فإن مما لا شك فيه أن طينة تلك الدولة ينبغي أن تكون خاصة، ولا مثيل لها ما دامت ستحقق إنجازات عديمة المثيل!.

وأنا أجزم أن تلك الجمهرة من الحالمين ستنقسم تجاه أفضل دولة إسلامية يمكن أن تقوم في أي مكان من الأرض إلى أقسام عدة: قسم يعمل معها بكفاءة وإخلاص؛ وهذا القسم قليل في أي زمان وأي مكان. وقسم يتمتع بالكفاءة؛ لكن ينقصه الإخلاص والاستقامة. وقسم ثالث يخلص؛ لكنه لانعدام خبرته لا يعرف كيف يخدم الدولة والأمة. أما القسم الرابع؛ فهو قسم منتفع وصولي، ليس من هؤلاء ولا أولئك. والقسم الخامس قسم معارض يرى أن الدولة التي سعى إلى إقامتها قد خانت رسالتها، وانحرفت عن مبادئها؛ فهو منهمك في ردها إلى المسار الصحيح.

أما القسم الأخير؛ فهو القسم الثائر الذي صارت أمنيته التخلص من تلك الدولة بأي وسيلة من الوسائل، ولو كانت استخدام الصنف وإشعال الحرب الأهلية!!.

هذه الأقسام لم نأت بها من نسج الخيال؛ بل هي مما عرفناه من سنن الله –جل وعلا- في الخلق، ومما فهمناه من طبائع الأشياء، وما وجدناه ونجده عند قراءة أي ثورة من الثورات التي تمكنت من الوصول إلى الحكم في بلاد إسلامية أو غير إسلامية.

ولعلي في المقال القادم أشرح شيئاً مما يمكن القيام به "في كل الأحوال"، ومن الله تعالى الحول والطول.


 1/2

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد ذكرت في المقال السابق أن موروثاتنا النفسية والجسمية... عن الآباء والأجداد وجهودنا الشخصية بالإضافة إلى البيئة التي نعيش فيها تشكل المؤثرات الجوهرية في كل عطاءاتنا وإنجازاتنا، وذكرت أنه مهما ساءت الظروف، وتعقدت الأوضاع، فستظل هناك إمكانية لعمل شيء ما، ومقال اليوم سيكون حول ذلك الشيء.
من المهم أن نعتقد في البداية أن أي جهد يبذله الواحد منا على صعيد إصلاح أحواله الشخصية والارتقاء بذاته، يصب بصورة من الصور في مصلحة أمته، حيث لا يمكن أن نبني أمة صالحة من أشخاص فاسدين، ولا مجتمعاً قوياً من أفراد ضعفاء، وإذا أردت أن تعرف موقع العالم الإسلامي على خارطة القوى العالمية، وأن تعرف مدى تأثيره الحالي في تحديد وجهة العالم؛ فانظر إلى أوضاع كل دولة من دوله على انفراد، فالموج لا يكون أبداً إلا من جنس مائه.
نحن اليوم في حاجة ماسة إلى أن نبلور ونرسخ ثقافة (الإنجاز المتجاوز) والتي تعني -فيما تعنيه- ألا يُؤخَّر شيء يمكن عمله الآن من أجل انتظار شيء سيحدث في المستقبل، وتعني كذلك تعزيز روح المبادرة الفردية لدى الإنسان المسلم وتعزيز روح الإيجابية، والتعامل مع المعطيات الجديدة بعقل وقلب مفتوحين؛ حيث إن معظم المسلمين ما زالوا يرزحون تحت وطأة موروثات عصور الانحطاط والتي يأتي في طليعتها الكسل والفوضى والتواكل والخوف من الجديد والتقليد والتبعية والتفكير الذري ومحدودية الطموحات والمجاراة الاجتماعية والمثالية الزائدة.
والآن اسمحوا لي أن أتحدث عن ثلاث قضايا أتصور أنها ذات أهمية قصوى بين القضايا الكثيرة التي يمكن القيام بها في جميع الأحوال:

1) المجاهدة من أجل تغيير سلم القيم.
هناك قيم عالمية مشتركة تهتم بها كل الثقافات وكل الحضارات، مثل: الصدق، والأمانة، والإحسان، والوفاء، وإغاثة الملهوف، والإتقان والتسامح، والعفو، والجدية، والدقة، والتملك، والرفاهية، والنظافة، والاقتصاد في بذل الجهد.. ويتعامل الناس مع هذه القيم في كل زمان ومكان على أنها مفردات في نسق عام، وهي في تواليها أشبه بدرجات السُلَّم، وتتم التضحية بالقيم الدنيا عند التعارض من أجل الاستمساك بالقيم العليا، فإذا كانت قيمة الصدق -مثلاً- لدى إنسان أعلى من قيمة المال؛ فإنه يلزم الصدق، ولو كان الكذب يجلب له المال الوفير، وحين تكون قيمة الخوف من الله -تعالى- لدى المسلم أعلى من قيمة الخوف من الناس؛ فإنه لا يبالي بغضب الناس إذا كانوا لا يرضون إلا بإغضاب الله، وحين يحلّ النعاس بأحدنا وتكون قيمة النوم عنده أعلى من قيمة تنظيف أسنانه؛ فإنه سينام دون أن ينظفها، وإذا كانت قيمة تنظيف الأسنان أعلى؛ فإنه سيقاوم النعاس إلى أن ينتهي من تنظيفها وهكذا...
المجاهدة في سبيل تغير سُلَّم القيم ينبغي أن تستهدف تحقيق أمرين أساسيين:
1- العبودية الحقة لله –تعالى- والالتزام بأمره في المنشط والمكره.
2- الفاعلية العالية في الإنجاز مع المثابرة على العمل الشاق بغية بلوغ الأهداف المرسومة.
وإن التغير في عاداتنا وسلوكاتنا هو الطريق لتحقيق هذا وذاك، ولو أن المسلم أخذ على عاتقه أن يتخلص من عادة سيئة كل ستة أشهر لتحل محلها عادة حسنة؛ فإنه يكون قد التزم بإجراء تعديلات مستمرة في سُلَّمه القيمي بما يحقق العبودية والفاعلية، ومع أن هذا الأمر ليس بالسهل؛ فإنه بالاستعانة بالله -تعالى- والعزيمة التي لا تلين يمكن إنجاز الكثير الكثير. وهذا التحدي سيظل ماثلاً أمام كل مسلم في كل الظروف وإلى أن يلقى ربه.

2) المشروع الشخصي:
علينا أن نقول إن وعينا مفتون بالإنجازات الكبيرة والانتصارات العظمى، مما زهّدنا في الاهتمام بالأمور الصغيرة والتفاصيل الدقيقة، مع أنه من غير الممكن التعامل مع القضايا الكبرى من غير تفتيتها وتنويع المداخل والطرق لحلها، فكرة المشروع الشخصي ما زالت غريبة عن المجتمعات الإسلامية ولدى معظم الناس، مع أنه قد يكون هو السبيل الأكثر يسراً والأقل تكلفة والأكثر نجاعة والأقل مخاطرة في إنقاذ الأمة من الحالة الحرجة التي صارت إليها في ظل قصور الداخل وضغوطات الخارج.
المشروع الشخصي يعني التزام المرء بإنجاز شيء يكرس له حياته أو جزءًا كبيرًا منها، وهو من أجل إتقانه وأدائه على أفضل وجه مستعد للتنازل عن بعض الرغبات وتفويت بعض المصالح وذوق طعم العناء.
المشروع الشخصي رؤية تتكون من الهدف والطاقة والإمكانية والبعد الزمني، ولا قيمة لتلك الرؤية إذا لم يتم تجسيدها في خطة عملية ومنطقية واضحة ودقيقة، من خلال مشروعنا الشخصي نعثر على الدور الأمثل الذي يمكن أن نؤديه في هذه الحياة، كما أننا نجيب من خلاله عملياً عن الأسئلة التي لا يتم التقدم الحقيقي من غير الجواب عنها.
وأهم تلك الأسئلة سؤالان ضاغطان؛ هما:
1- ما الشيء الذي نستطيع أن نفعله الآن لكننا لا نفعله؟
2- ما العمل الذي إن أديناه بطريقة جديدة تكون نتائجه أفضل؟
ومن المهم أن تكون الأهداف التي ننجزها من خلال ذلك المشروع متصلة بالهدف النهائي الذي على كل مسلم أن يسعى إلى بلوغه، وهو الفوز برضوان الله –تعالى-.
سوف تتقدم أمة الإسلام تقدماً باهراً إذا تمكن 5 % من أبنائها من تقديم نماذج راقية في العلم والتربية والأخلاق والسلوك والعلاقات الاجتماعية والإنتاج والإبداع، فالذي يغير معالم الحياة ليس الأفكار والحكم والمقولات - وإن كانت تشكل الأساس لأي ازدهار-؛ وإنما النماذج الراقية التي يتفاعل معها الناس، ويتخذون منها قدوات يقتدون بها.
الأمم الفقيرة ليست تلك التي لا تملك الكثير من الرجال، ولكنها الأمم التي يتلفت أبناؤها يمنة ويسرة، فلا يرون إلا رجالاً من الطراز الثالث أو الرابع، فيحدث ما يشبه الفتنة الثقافية والضياع السلوكي.
من الصعب أن يكون المرء نموذجاً في أمور كثيرة، لكن من الميسور أن يكون عادياً أو فوق العادي قليلاً في جل شؤونه، ويقدم نموذجاً رفيعاً في شأن أو اثنين أو ثلاثة.
إذا نظرنا في سير صفوة الصفوة من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم- لوجدنا أنهم من خلال براعة كل واحد وتفوقه في بعض الأمور تمكنوا من كتابة تاريخ صدر الإسلام، وتأسيس المرجعية الرمزية والشعورية والأخلاقية لأمة الإسلام بطولها وعرضها: هذا يقدم نموذجاً في العدل، وهذا في الأخلاق والتجرد، وهذا في الصدق والأمانة، وهذا في الثبات على المبدأ، وهذا في النبوغ العلمي والفقهي، وهذا في الحنكة العسكرية، وهذا في الكرم والجود، وهذا في البر بوالديه وأرحامه، وهذا في الحياء وللطف والطيبة... وهكذا تم رسم ملامح أفضل مراحل حضارة الإسلام وملامح أكرم الأجيال.
جمال فكرة المشروع الحضاري الشخصي أنه لا يحتاج إلى كثير مال وأحياناً لا يحتاج إلى أي مال. وهو ليس ذا مقاييس صارمة ومعالم محددة، ولذا فإن معظم الناس يستطيعون أن يهتموا بأمر من الأمور يصبحون من خلاله مناراً ومرجعية لغيرهم؛ ومن الذي يمنع المرء أن يقدم نموذجاً في التبكير إلى صلاة الجماعة أو خدمة والديه أو الحرص على الوقت أو التصبر والتحلم وسعة الصدر ...؟
من خلال المشروع الحضاري يحقق المرء لدينه وجماعته ودنياه الكثير من المكاسب، وهو في كل ذلك الكاسب الأول . لكننا نحتاج إلى شيء من البصيرة وشيء من التخطيط وكثير من الهمة والاهتمام وروح المثابرة.

3-المشاركة في الخدمة العامة:

يتجلى الكثير من عظمة الأمم وخيريتها في تمتعها بأعداد كبيرة من المهتمين بالشأن العام والناهضين للقضايا التي لا تدخل في مسؤولية أي جهة من الجهات. وإن في إمكان أي مسلم مهما كانت ظروفه وأوضاعه، ومهما كانت قدراته وإمكاناته أن يسهم في تحسين الحياة العامة وإشاعة الخير محاصرة الشر في البلد الذي يعيش فيه. وسيكون من الخطأ الظن أن الإحسان يقتصر على بذل شيء من المال للفقراء. لا ريب أن هناك مشكلات كثيرة لا يحلها إلا المال؛ لكن أيضاً هناك مشكلات كثيرة جداً لا تحتاج في حلها إلى أي مال. وقد كان عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – يخرج إلى السوق مع غلام له، ثم يعود دون أن يشتري أي شيء، وكان غلامه يستغرب، ويتساءل : لماذا كان ذلك ؟! وكان ابن عمر يجيبه أنه خرج من أجل السلام على الناس.
في المسلمين مظلومون يحتاجون إلى مناصرة، وفيهم جهلة يحتاجون إلى تعليم ومنحرفون يحتاجون إلى إرشاد، ومهمومون يحتاجون إلى مواساة... ولو أن كل مسلم بذل ساعة في الأسبوع في التعاون مع مؤسسة خيرية أو في عمل تطوعي عام لتغير وجه الحياة في عالمنا الإسلامي.
نحن أمة تتحدث كثيراً عن حب الخير وعمل الخير، لكن الأرقام والإحصاءات والنتائج الملموسة تدل على أننا في الأعمال التطوعية والأنشطة اللاربحية في مؤخرة الأمم. ويكفي القول: إن القطاع الثالث والذي يشمل الأعمال الخيرية واللاربحية في (إسرائيل) يستوعب 11% من القوة العاملة هناك؛ على حين أنه في أقطارنا الإسلامية لا يستوعب ولا واحداً في المئة!.
من خلال حبّات الرمل تتشكل صحارى شاسعة، ومن خلال قطرات الماء تتشكل بحار ومحيطات، ومن خلال الأعمال الصغيرة والمبادرات الفردية يتشكل مستقبل أمة إذا امتلكنا ما يكفي من العزيمة والوعي. والله ولي التوفيق.

 

عبدالكريم بكار
  • مقالات
  • إشراقات قرآنية
  • الصفحة الرئيسية