صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







طاعة الأئمة من أصول أهل السنة

خالد بن سعود البليهد

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

فإن السمع والطاعة للأئمة من أصول أهل السنة والجماعة العظيمة التي أوجبها الله على عباده وألزمهم بها قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ). وقال صلى الله عليه وسلم: (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة). متفق عليه. وفي الصحيحين قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا). والأحاديث في هذا الباب مستفيضة محفوظة عند أهل السنة قال صديق حسن خان القنوجي: (وطاعة الأئمة واجبة إلا في معصية الله باتفاق السلف الصالح لنصوص الكتاب العزيز والأحاديث المتواترة في وجوب طاعة الأئمة وهي كثيرة جدا).

وقد أجمع أهل السنة على هذا الأصل وأكثر الأئمة من بيانه قال سفيان الثوري لشعيب بن حرب: (ياشعيب لا ينفعك ما كتبت حتى ترى الصلاة خلف كل بر وفاجر). وقال علي ابن المديني: (ثم السمع والطاعة للأئمة وأمراء المؤمنين البر والفاجر ومن ولى الخلافة بإجماع الناس ورضاهم لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الأخر أن يبيت ليلة إلا وعليه إمام برا كان أو فاجرا فهو أمير المؤمنين والغزو مع الأمراء ماض إلى يوم القيامة البر والفاجر لا يترك). وقال أحمد ابن حنبل: (والسمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البر والفاجر).
وقال ابن أبي حاتم:
(سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار وما يعتقدان من ذلك فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازا وعراقا وشاما ويمنا فكان من مذهبهم وذكرا أمورا ثم قالا: ونقيم فرض الجهاد والحج مع أئمة المسلمين في كل دهر وزمان ولا نرى الخروج على الأئمة ولا القتال في الفتنة ونسمع ونطيع لمن ولاه الله عز وجل أمرنا ولا ننزع يدا من طاعة ونتبع السنة والجماعة ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة). وقال الطحاوي: (ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا ولا ندعو عليهم ولا ننزع يدا من طاعتهم ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية وندعو لهم بالصلاح والمعافاة). وقال أبو بكر الإسماعيلي: (ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والعطف إلى العدل ولا يرون الخروج بالسيف عليهم ولا قتال الفتنة ويرون قتال الفئة الباغية مع الإمام العدل إذا كان وجد على شرطهم في ذلك). وقال ابن بطة العكبري: (وقد اجتمت العلماء من أهل الفقه والعلم والنساك والعباد والزهاد من أول هذه الأمة إلى وقتنا هذا أن صلاة الجمعة والعيدين ومنى وعرفات والغزو والجهاد والهدي مع كل أمير بر وفاجر). وقال ابن أبي زمنين: (ومن قول أهل السنة أن السلطان ظل الله في الأرض وأنه من لم ير على نفسه سلطانا برا كان أو فاجرا فهو على خلاف السنة). وقال أبو منصور الأصبهاني: (ثم من السنة الانقياد للأمراء والسلطان بأن لا يخرج عليهم بالسيف وإن جاروا وأن يسمعوا له وأن يطيعوا وإن كان عبدا حبشيا أجدع. ومن السنة الحج معهم والجهاد معهم وصلاة الجمعة والعيدين خلف كل بر وفاجر). وقال أبو عثمان الصابوني: (ويرى أصحاب الحديث الجمعة والعيدين وغيرهما من الصلوات خلف كل إمام مسلم برا كان أو فاجرا ويرون جهاد الكفرة معهم وإن كانوا جورة فجرة ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والتوفيق والصلاح ولا يرون الخروج عليهم وإن رأوا منهم العدول عن العدل إلى الجور والحيف ويرون قتال الفئة الباغية حتى ترجع إلى طاعة الإمام العدل). وقال ابن قدامة: (ونرى الحج والجهاد ماضيان مع كل إمام برا كان أو فاجرا وصلاة الجمعة خلفهم جائزة). وقال ابن تمية: (ولهذا كان من أصول السنة والجماعة لزوم الجماعة وترك قتال الأئمة وترك القتال في الفتنة).

ولم ينقل عن أحد من السلف المعتبرين لا من الصحابة فمن بعدهم مخالفة هذا الأصل أو القول بعدم لزوم الطاعة وجواز الخروج على الأئمة اللهم إلا خلافا عن بعض التابعين لكن هذا الخلاف وقع في الفتنة قبل أن تدون عقيدة أهل السنة والجماعة ثم لما انكشفت الفتنة واتضحت الأمور تقرر هذا الأصل واستقر الإجماع عليه وبينه أئمة السنة وهو الموافق للنصوص الصريحة من الكتاب والسنة وصار ما حفظ من الخلاف اليسير شاذ لا يلتفت إليه لمخالفته للنصوص ومسلك الجماعة فلا يسوغ لأحد من المتأخرين الاستدلال به. قال ابن تيمية: (ولهذا استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم وإن كان قد قاتل في الفتنة خلق كثير من أهل العلم والدين). وقال ابن حجر: (وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء).

ولو ثبت تجويز الخروج لأحد من أهل العلم فلا حجة بقوله ولا عبرة بمذهبه ما دام أنه مخالف للسنة وخارج عن قول الجماعة وقد أنكر أئمة السنة وردوا على من زلت قدمه في هذا الباب من أهل العلم وألحقوا قوله بمذهب الخوارج وشنعوا به قال أبو نعيم: (دخل الثوري يوم الجمعة من الباب القبلي فإذا الحسن بن صالح يصلي فقال: نعوذ بالله من خشوع النفاق وأخذ نعليه فتحول إلى سارية أخرى). وقال أبو نعيم: (ذكر الحسن بن صالح عند الثوري فقال: ذاك رجل يرى السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم). وقال بشر بن الحارث: (كان زائدة يجلس في المسجد يحذر الناس من ابن حي وأصحابه قال: وكانوا يرون السيف). فليست العبرة بكثرة الرواية وصلاح الديانة إنما العبرة باتباع السنة ولزوم الجماعة. وقد تسرب قول المعتزلة من انعزال الإمام لفسقه وظلمه إلى بعض الفقهاء المتأخرين فشذوا عن مذهب أهل السنة قال النووي: (وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق وأما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض أصحابنا أنه ينعزل وحكي عن المعتزلة أيضا فغلط من قائله مخالف للإجماع). ومن علامة اتباع الهوى أن يعرض المرء عن دلالة الأحاديث الصحيحة ومنصوص عقائد أئمة السنة وفقه تعاملهم مع أئمة الجور ويستدل بأقوال شاذة وآثار مشكلة والموفق من وفقه الله وجنبه أسباب الفتن.

وإنما شرع الله للمؤمنين طاعة الأئمة ولو كانوا فسقة ظلمة لما يترتب على ذلك من المصالح والفوائد العامة والخاصة للأمة من اجتماع الكلمة وتوحيد الصف وأمن الطريق وإقامة الشرع وإظهار الشعائر وتيسير كسب العيش والقيام بمصالح الخلق وغير ذلك
قال الفاروق عمر رضي الله عنه: (لا دين إلا بجماعة ولا جماعة إلا بإمامة ولا إمامة إلا بسمع وطاعة). وقال الحسن البصري: (هم يلون من أمورنا خمسا: الجمعة والجماعة والعيد والثغور والحدود والله لا يستقيم الدين إلاَّ بهم وإن جاروا وظلموا والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون مع أن طاعتهم والله لغبطة وأن فرقتهم لكفر). وقال ابن رجب الحنبلي: (وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين ففيها سعادة الدنيا وبها تنتظم مصالح العباد في معاشهم وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم كما قال على بن أبي طالب رضي الله عنه: إن الناس لا يصلحهم إلا إمام بر أو فاجر إن كان فاجرا عبد المؤمن فيه ربه وحمل الفاجر فيها إلى أجله). ولا يعرف قدر هذه النعمة إلا من فقدها ووطأ بقدميه حر جمر فتنتها. وقال عبد الله بن المبارك:

إن الجماعة حبل الله فاعتصموا             منه بعروته الوثقى لمن دانا    
كم يدفع الله بالسلطان معضلة              في ديننا رحمة منه ودنيانا    
لولا الخلافة لم تأمن لنا سبل                وكان أضعفنا نهبا لأقوانا
 

والإمام الذي تلزم طاعته من كان منتسبا للإسلام مظهرا لشعائر الدين سواء اختاره أهل العدل والفضل أو غلب على المسلمين بسيفه وقهرهم بسلطانه قال الشافعي: (كل من غلب على الخلافة بالسيف حتى يسمى خليفة ويجمع الناس عليه فهو خليفة). وقال أحمد بن حنبل: (ومن ولي الخلافة واجتمع الناس عليه ورضوا به وما غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين). وهذا محل إجماع بين أهل السنة ولا عبرة بمن خالفهم وشذ من الخوارج والمعتزلة وغيرهم من أهل البدع.

وتصح إمامة الحاكم لبلد أو إقليم ويعطى حكم الإمام الشرعي ولا يشترط لصحة ولايته أن يكون خليفة لسائر البلاد وعلى هذا جرى عمل المسلمين منذ القديم ولا يسع الناس إلا هذا وليس في الأدلة الصحيحة ما يمنع ذلك أو يدل على بطلان إمامته وقد روى البخاري من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة). وقال محمد بن عبد الوهاب: (الأئمة مجمعون من كل مذهب على أن من تغلب على بلد أو بلدان له حكم الإِمام في جميع الأشياء ولولا هذا ما استقامت الدنيا لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا ما اجتمعوا على إمام واحد ولا يعرفون أحدا من العلماء ذكر أن شيئا من الأحكام لا يصح إلا بالإمام الأعظم).

والمؤمن السني يتعبد الله عز وجل بطاعته للإمام رجاء ثواب الله وخشية من عقابه وامتثالا لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ولا يفعل ذلك رجاء لعطاء الحاكم وخوفا من سطوته ولا يجعل بيعته وطاعته في مقابل عرض الدنيا ولذلك ورد الوعيد فيمن بايع لأجل الدنيا ثم غدر في بيعته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل ورجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه وهو على غير ذلك ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا فإن أعطاه منها وفى وإن لم يعطه منها لم يف). متفق عليه. وبعض الجهال يطيعون السلطان نفاقا طمعا في الجاه والدنيا ولا يتعبدون الله بذلك قال ابن تيمية: (فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمور فأجره على الله ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم وإن منعوه عصاهم فما له في الآخرة من خلاق).

وإنما تجب طاعة الإمام في المعروف وتحرم في المعصية لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة فِي معصية الله إنما الطاعة في المعروف). متفق عليه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الله عز وجل). رواه أحمد. والمراد بالمعروف في النصوص كل أمر ليس فيه معصية قال البخاري: (باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية). وقال السعدي مبينا ضابط طاعة ولي الأمر: (هذا الحديث قيد في كل من تجب طاعته من الولاة والوالدين والزوج وغيرهم فإن الشارع أمر بطاعة هؤلاء وكل منهم طاعته فيما يناسب حاله وكلها بالمعروف فإن الشارع رد الناس في كثير مما أمرهم به إلى العرف والعادة كالبر والصلة والعدل والإحسان العام فكذلك طاعة من تجب طاعته وكلها تقيد بهذا القيد). فكل أمر فيه مصلحة للرعية وليس فيه مخالفة للشرع فداخل في الطاعة الواجبة فإذا أمر الحاكم بأمر ليس فيه منكر سواء كان مشروعا في الأصل أو مباحا وجبت طاعته في جميع ما يأمر به من الأوامر وحرمت مخالفته ويأثم المخالف لأنه عصى ولي الأمر في المعروف وطاعة ولي الأمر من طاعة الله ورسوله لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني). متفق عليه. أما من زعم أن طاعة ولي الأمر مقتصرة على العمل المشروع فقط ولا طاعة له في الأمور المباحة المبنية على تحقيق المصلحة العامة فقد أخطأ وخالف النصوص الصريحة ولا يعرف هذا القول عن أحد من أئمة السنة المعتبرين بل قد جرى عمل السلف الصالح على التزام طاعة أئمتهم ما لم يأمروا بمعصية ولو كانت طاعته مقتصرة على الأعمال المشروعة لم تكن لطاعته فائدة ولم يقرن الله بين طاعته وطاعة ولي الأمر ولأصبح الناس فوضى لا تستقيم حياتهم ولأن المقصود من طاعة ولي الأمر إصلاح حال الرعية وتنظيم شؤونهم وإقامة دينهم والقيام بمصالحهم وحماية بلادهم وترك طاعته يفوت هذا المقصود وعدم التزام طاعة الإمام في المعروف هو نوع خروج عن طاعته ومن القواعد الفقهية المعتبرة التي تضبط تصرفات الولاة على الرعية وتنظم السياسة الشرعية قاعدة: (التصرف على الرعية منوط بالمصلحة). قال الشافعي: (منزلة الوالي من رعيته بمنزلة والي مال اليتيم من ماله). أما إذا أمر ولي الأمر بمعصية أيا كانت فلا تجوز طاعته في هذه المعصية فقط ويطاع فيما سوى ذلك. ومن أظهر الأدلة في السنة على أن الأصل في تعامل الرعية مع أوامر الأمير وتوجيهاته التزام طاعته وتنفيذ أوامره في كل ما يأمر به ما لم يأمر بمعصية ظاهرة حديث السرية المخرج في صحيح البخاري عن علي رضي الله عنه قال:
(بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فاستعمل رجلا من الأنصار وأمرهم أن يطيعوه. فغضب فقال: أليس أمركم النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني. قالوا: بلى. قال: فاجمعوا لي حطبا فجمعوا. فقال: أوقدوا نارا فأوقدوها. فقال: ادخلوها فهموا وجعل بعضهم يمسك بعضا ويقولون: فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من النار فما زالوا حتى خمدت النار فسكن غضبه. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة الطاعة في المعروف).

وطاعة الأئمة من أعظم ما يميز أهل السنة عن أهل البدعة فهو شعار لهم لأنهم يدعون إلى الألفة والجماعة وائتلاف الكلمة وهذا من خصائصهم أما أهل البدع كالخوارج والمعتزلة وغيرهم فشعارهم الذي يميزهم الطعن في الأئمة والخروج عليهم ولذلك قال ابن المنذر: (ذكر الأمر بطاعة السلاطين وإن جاروا في بعض الأحكام خلاف الخوارج ومن رأى مثل رأيهم في الخروج على الأئمة). وقال البربهاري: (واعلم أن الأهواء كلها ردية كلها تدعوا إلى السيف). ومراده أن كل صاحب بدعة تؤول به بدعته وتفضي به إلى التعصب لها ومخالفة الجماعة والخروج على إمامهم. وقال ابن تيمية: (أهل البدع من الخوارج والشيعة والمعتزلة وغيرهم يرون قتال أئمة الجور والخروج عليهم إذا فعلوا ما هو ظلم أو ما ظنوه هم ظلما ويرون ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

والصبر على أئمة الجور وعدم الخروج عليهم واجتناب المشاركة في قتال الفتنة من أعظم سمات أهل السنة قال الآجري: (قد ذكرت من التحذير عن مذاهب الخوارج ما فيه بلاغ لمن عصمه الله عز وجل الكريم عن مذهب الخوارج ولم ير رأيهم وصبر على جور الأئمة وحيف الأمراء ولم يخرج عليهم بسيفه وسأل الله العظيم أن يكشف الظلم عنه وعن جميع المسلمين ودعا للولاة بالصلاح وحج معهم وجاهد معهم كل عدو للمسلمين وصلى خلفهم الجمعة والعيدين وإن أمروه بطاعتهم فأمكنته طاعتهم أطاعهم وإن لم يمكنه اعتذر إليهم وإن أمروه بمعصية لم يطعهم وإذا دارت بينهم الفتن لزم بيته وكف لسانه ويده ولم يهو ما هم فيه ولم يعن على فتنة فمن كان هذا وصفه كان على الطريق المستقيم إن شاء الله تعالى). وقال ابن تيمية: (وبذلك مضت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أمر بقتال الخوارج عن السنة وأمر بالصبر على جور الأئمة وظلمهم والصلاة خلفهم مع ذنوبهم وشهد لبعض المصرين من أصحابه على بعض الذنوب أنه يحب الله ورسوله ونهى عن لعنته وأخبر عن ذي الخويصرة وأصحابه مع عبادتهم وورعهم أنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية).

وطاعة الإمام من سلامة صدر المؤمن ونصحه وحبه للمسلمين وإرادة الخير لهم لأنه قدم مصلحة الجماعة في الأثرة على مصلحته الخاصة ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم إخلاص العمل لله ومناصحة ولاة الأمور ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من ورائهم). رواه الترمذي وصححه. فالمؤمن لا يبغض قلبه ولا يكره هذه الخصال الثلاث التي يرضاها الله ورسوله وفيها صلاح العباد والبلاد.

وظلم الحاكم وفسقه لا يسوغ أبدا شرعا عصيانه وترك طاعته ونزع يد الطاعة عنه ولو ظلم وأسرف واستأثر بأموال العباد وأنزل الضر بهم فعن سويد بن غفلة قال: قال لي عمر بن الخطاب: (لعلك أن تخلف بعدي فأطع الإمام وإن كان عبدا حبشيا وإن ضربك فاصبر وإن حرمك فاصبر وإن دعاك إلى أمر منقصة في دنياك فقل سمعا وطاعة دمي دون ديني). رواه الآجري بإسناد صحيح. وفي مسند أحمد عن حذيفة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإن كان لله يومئذ في الأرض خليفة جلد ظهرك وأخذ مالك فالزمه). وفي حديث عبادة: (اسمع وأطع فِي عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة علينا وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك إلا أن يكون معصية). رواه ابن حبان وأصله في الصحيحين. وقال حرب الكرماني: (وإن أمرك السلطان بأمر فيه لله معصية فليس لك أن تطيعه البتة وليس لك أن تخرج عليه ولا تمنعه حقه). فالواجب على المسلم حينئذ الصبر على ظلمهم وطاعتهم في الحق ونصحهم ومطالبتهم بالحقوق بالمعروف فإن قبلوا وإلا احتسب الثواب وفوض الأمر لله ورجا ما عنده من القصاص يوم القيامة كما ثبت في الصحيحين لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أمراء تعرفون وتنكرون قال له الصحابي فما تأمرنا: قال:
(أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم).

ومن اعتقد أن ظلم الحاكم وفسقه سبب شرعي لترك طاعته أو الخروج عليه فقد أخطأ وخالف السنة الصريحة ومذهب أئمة السلف ووافق المعتزلة والخوارج في مذهبهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة). رواه مسلم. ولا يسوغ له الاحتجاج بقتال بعض أهل الديانة والقراء في الفتنة لأن الأمر اشتبه عليهم وهم مخطئون في اجتهادهم وقد زلت قدمهم مع ثبوت فضلهم ومراعاة حرمتهم وقد أنكر عليهم وعارضهم غيرهم من فقهاء الأئمة ولا تعارض السنة المتواترة والإجماع بأفعال الناس واجتهاداتهم ومع ذلك فإن هذه الفتن التي وقعت في صدر الإسلام لها ملابسات وأحوال تخفى علينا فهي من المتشابه الذي يرد إلى المحكم من النصوص والقواعد الشرعية قال عمرو بن يزيد صاحب الطعام: سمعت الحسن البصري أيام يزيد بن المهلب يقول: (وأتاه رهط فأمرهم أن يلزموا بيوتهم ويغلقوا عليهم أبوابهم ثم قال: والله لو أن الناس إذا ابتلوا من قبل سلطانهم صبروا ما لبثوا أن يرفع الله عز وجل ذلك عنهم وذلك أنهم يفزعون إلى السيف فيوكلون إليه ووالله ما جاؤوا بيوم خير قط ثم تلا:
(وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا
وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ)). وقال ابن تيمية مبينا خطأ مسلك الخارجين في الفتنة: (وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم فهزموا وهزم أصحابهم فلا أقاموا دينا ولا أبقوا دنيا والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا وإن كان فاعل ذلك من أولياء الله المتقين ومن أهل الجنة فليسوا أفضل من علي وعائشة وطلحة والزبير وغيرهم ومع هذا لم يحمدوا ما فعلوه من القتال وهم أعظم قدرا عند الله وأحسن نية من غيرهم). وقد كانت فتنة عظيمة أخذت بعقول الرجال قال الشعبي في فتنة ابن الأشعث: (أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء). وقال ابن تيمية في فتنة خروج الحسين رضي الله عنه بعد ذكر نصيحة أفاضل الصحابة ابن عمر وابن عباس وأبي بكر بن عبد الرحمن في نهيه عن الخروج وإخباره بمقتله وخذلان أهل العراق له: (ﻭﺍﻟﻠﻪ ﻭﺭﺳﻮﻟﻪ ﺇﻧﻤﺎ ﻳﺄﻣﺮ ﺑﺎﻟﺼﻼﺡ ﻻ ﺑﺎﻟﻔﺴﺎﺩﻟﻜﻦ ﺍﻟﺮﺃﻱ ﻳﺼﻴﺐ ﺗﺎﺭﺓ ﻭﻳﺨﻄﻲﺀ ﺃﺧﺮﻯ. ﻓﺘﺒﻴﻦ ﺃﻥ ﺍﻷﻣﺮ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﺃﻭﻟﺌﻚ ﻭﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﺮﻭﺝﻻ ﻣﺼﻠﺤﺔ ﺩﻳﻦ ﻭﻻ ﻣﺼﻠﺤﺔ ﺩﻧﻴﺎ ﺑﻞ ﺗﻤﻜﻦ ﺃﻭﻟﺌﻚ ﺍﻟﻈﻠﻤﺔ ﺍﻟﻄﻐﺎﺓ ﻣﻦ ﺳﺒﻂ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺣﺘﻰ ﻗﺘﻠﻮﻩ ﻣﻈﻠﻮﻣﺎ ﺷﻬﻴﺪﺍ ﻭﻛﺎﻥ ﻓﻲ ﺧﺮﻭﺟﻪ ﻭﻗﺘﻠﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﻔﺴﺎﺩ ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺣﺼﻞ ﻟﻮﻗﻌﺪ ﻓﻲ ﺑﻠﺪﻩ ﻓﺈﻥ ﻣﺎ ﻗﺼﺪﻩ ﻣﻦ ﺗﺤﺼﻴﻞ ﺍﻟﺨﻴﺮ ﻭﺩﻓﻊ ﺍﻟﺸﺮ ﻟﻢ ﻳﺤﺼﻞ ﻣﻨﻪ ﺷﻲﺀ ﺑﻞ ﺯﺍﺩ ﺍﻟﺸﺮ ﺑﺨﺮﻭﺟﻪﻭﻗﺘﻠﻪ ﻭﻧﻘﺺ ﺍﻟﺨﻴﺮ ﺑﺬﻟﻚ ﻭﺻﺎﺭ ﺫﻟﻚ ﺳﺒﺒﺎ ﻟﺸﺮ ﻋﻈﻴﻢ ﻭﻛﺎﻥ ﻗﺘﻞ ﺍﻟﺤﺴﻴﻦ ﻣﻤﺎ ﺃﻭﺟﺐ ﺍﻟﻔﺘﻦ ﻛﻤﺎﻛﺎﻥ ﻗﺘﻞ ﻋﺜﻤﺎﻥ ﻣﻤﺎ ﺃﻭﺟﺐ ﺍﻟﻔﺘﻦ).

ومن زعم أن وجوب السمع والطاعة الواردة
في النصوص خاصة بالحاكم العدل ولا طاعة ولا حرمة للحاكم الفاسق فقوله جار على أصول الخوارج الذين لا يدينون بالطاعة إلا لأئمة العدل وقد رتبوا خروجهم على إسقاط ولاية الحاكم الظالم وعدم التزام طاعته وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية). قال ابن تيمية في معنى هذا الحديث: (فعلم أن هذا الحديث دل على ما دل عليه سائر الأحاديث الآتية من أنه لا يخرج على ولاة أمور المسلمين بالسيف وأن من لم يكن مطيعا لولاة الأمور مات ميتة جاهلية وهذا ضد قول الرافضة فإنهم أعظم الناس مخالفة لولاة الأمور وأبعد الناس عن طاعتهم إلا كرها). وأقوال أئمة السلف صريحة في تنزيل النصوص على طاعة أئمة الجور ولزوم الصبر على ظلمهم وعدم منازعتهم في ولايتهم.

ويحرم الخروج على أئمة الجور والطعن فيهم وتحريض الرعية عليهم بقول أو فعل سأل سلمة بن يزيد الجعفي رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا نبي الله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا فأعرض عنه ثم سأله فأعرض عنه ثم سأله في الثانية أو في الثالثة فجذبه الأشعث بن قيس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم). رواه مسلم. والخروج عليهم من فعل أهل الجاهلية كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية). رواه مسلم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حمل علينا السلاح فليس منا). متفق عليه. وقال علي ابن المديني: (ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين وقد اجتمع عليه الناس فأقروا له بالخلافة بأى وجه كانت برضى كانت أو بغلبة فهو شاق هذا الخارج عليه العصا وخالف الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه بأحد من الناس فمن عمل ذلك فهو مبتدع على غير السنة). وقال أحمد بن حنبل: (ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين وقد كان الناس اجتمعوا عليه وأقروا له بالخلافة بأي وضع كان بالرضا أو بالغلبة فقد شق هذا الخارج عصا المسلمين وخالف الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق). وقال البربهاري: (ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه وإن جار وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر الغفاري اصبر وإن كان عبدا حبشيا وقوله للأنصار اصبروا حتى تلقوني على الحوض وليس من السنة قتال السلطان فإن فيه فساد الدنيا والدين).

وإنما يباح الخروج على الإمام بشروط:

1-
أن يكون الحاكم مظهرا للكفر معرضا عن الشريعة معاندا تاركا لإظهار شعائر الدين من الصلاة وغيرها.

2-
أن يكون كفره ظاهرا بينا صريحا لا خفاء فيه بحيث لا يختلف فيه أهل العلم الراسخين العارفين بدلالات الكتاب والسنة ولا عبرة بكلام الجهال وأهل الطيش والفتنة ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت قال: (دعانا رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم فبايعناه ‏فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا ‏وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله قال إلا أن تروا كفرا ‏‏ بواحا ‏ ‏عندكم من الله فيه ‏ ‏برهان). قال ابن حجر: (أي نص آية أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم يحتمل التأويل). وفي صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: (‏خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم قيل: يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف فقال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدا من طاعة).

3-
أن يكون لأهل الحق قوه وشوكة ظاهرة ولهم غلبة ورأي مطاع في الناس.

4-
أن تأمن المفسدة بحيث يغلب على الظن ألا يترتب على ذلك شرا أعظم وفسادا أكبر وتتحقق المصلحة الكبرى للأمة والدليل على ذلك أن من قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتفق عليها أن لا يترتب على إزالة المنكر منكرا أعظم منه ولا يدفع الشر بشر أعظم منه ولذلك ترك النبي صلى الله عليه وسلم إصلاح بعض الأمور في الأمة مخافة ترتب مفسدة أعظم ونهى الشارع عن سب آلهة المشركين خشية سب الله عز وجل قال تعالى: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ). ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه وهو يخطب: (يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة فإنهما السبيل في الأصل إلى حبل الله الذي أمر به وأن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة). وقال ابن القيم: (فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر (وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها وقالوا: أفلا نقاتلهم ؟ فقال : لا ما أقاموا الصلاة). وقال: (من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينزعن يدا من طاعته). ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه).

ومن تأمل في هذه الشروط علم أنه يصعب تحققها ويتعذر اجتماعها في غالب الأحوال على مر العصور وعلم أنه يترتب على الخروج على الإمام غالبا الشر والفتنه واستباحة الدماء وانعدام الأمن كما هو معلوم و ومشاهد في الماضي والحاضر وأكثر الحركات الثورية باءت بالفشل وألحقت بالمسلمين الويلات والشرور وما من قوم خرجوا على إمامهم إلا وكانت حالهم بعد خروجهم أسوأ فتنة وأعظم فسادا من حالهم قبل ذلك كما قال ابن تيمية: (وأما ما يقع من ظلمهم وجورهم بتأويل سائغ أو غير سائغ فلا يجوز أن يزال لما فيه من ظلم وجور كما هو عادة أكثر النفوس تزيل الشر بما هو شر منه وتزيل العدوان بما هو أعدى منه فالخروج عليهم يوجب من الظلم والفساد أكثر من ظلمهم فيصبر عليه كما يصبر عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ظلم المأمور والمنهي). وقال أيضا: (قل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير). وقال ابن عبد البر: (فالصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف وإراقة الدماء وانطلاق أيدي الدهماء وتبييت الغارات على المسلمين والفساد في الأرض وهذا أعظم من الصبر على جور الجائر). فمفسدة الصبر على ظلم الولاة أخف بكثير من مفسدة انفلات الأمن وظهور الفتن وتعطل المصالح قال عمرو بن العاص لابنه رضي الله عنهما: (يا بني احفظ عني ما أوصيك به: إمام عدل خير من مطر وبل وأسد حطوم خير من إمام ظلوم وإمام ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم). وعلى هذا الفقه كان تطبيقات أئمة السنة قال أبو الحارث أحمد الصائغ: (سألت الإمام أحمد ابن حنبل في أمر كان حدث في بغداد وهم قوم بالخروج فقلت: يا أبا عبد الله ما تقول في الخروج مع هؤلاء القوم ؟. فأنكر ذلك عليهم وجعل يقول: سبحان الله الدماء الدماء لا أرى ذلك ولا آمر به الصبر على ما نحن فيه خير من الفتنة يسفك فيها الدماء ويستباح فيها الأموال وينتهك فيها المحارم أما علمت ما كان الناس فيه يعني أيام الفتنة. قلت: والناس اليوم أليس هم في فتنة يا أبا عبد الله ؟. قال: وإن كان فإنما هي فتنة خاصة فإذا وقع السيف عمت الفتنة وانقطعت السبل الصبر على هذا يسلم لك دينك خير لك). ومن تأمل تاريخ المسلمين في المشرق والمغرب علم أنه ما من معول هدم فتك بالمسلمين وشتت جهودهم وأضعف قوتهم وفرق صفهم وأوقع بينهم العداوات وأخر نهضتهم أخطر من حركات الخروج على السلاطين والمتأمل في دوافع الثوار يجد أن كثيرا منهم كان هدفه حب الرئاسة والاستحواذ على الدنيا وإن كانوا يخفون هذا بعباءة الدين ويرفعون شعار الإصلاح والقضاء على الظلم فلما تمكنوا فعلوا عين ما كانوا ينهون عنه ولم يسلموا من فتنة الجاه وفتنة المال كما وقع للعباسيين حين ثاروا على الأمويين والموحدين حين ثاروا على المرابطين.


وأحكم وأسلم منهج للتعامل مع ظلم الولاة واستئثارهم بأموال المسلمين هو منهج أهل الحديث في الصبر على ظلمهم وعدم منازعتهم ولزوم طاعتهم في المعروف
قال ابن تيمية: (مذهب أهل الحديث ترك الخروج بالقتال على الملوك البغاة والصبر على ظلمهم إلى أن يستريح بر أو يستراح من فاجر). وهذا المنهج الأثري مستمد من السنة الصحيحة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية). متفق عليه. قال ابن بطال: (في الحديث حجة في ترك الخروج على السلطان ولو جار). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة: (يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان أنس قال‏:‏ قلت كيف أصنع يا رسول اللّه إن أدركت ذلك قال‏:‏ تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع). رواه مسلم. وقد سار على هذا المنهج الحكيم العلماء الربانيون منذ زمن الصحابة إلى زماننا قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (إياكم ولعن الأمراء فإن لعنهم الحالقة وبغضهم العاقرة، قيل: يا أبا الدرداء فكيف نصنع إذا رأينا منهم ما لا نحب؟ قال: اصبروا فإن الله إذا رأى ذلك منهم حبسهم عنكم بالموت). وموقف الصحابي الفقيه عبد الله بن عمر رضي الله عنه من إنكار خروج أهل الحرة من أهل المدينة على يزيد بن معاوية مشهور كما في صحيح مسلم أنه جاء ابن عمر إلى عبد الله بن مطيع حينما نزعوا بيعة يزيد قال ابن مطيع: إطرحوا لأبي عبد الرحمان وسادة. فقال: إني لم آتك لأجلس أتيتك لأحدثك حديثا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حدث بحديث خلع الطاعة. ومنهج عبد الله بن عمر رضي الله عنه في الفتنة والفرقة أنموذج عملي لتطبيق السنة في باب السمع والطاعة ولزوم الجماعة وحرمة الدماء ينبغي أن يسير عليه كل متبع للسنة. وقد لزم كبار الصحابة والتابعين وأهل بيت النبوة السمع والطاعة ليزيد ولم يشاركوا أهل الحرة في الخروج عليه قال أبو جعفر الباقر: (لم يخرج أحد من آل أبى طالب ولا من بني عبد المطلب أيام الحرة). وقال الزبير بن عدي: أتينا أنس بن مالك رضي الله عنه فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج فقال: (اصبروا فإنه لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم). رواه البخاري. وقال الحسن البصري: (اعلم عافاك الله أن جور الملوك نقمة من نقم الله ونقم الله لا تلاقى بالسيوف وإنما تتقى وتستدفع بالدعاء والتوبة والإنابة والإقلاع عن الذنوب). فبين إمام السنة أن إصلاح الحاكم لا يكون بأسلوب المواجهة والقتال وإنما يكون بالتوبة والدعاء وإصلاح العمل والنصيحة كما قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ). وكان الحسن البصري يقول: (إن الحجاج عذاب الله فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم ولكن عليكم بالاستكانة والتضرع فإنه تعالى يقول: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ)). وأما ركوب الحماس الغير منضبط بالشرع وإثارة الفتن وتحريض الشباب على المظاهرات والمصادمات والثورات ضد الحكام الظلمة فمنهج سائر على طريقة الخوارج مخالف للسنة خارج عن جادة أئمة السنة ويترتب عليه فساد عريض وتبديد لطاقات الشباب وتأخير للدعوة وتشويه للدين وتنفير الناس عن اتباع الحق وقد ثبت فشله في الواقع المشاهد.

وينبغي للمؤمن أن يكون ناصحا لإمامه حريصا على حصول الخير والسلامة للمجتمع كما في صحيح مسلم تميم الداري قال رسول الله: (الدين النصيحة ثلاثا قلنا لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم). وفي حديث آخر: (وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم). رواه مسلم. قال ابن رجب الحنبلي: (وأما النصيحة لأئمة المسلمين فحب صلاحهم ورشدهم وعدلهم وحب اجتماع الأمة عليهم وكراهة افتراق الأمة عليهم والتدين بطاعتهم في طاعة الله عز وجل والبغض لمن رأى الخروج عليهم وحب إعزازهم في طاعة الله عز وجل).

ومن النصيحة للإمام الدعاء له بالصلاح والهداية قال الفضيل ابن عياض: (لو أن لي دعوة مستجابة ما صيرتها إلا في الإمام. قيل له: وكيف ذلك يا أبا علي؟ قال: متى صيرتها في نفسي لم تجزني ومتى صيرتها في الإمام فصلاح الإمام صلاح العباد والبلاد. فقبل ابن المبارك جبهته وقال: يا معلم الخير من يحسن هذا غيرك). وقال أحمد ابن حنبل: (وإني لأدعو له يعني الإمام بالتسديد والتوفيق في الليل والنهار والتأييد وأرى ذلك واجبا علي). وهذا يدل على سلامة قلوب السلف ونصحهم للأئمة ومحبتهم للأمة.

والمشروع في نصيحة الإمام ووعظه الإسرار بالنصيحة له وعدم الجهر بها والرفق والتلطف معه لتكون أحرى في القبول وأبعد عن الفتنة وتتحقق المصلحة بذلك لما روى ابن أبي عاصم وغيره عن عياض بن غنم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية وليأخذ بيده فإن سمع منه فذاك وإلا أدى الذي عليه). وفي الصحيحين لما قيل لأسامة بن زيد: (ألا تدخل على عثمان فتكلمه ؟ فقال: أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتح أمرا لا أحب أن أكون أول من فتحه).

أما إظهار معايب السلطان ونصحه فوق رؤوس المنابر فمسلك مخالف للسنة وطريق للفتنة وشعار لأهل البدع وفتح بابا من الشر لا يمكن إغلاقه لأن ذلك يوغر صدور دهماء الناس وجهالهم فتشتد غيرتهم ويسيئون الظن فيسرعوا للتكفير والخروج يريدون الإصلاح فيفسدون من حيث لا يشعرون لأنهم لا يضعون الأمور في نصابها قال شيخنا ابن باز: (ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة وذكر ذلك على المنابر لأن ذلك يفضي إلى الانقلابات وعدم السمع والطاعة في المعروف ويفضي إلى الخروج الذي يضر ولا ينفع ولكن الطريقة المتبعة عند السلف النصيحة فيما بينهم وبين السلطان والكتابة إليه أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجه إلى الخير وإنكار المنكر يكون من دون ذكر الفاعل فينكر الزنى وينكر الخمر وينكر الربا من دون ذكر من فعله ويكفي إنكار المعاصي والتحذير منها من غير أن فلانا يفعلها لا حاكم ولا غير حاكم....ولما فتحوا الشر في زمن عثمان رضي الله عنه وأنكروا على عثمان جهرة تمت الفتنة القتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية وقتل عثمان وعلي بأسباب ذلك وقتل جمع كثير من الصحابة وغيرهم بأسباب الإنكار العلني وذكر العيوب علنا حتى أبغض الناس ولي أمرهم وحتى قتلوه نسأل الله العافية).

والحاصل أن أصل السمع والطاعة للأئمة بالمعروف والصبر على ظلمهم ثابت في الكتاب والسنة الصحيحة المتواترة وإجماع سلف الأمة ومن ترك هذا الأصل أو طعن فيه فقد سلك مسلك أهل البدع المخالفين للسنة. فاستمسك أيها السني بطاعة الإمام الشرعي وطب بذلك نفسا تعبدا لله وكن من المتبعين للسنة ومذهب السلف وإن منعت حقك وكنت مظلوما واعلم أن طاعة الإمام صمام للأمان في المجتمع يحصل بها الاستقرار ويتحقق الأمن والسلامة من الفتن وتحقن بها دماء المسلمين وإياك أن تنخدع وتغتر بكلام المخالفين في هذا الباب المهونين لشأنه واسأل ربك الثبات على السنة حتى تلقى ربك.


 

خالد بن سعود البليهد
binbulihed@gmail.com
22/10/1431



 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
خالد البليهد
  • النصيحة
  • فقه المنهج
  • شرح السنة
  • عمدة الأحكام
  • فقه العبادات
  • تزكية النفس
  • فقه الأسرة
  • كشف الشبهات
  • بوح الخاطر
  • شروح الكتب العلمية
  • الفتاوى
  • كتب
  • الصفحة الرئيسية