اطبع هذه الصفحة


تسلية العانس

خالد بن سعود البليهد

 
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد
فإن زواج المرأة من أنفع الأمور التي تصلح بها حياة المرأة المسلمة وتتال السعادة في الدارين وتتحقق لها من خلاله مصالح متعددة من إعفاف وسكن واستقرار وولد وأنس وغنى وغيرها. قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

ولكن قد لا توفق المرأة للزواج ولا يأتيها الحظ في هذا الشأن لأسباب كثيرة خاصة تتعلق بها أو عامة من دينية واقتصادية واجتماعية ووظيفية ، وتفصيل هذا يطول ليس هذا محله وقد كتب كثيرا في هذا المجال.

وإذا أصبحت المرأة عانسا لأمر ما وفاتها قطار الزواج كما يقال فإنها غالبا تعيش في هم ونكد وحزن وعذاب نفسي وشبح يطاردها ويتجدد هذا الحزن والأسى كلما تعرضت لموقف أو مشهد يلامس عواطفها ويحرك رغباتها الفطرية أو تعرضت لنقد وكلام يجرح مشاعرها أو يقلل من شأنها. وإذا استمر معها هذا الشعور والإحساس المجروح قد يسبب لها أزمات وأمراضا نفسية وربما أوقعها في الانحراف والرذيلة إذا وافق ذلك أسرة مفككة ومعاملة قاسية وحرمانا عاطفيا.

إنه لا مخرج للعانس من هذه الدوامة بعد إذن الله وتوفيقه إلا بالوعي والثقافة الصحيحة المستندة على المفاهيم الدينية الصحيحة وقواعد التربية السليمة والتجارب الناجحة.

ينبغي على العانس أن تتفهم المرحلة التي تمر بها وتوطن نفسها على الصبر على ذلك وتمعن النظر والتأمل في الأمور الآتية التي تسليها وتهون مصابها:

أولا: أن تعلم أن عدم توفيقها للزواج أمر كتبه الله عليها والواجب عليها أن ترضى وتسلم بما كتبه الله عليها وتفوض أمرها لله فإن فعلت اطمأنت وسكنت نفسها. قال تعالى: (مآ أَصَابَ مِن مّصِيبَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ). قال علقمة: (هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم).
ثانيا: ولتعلم أيضا أن الله قدر ذلك لها لحكمة عظيمة قد تخفى عليها فالله لا يقضي أمرا شرا أو خيرا إلا لحكمة فالأقدار كلها قدرت لتحصيل مصلحة راجحة أو درء مفسدة راجحة ليست عبثا. ولم يقدر الله قدرا شرا محضا بل يكون فيه خير من جانب آخر.
ثالثا: ولتعلم أنه قد يكون عدم الزواج بالنسبة لها أفضل وأحسن حالا من الزواج فصرفه الله عنها دفعا لما أعظم من الشرور فقد يكون زواجها فتنة عليها وبلاء يعرضها للعقوبة العاجلة أو الآجلة.
رابعا: أن تدرك أن عدم توفيقها للزواج ليس نهابة الحياة بالنسبة لها وليست السعادة محصورة في هذه الحال بل السعادة لها أسباب كثيرة حسية ومعنوية إذا حصلتها سعدت بها ومن أعظمها الإيمان والعمل الصالح. فال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). قال ابن عباس: (هي السعادة).
خامسا: أن توقن أنه إذ كان الله قد منعها هذه النعمة الطيبة فقد رزقها نعما أخرى كثيرة منها الصحة والعافية والهداية والمال ولا يحصيها إلا الله. قال تعالى: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا). قال أبوالدرداء: (من لم ير نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه وحضر عذابه).
سادسا: أن تدرك أن هذه الحال التي ظاهرها الحزن والحرمان تتجلى فيها منحة وهي التفرغ وعدم الانشغال والالتزام بأعباء الزوج والعيال فإذا وظفتها وشغلتها بالخير كانت نعمة جليلة وغبطة لها.
سابعا: أن تعلم أن ما يصيبها من هم وحزن وألم من جراء ذلك هو خير تؤجر عليه وتكفر خطاياها وترفع منزلتها وهذا يهون عليها. قال رسول صلى الله عليه وسلم: (عجبا لأمر المؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له: إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن). رواه مسلم.
ثامنا: ينبغي على العانس أن تشغل وقتها بالأعمال الناجحة والبرامج المفيدة مما يعود على إصلاح دينها ودنياها. إن شغل الوقت بالعمل المتجدد الدؤوب المعطاء الذي له أثر حسن على تسلية العانس وسلوها عن فقد الزواج والأولاد.
تاسعا: ينبغي لها أن تحسن التوكل على الله وتعتمد عليه حق الاعتماد وتحسن الظن بربها وتلتجئ إليه في كشف همها وتنفيس كربها بالصلاة والدعاء والذكر وحفظ الجوارح وتكون متفائلة بحصول الخير منه ومن اتصل بالله وأنزل همه به أصلح حاله ولم يضيعه.

إن أعظم ما يسعد العانس ويدخل على قلبها السرور بذل الجهد في سبيل إسعاد الآخرين من المحرومين والفقراء والمساكين والأيتام واللقطاء فإن قلبها يسعد وينشرح إذا رأت الفرحة في وجوه الآخرين وتشعر حينها أن لها دورا عظيما في الحياة وأن لها قيمة في المجتمع.

إن عدم انشغال العانس يأمر ذي بال ووقوعها في الفراغ له أثر سيئ في جلب الأحزان والهموم وتمكن الشيطان من قلبها وفتح عليها باب الندم والألم بسبب فقدها الزواج فتصبح نهبا للوساوس والأفكار السيئة وقد يحملها ذلك على طلب المتعة عن طريق العلاقات المحرمة.

إن على العانس أن تملأ حياتها وتوجه طاقتها من عاطفة وفكر واهتمام ومشاعر في أمور نافعة تجد نفسها فيه من اشتغال بطلب العلم والثقافة ومشاركة في الدعوة إلى الله ومشاريع تطوعية إنسانية وهوايات مبدعة مفيدة وغير ذلك مما تستفرغ فيه جهدها وتشغل بالها. أما بقاؤها عاطلة وشعورها بالوحدة وتفاعلها واستجابتها لحاجاتها الفطرية يوقعها في الاكتئاب والاضطرابات النفسية.

إن أخطر أمر على العانس يجعل حياتها جحيما وعذابا ملازما استحضار حالة العنوسة في فكرها وأن تلوم نفسها وتنتقد تصرفاتها على سبيل الدوام واعتقادها أنها هي السبب الوحيد في عدم توفيقها في أمر الزواج. فجلد الذات وممارسة اللوم والعقاب المستمر وتحميل المجتمع المسؤولية والحقد عليه يجعلها تعيش حالة اليأس والحزن السلبي الذي يترتب عليه مفاسد وشرور. ولو تأملت وتفكرت أن العنوسة التي حلت بها لا تخلو من حالتين:
1- أن لا يكون لها علاقة مباشرة وتدخل وإنما انصرف عنها الأزواج لأمر لا تملك فيه خيار ولا قرار بل هي موانع أوجدها الله فيها وفي ظروفها من عاهة أو نقص أو تعسر حال أو عضل ولي ليس في مقدورها تجاوزها. ففي مثل هذه الحالة لا يليق بها أبدا أن تلوم نفسها لأنها لم تسبب في ذلك.
2- أن يكون ما حل بها بسبب منها مباشر وتدخل فقد كانت ترفض الأزواج وتتعنت في الشروط وتتشدد في الأوصاف والمؤهلات فانصرف الأزواج عنها. فهذه الحالة أيضا لا يحسن بها أن تلوم نفسها لأنه خطأ فات وانقضى وأصبح في عداد الزمن الماضي ولا يليق بالمؤمن أن يعاتب نفسه ويعاقبها على أمر فات لا يملك استدراكه بل هو باب يلج منه الشيطان ليحزنه ويصرفه عن الخير وقد قال الله تعالى في توجيه المؤمنين: (لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ). قال عكرمة: (ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن، ولكن اجعلوا الفرح شكرا والحزن صبرا). فالمشروع لها أن تتجاوز هذه المرحلة وتنسى وتتناسى وتعيش حاضرها وتتطلع للمستقبل المشرق بإذن الله.

ينبغي على العانس أن لا تيأس من حصول الخير ونزول الرحمة فيما يأتي من حياتها فلا تيأس من روح الله ولا تغلق باب التفاؤل ، وأن تكون متعقلة واعية واقعية في اتخاذ القرار إذا سنحت لها فرصة ولو كان فيها شيء من النقص ما دام أن المصلحة راجحة فإن تقدم لها رجل متزوج وهو كفء ذو دين وخلق أو رجل كبير فلتستخر وتشاور أهل الحكمة ثم تقبل به ليتسنى لها العفاف والرعاية والذرية الصالحة التي تصلها بالبر في حياتها ومماتها. وكم من امرأة عاقلة قبلت بذلك فاغتبطت وسعدت وكانت حياتها إلى الأفضل.

ويجب على مجتمعها الخاص والعام أن يتفهم وضعها الحساس والدقيق وأن يتعامل معها بكل رفق ولين ولا يحرجها في المناسبات ولا يجرح مشاعرها ولا يتعامل معها على أنها مسكينة أو محرومة محلا للرحمة والشفقة. بل عليه أن يعاملها معاملة طبيعية لا يشعرها بالدون أو يؤثر عليها المرأة المتزوجة.

ولا يحق للأسرة أن تستغل فراغها وتخصها بتكاليف أعمال المنزل وواجبات الأسرة دون مراعاة لنفسيتها وحقوقها الخاصة ومصالحها بل عليها أن تعدل في توزيع المهام بين أفرادها ولا تحملها مالا تطيق بحجة أنها بلا زوج فإن هذا لا يسوغ شرعا إلا إذا تبرعت بذلك عن طيب نفس منها.

ومن احتسب الأجر من أهلها وأحسن معاملتها وراعى حاجاتها الخاصة لا سيما حال الكبر وموت والديها وتفرغ لقضاء حوائجها وكفل لها الحماية والأمان الأسري كان له ثواب عظيم وفضل عميم لأن الغالب على العانس إذا كبرت وانقطع رجاؤها من الزواج أهملت وضاعت حالها وقل من يعتني بها.

خالد بن سعود البليهد
عضو الجمعية العلمية السعودية للسنة
binbulihed@gmail.com
29/12/1430

 

خالد البليهد
  • النصيحة
  • فقه المنهج
  • شرح السنة
  • عمدة الأحكام
  • فقه العبادات
  • تزكية النفس
  • فقه الأسرة
  • كشف الشبهات
  • بوح الخاطر
  • شروح الكتب العلمية
  • الفتاوى
  • كتب
  • الصفحة الرئيسية