اطبع هذه الصفحة


شرح عمدة الأحكام (39)

خالد بن سعود البليهد

 
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) .

هذا الحديث في بيان خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وفيه مسائل:

الأولى: فيه أن الله تعالى قد خص نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بخصائص ومعجزات ومزايا عظيمة لا توجد في غيره من الأنبياء. وقد ذكر النبي خمسا وهي أكثر من ذلك كما جاءت الزيادة في رواية مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: (فضلت على الأنبياء بست). ومن أعظمها إعجاز وبيان القرآن الذي أوحاه الله له عن طريق جبريل. وقد خص الله كل نبي ورسول بشيء لكن أعظم نبي خصه الله وفضله على غيره من الرسل هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لحكمة أرادها الله وهو أنه خاتم الرسل ودينه مهيمن وناسخ لسائر الأديان السابقة. والله لعظم قدرته وسعة علمه وحكمته يخص من شاء من عباده بما شاء.

الثانية:
قوله: (نصرت بالرعب مسيرة شهر). هذه هي الخصيصة الأولى وهي أن الله عز وجل ألقى الهيبة والرعب في أعدائه يجدونها من مسافة بعيدة قدر مسيرة شهر. قال ابن حجر: (وهذه الخصوصية حاصلة له صلى الله عليه وسلم على الإطلاق حتى ولو كان وحده بغير عسكر). والمقصود بيان عظم المسافة فإذا قصد صلى الله عليه وسلم قوما لقتالهم بعث الله رعبا إليهم قبل قدومه عليهم عن طريق الريح وهي ريح الدبور كما ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور). متفق عليه. وهي الريح الشرقية. فالله سخر لنصرته جندا من جنده. و يحتمل أن كل من اتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعمل بها يناله حظ ونصيب من هذه الخصيصة بقدر ما معه من الحق.

الثالثة:
وفيه دليل على أن التيمم عند عدم الماء أو العجز عنه رافع للحدث كالماء لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصفه بالطهور فيطهر عن الحدث الصغر والأكبر فإذا تيمم المكلف ارتفع حدثه وصار طاهرا ما لم يحدث ولو خرج وقت الأولى ويصلي ما شاء من الفريضة والنافلة لأن حكم البدل حكم المبدل وهذا هو الصحيح في هذه المسألة وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد. وعلى هذا لا يبطل التيمم بخروج الوقت.

الرابعة:
اختلف الفقهاء في تعيين جنس المتيمم به فذهب الشافعي وأحمد إلى اشتراط التراب الذي له غبار في التيمم واستدلوا برواية: (وجعلت تربتها لنا طهورا). وذهب مالك إلى صحة التيمم بكل ما صعد على وجه الأرض سواء كان من جنس التراب أو غيره كالنبات والشجر والثلج والمعادن وذهب أبو حنيفة إلى صحة التيمم بكل ما كان من جنس الأرض كالرمل والتراب والنورة والحصى ونحوه ولم يشترطوا التراب أما ما كان ليس من جنس الأرض فلا يصح التيمم به وهذا هو الصحيح لظاهر قوله تعالى: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا). والصعيد هو كل ما تصاعد فوق وجه الأرض كما نص أهل اللغة بأن الصعيد: هو وجه الأرض سواء كان عليه تراب أو لم يكن. قال الزجاج: لا أعلم فيه خلافا بين أهل اللغة . ولعموم الحديث ولأن الصحابة كانوا يمرون على أراضي لا يوجد فيها التراب ولم ينقل أنهم أمروا بحمل التراب وقصد التيمم به. أما رواية التربة فلا تدل على تخصيص الحكم بالتراب لأن ذكر بعض أفراد العموم لا يقتضي التخصيص كما هو مقرر في الأصول وإنما ذكر على سبيل الغالب أو غيره. ولا شك أن تخصيص التيمم بالتراب يتعذر في كثير من الأماكن والبقاع مما يفضي إلى تعذر التيمم ولو كان هذا المعنى مقصودا لصرح به الشارع وبينه فيما لا يختلف فيه.

الخامسة:
فيه دليل على أن الأصل في جميع الأرض والبقاع الطهارة وجواز الصلاة فيها إلا ما نهى الشرع عن الصلاة فيها كمعاطن الإبل والمقبرة والحمام وغيرها مما اختلف الفقهاء فيها ولا يصح فيها حديث. فالأصل إباحة الصلاة في كل موضع إلا إذا اشتمل على محظور كنجاسة أو تصاوير أو إضرار بالغير أو ذريعة للشرك ونحو ذلك مما يفسد الصلاة أو ينقص ثوابها. وقد اختلف الفقهاء في صلاة الفريضة في جوف الكعبة وسطحها والصحيح أنها جائزة كالنافلة.

السادسة:
في الحديث أن الله أباح لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأمته تملك الغنائم والانتفاع بها لقوله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا). وقد كانت محرمة عل سائر الأنبياء في جميع الشرائع فكانوا إذا غنموا شيئا جمعوه في صعيد واحد ثم نزلت نار من السماء فأكلته وكان ذلك علامة على قبول عبادتهم ثم لطف الله بأمة محمد ورفع عنها الحرج والآصار التي كانت على من قبلهم فأباحها لهم لما علم من ضعفهم وحاجتهم إليها كما جاء في الحديث: (ثم أحل الله لنا الغنائم رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا). فدين الإسلام الذي جاء به محمد رسول الله من أيسر الأديان وأسمحها وأرفقها بالعباد وأتما في إشباع رغبات الإنسان وتفقد حاجاته.

السابعة:
ودل الحديث على ثبوت الشفاعة العظمى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهي تعجيل الفصل بين العباد يوم القيامة وإنهاء حبسهم وانتظارهم بإذن الله بعد أن يتهيب جميع الأنبياء عن الشفاعة في ذلك الموقف الرهيب والمشهد العظيم. وهذه الشفاعة هي المقام المحمود المذكور في قوله تعالى: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا). ففي ذلك اليوم يحمده الأولون والآخرون ويتجلى شرف النبي صلى الله عليه وسلم وعلو منزلته على سائر الخلق مما يغبطه عليه الأنبياء. وقد دلت السنة الصحيحة على شفاعات أخرى منا ما هو خاص بالنبي محمد ومنها ما هو عام. وأهل السنة والجماعة يثبتون الشفاعة الواردة في الكتاب والسنة بشروطها وأما الخوارج والمعتزلة فينكرونها بناء على أصلهم الفاسد في تكفير أهل الكبائر.

الثامنة:
فيه دليل صريح على عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى سائر الخلق إنسهم وجنهم عربهم وعجمهم أبيضهم وأسودهم وأحمرهم وأصفرهم. فخاطب النبي صلى الله عليه وسلم سائر الأمم والشعوب على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وأعراقهم سواء من كان منهم منتسبا لدين سابق أو بلا دين وبهذا يكون خاتم النبيين ويكون دينه ناسخا ومبطلا لجميع الأديان السابقة مزيلا لها. قال تعالى: (وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ). وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ). وثبت في صحيح مسلم: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار ). أما الأنبياء فكان كل واحد منهم دعوته خاصة في قومه ولا يخاطب عامة الناس.


خالد بن سعود البليهد
عضو الجمعية العلمية السعودية للسنة
binbulihed@gmail.com
8/3/1430

 

خالد البليهد
  • النصيحة
  • فقه المنهج
  • شرح السنة
  • عمدة الأحكام
  • فقه العبادات
  • تزكية النفس
  • فقه الأسرة
  • كشف الشبهات
  • بوح الخاطر
  • شروح الكتب العلمية
  • الفتاوى
  • كتب
  • الصفحة الرئيسية