صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







براءة المؤمن من العصبية الجاهلية

خالد بن سعود البليهد


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فإن الله قسم الأنساب والمراتب بين الناس كما قسم بينهم أرزاقهم وأخلاقهم وحسن صورتهم وغير ذلك. وشرف النسب نعمة من الله عز وجل على بعض عباده وهبها لهم لحكمة أرادها.


ولا حرج على المسلم أن يعتني بنسبه ويعرف مكانة بيته وعشيرته في حدود الشرع إذا لم يترتب على ذلك مفسدة أو ظلم وتعدي على أحد وقد كان الإمام الزهري عنده كتاب جمع فيه نسب آل زهرة. قال قرة بن عبد الرحمن: (لم يكن للزهري كتاب إلا كتاب فيه نسب قومه).


وإنما الرزية كل الرزية أن يتعصب الإنسان لقومه ويتفاخر بهم ولو في سبيل الحق ويحمله ذلك على التعدي على إخوانه المسلمين وازدرائهم وبغضهم بوجه من الوجوه.

وقد ورد في الشرع ما يدل على تحريم العصبية الجاهلية وذمها أشد الذم. قال تعالى: (
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ). قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
ن الله عز وجل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي وفاجر شقي أنتم بنو آدم وآدم من تراب ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن). رواه أبو داود. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية). رواه أبو داود. وفي البخاري سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة من الأنصار ينادي: يا للأنصار فرد عليه أحد المهاجرين: يا للمهاجرين فقال عليه الصلاة والسلام: (ما بال دعوى الجاهلية) قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال: (دعوها فإنها منتنة). وقال ابن القيم رحمه الله: (الدعاء بدعوى الجاهلية كالدعاء إلى القبائل والعصبية ومثله التعصب إلى المذاهب والطوائف والمشايخ وتفضيل بعضهم على بعض يدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي فكل هذا من دعوى الجاهلية).

وللتعصب المذموم له صور وأنواع كثيرة ومتنوعة تارة يكون للجنس وتارة لللغة وتارة يكون للعشيرة والقبيلة وتارة يكون للبلد وتارة يكون للمذهب والطريقة وتارة يكون للشيخ فكل غلو قي الولاء والمحبة والنصرة داخل في معنى التعصب المذموم المنهي عنه شرعا والناس يتفاوتون في ذلك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو عزاء الجاهلية).


والتعصب من سمات الجاهلية التي تتحاكم للعادات والتقاليد والخرافات وتقدمها على الشرع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة). رواه مسلم.

ومن مظاهر التعصب الجاهلي الطعن في أنساب الناس والنقيصة منهم بكل سهولة في كل مناسبة على سبيل التشفي والتشهي وهذا أمر شائع والله المستعان. وإنما يسوغ للعاقل التكلم في هذا الباب إذا كان عالما بأنساب الناس منصفا عند رجحان المصلحة ودعاء الحاجة من غير بغي ويكون كلامه متزنا على قدر الحاجة ثم يمسك.

وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم مع شرف نسبه وعلو منزلته يتعايش مع الجميع ولا يشعر أحدا بالدونية فيأكل مع الفقراء ويمشي مع المساكين ويسعى في قضاء حاجة الأمة ويتفقد أحوال الضعفاء كخروجه للصلاة على قبر المرأة التي كانت تقم المسجد وينتصر للغرباء ولما تكلم أبو ذر رضي الله عنه في بلال رضي الله عنه وعيره بأمه قال له النبي صلى الله علية وسلم:( انك امرؤ فيه جاهلية). ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه فاخر بنسبه إلا في موطن قتال الكفار.

وكذلك كان السلف الصالح لا يعاملون الناس بناء على العصبية والعنصرية إنما يعاملونهم بناء على منزلة الإيمان والعمل الصالح ولقد كان كثير من الموالي علماء وكانوا محل إجلال وتقدير في المجتمع.


والفخر في النفوس موجود ومركوز في الفطر وربما أظهرته الخصومة والغيرة والحسد وهو مألوف عند أصحاب النفوس الضعيفة لكن المؤمن يكتم ذلك ويخفيه ويسعى جاهدا في التخلص منه.


وقد يبتلى بعض المنتسبين للعلم والصلاح بداء العصبية فيكون قلبه مشتمل على نوع من التعصب للبلد أو الطريقة أو العشيرة مع ظهور صلاحه ويظهر ذلك منه على فلتات لسانه وتصرفاته في المضايق فلا ينبغي للمؤمن أن يزكي نفسه ويغتر بصلاح الظاهر بل عليه أن يفتش في قلبه ويختبر مخبره ويتبرأ من هذا الداء ولو كان على حساب قبيلته وعشيرته وبلده فإن بعض الصالحين يتبعون الشرع إذا لم يخالف هوى القبيلة والبلد فإذا تزاحم الشرع وتعارض مع تعصبهم اطرحوه وتأولوا وقدموا حميتهم ونصروا أخاهم على الباطل وربما تستروا على جنايته وهذه المحبة تقدح في كمال الإيمان. وكلما رسخ العلم والإيمان في القلب انتفى التعصب واضمحل وإذا ضعف قوي التعصب وغلب على قلب المؤمن.


والتعصب له أضرار كثيرة على الفرد والمجتمع:

1- ضعف الإيمان والولاء لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
2- الوقوع في الظلم لأن المتعصب يستبيح حقوق الآخرين.
3-  ازدراء المؤمنين ونقيصتهم والحط من قدرهم.
4-  حصول الفخر والكبر والخيلاء.
5-  تحقق العداوة والبغضاء بين المسلمين.
6- نشوب الفتن وتعطيل مصالح الأمة الكبرى.


روافد التعصب:

1- الشعر ولغة القصيدة التي تشبب الناس وتربيهم على التعصب المذموم.
2- مجالس الشعر وعقد المسابقات التي تؤجج نار المنافسة بين القبايل.
3- وضع المسابقات الاجتماعية من مزاين الإبل وغيرها التي تذكي التعصب والفخر.
4- الاجتماعات القبلية التي يكون هدفها الرئيس تمجيد تاريخ القبيلة وتذاكر مفآخرها وليس هدفها بذل الإحسان والصلة وتفعيل التكافل الاجتماعي لدى أفرادها.


وإن أخطر ما يكرس التعصب لدى الشاب ويربيه عليه لغة الأسرة وثقافة البيت وتربية القبيلة في خطابها الحاد فمن المؤسف أن ترى بعض أولياء الأمور المتعلمين أكاديميا يربي ولده على التفاخر في الأمجاد وانتقاص الناس والطعن فيهم حتى صار بعض أبنائنا يعيش مع هذا المبدأ ويتعامل مع الآخرين وفق ذلك ولا يستطيع أن يتخلص منه في غالب الأحوال.


إن للتعصب الجاهلي دورا رئيسا في وقوع الفتن ونشوب القتال الداخلي والحروب الأهلية والتاريخ يشهد لكثير من الأحداث والفتن التي كانت العصبية تؤججها وتضرم نارها حتى استغل ذلك طائفة من الحكام على مر التاريخ لأغراضهم السياسية والمذهبية كما وقع في تاريخ الأندلس.

وكذلك الانتماء الفقهي للأئمة الأربعة وغيرهم لما بلغ حد التعصب والغلو وقع التدابر والتهاجر بين الأتباع حتى وصل الأمر إلى الاختلاف والتقاتل والوشاية للحكام وبلغ الذروة في القرن الرابع والخامس الهجري وقد كان الأئمة يحذرون من ذلك ويذمون هذا المسلك ذما شديدا.


ولا شك أن التعصب اليوم يلعب دورا سلبيا في إيجاد الفرص الوظيفية واستحقاق الدرجة والرتبة في القطاع الخاص والعام فترى الموظف المجتهد الكفء يحرم من الترقية والتقدير والحوافز وفي المقابل الموظف الكسول المقصر يمنح أعلى الدرجات والأوسمة والثناء بناء على التعصب والنظرة العنصرية وهذا أمر مشهور يعرفه كل منصف.


هذا وإن أعظم أسلوب وأنجع وسيلة وأهم خطوة في القضاء على التعصب الجاهلي هو تنشئة الطفل وتوجيه أفراد المجتمع إلى القيم والمبادئ الفاضلة التي جاء بها الشرع من تواضع وحلم وعدل وحسن ظن واحترام حقوق الآخرين
وغير ذلك من الفضائل.

هذا وإن الاعتزاز بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وقوة محبتهما والتشرف بطاعتهما وصرف الولاء لهما واليقين بأن المقياس الصحيح لمعرفة الرجال وكيفية التعامل معهم هو مدى تمسكهم بالشرع والتزامهم بالتقوى وتحقيق العبودية كل ذلك يضعف التعصب الجاهلي والولاء المقيت ويقضي على المبادئ السيئة. فإذا امتلأ القلب بمحبة الله وسعى في تحصيل محاب الله واعتز بالله وآخى أهل طاعته وخاصته هان في قلبه جميع الروابط الإنسانية وازدرى التعصب والغلو فيها.

وهكذا كان مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم في الغالب يعتز بالله وطاعة رسوله وليس للتعصب الجاهلي مكانا فيه.


أمور يخطئ من يظن أنها من التعصب الجاهلي:


1- التمسك والاعتزاز بشيم وعادات القبيلة الحسنة من كرم وجود وشهامة وحسن جوار وغيرة على المحارم والحفاظ على القيم الفاضلة في المجتمع لأن ذلك من مكارم الأخلاق التي صانها الشرع ورغب فيها.
2- الاعتناء بالأنساب والمحافظة عليها ومذاكرتها وحفظها عن الضياع وضبطها لأن الشارع أمر بتعلم الأنساب لصلة الرحم وغير ذلك من المصالح.
3- طلب الكفاءة في النكاح وتخير الزوج الذي يناسب طبقة الزوجة ونسبها وحسبها لأن ذلك أمر مباح أقر به الشارع وعمل به الصحابة واختاره الإمام أحمد وجماعة.
4- الفخر والخيلاء بالعشيرة والبلد في موطن قتال الكفار ونصرة الدين فهذا عمل حسن لأنه توظيف لهذه الغريزة في سبيل الله في موطن يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لما فيه من شحذ الهمم وإذكاء روح المنافسة بين العشائر وأهل الأمصار فمصلحته راجحة لا مفسدة فيه وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشجع القبائل ويعقد ألويتهم ويثني عليهم في الجهاد في سبيل الله.


والحاصل أن التعصب الجاهلي بجميع أشكاله وصوره مذموم شرعا وهو داء خطير خفي يصيب المؤمن في مقتله ويحمله على الظلم والتعدي والصد عن سبيل الله والإعراض عن اتباع الحق فيما يخالف الولاء كما يصيب القلب الحسد والرياء وسائر الأدواء والواجب على من ابتلي بذلك أن يطهر قلبه من هذا الداء ويداويه ويتبرأ منه بالكلية ليلقى ربه موحدا في ولائه لله ورسوله وطاعته لهما خاليا من القوادح والشبهات.


أما محبة المرء لقبيلته وعشيرته وبلده حبا معتدلا لا يحمله على الظلم ولا يوقعه في التفريط بحق الله فلا إفراط ولا تفريط ولا يترتب على ذلك مفسدة ظاهرة فهذا حب طبيعي فطري لا حرج فيه ولا يؤاخذ عليه المسلم ولا يسلم منه عاقل وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب عشيرته وبلده.
 

خالد بن سعود البليهد
8/9/1432

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
خالد البليهد
  • النصيحة
  • فقه المنهج
  • شرح السنة
  • عمدة الأحكام
  • فقه العبادات
  • تزكية النفس
  • فقه الأسرة
  • كشف الشبهات
  • بوح الخاطر
  • شروح الكتب العلمية
  • الفتاوى
  • كتب
  • الصفحة الرئيسية