|
|
شرح حديث ( إن
الله طيب لا يقبل إلا طيبا ) |
|
خالد بن سعود البليهد |
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تعالى طيب لا يقبل
إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: ( يَا
أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي
بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ). وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا
كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ). ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر
يمد يديه إلى السماء يا رب يارب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي
بالحرام فأنى يستجاب له) رواه مسلم.
هذا الحديث يتحدث عن أثر الكسب الطيب في قبول العمل والدعاء وأسباب قبول الدعاء
وموانعه وفيه مسائل :
الأولى:
في الحديث وصف الله بالطيب والطيب هنا معناه الطاهر والمعنى أنه تعالى مقدس
منزه عن النقائص والعيوب كلها ، ومن أثر تلك الصفة أنه لا يقبل من الأعمال إلا
ما كان طاهرا من المفسدات كلها ولا من الأموال إلا ماكان طيبا حلالا فإن الطيب
يوصف به الأعمال والأقوال والاعتقادات كقوله تعالى ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا
كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ). وقال تعالى ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ). وقد وصف الله سبحانه المؤمنين بالطيب فقال تعالى (
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ). فالمؤمن كله طيب قلبه
ولسانه وجسده بما سكن في قلبه من الإيمان وظهر على لسانه من الذكر وعلى جوارحه
من الأعمال الصالحة التي هي ثمرة الإيمان وداخلة في اسمه وهذه الطيبات كلها
يقبلها الله تعالى .
الثانية :
في الحديث دلالة على أن طلب الرزق والانتفاع بالطيبات من سنن المرسلين
والصالحين لقوله تعالى ( كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا). و
أن التقرب إلى الله بالعزوف عن الطيبات وترك التكسب من الرهبانية التي ما أنزل
الله بها من سلطان من الأديان السابقة وقد ورثها عنهم في هذه الأمة المتصوفة
الذين تركوا التكسب و المباحات وتواكلوا فخالفوا الشرع وخرجوا عن جادة السنة
وقد ذم مسلكهم أئمة السنة ، وهذا من الغلو وليس من الزهد المشروع. و في
الصحيحين ( أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال أحدهم : أما أنا
فأصوم لا أفطر ، وقال الآخر : أما أنا فأقوم لا أنام , وقال الآخر : أما أنا
فلا أتزوج النساء ، وقال الآخر : أما أنا فلا آكل اللحم فقام النبي صلى الله
عليه وسلم خطيبا فقال : ما بال رجال يقول أحدهم كذا , وكذا لكني أصوم وأفطر
وأقوم وأنام وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني).
الثالثة :
ودل أيضا على الحث على الكسب الحلال والإنفاق من الحلال وكراهة الصدقة بالرديء
وما فيه شبهة قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ
طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا
تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ
تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ). ويستحب الإنفاق
من أطيب المال قال تعالى ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا
تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ). وأما
الصدقة بالمال الحرام فغير مقبولة كما في صحيح مسلم عن ابن عمر عن النبي (لا
يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول). وروي عن أبي الدرداء ويزيد بن
ميسرة أنهما جعلا مثل من أصاب مالا من غير حله فتصدق به مثل من أخذ مال يتيم
وكسا به أرملة. وسئل ابن عباس عمن كان على عمل فكان يظلم ويأخذ الحرام ثم تاب
فهو يحج ويعتق ويتصدق منه فقال " إن الخبيث لايكفر الخبيث" وقال الحسن " أيها
المتصدق على المسكين يرحمه ارحم من قد ظلمت".
الرابعة:
اعلم أن الصدقة بالمال الحرام على وجهين :
1ـ
أن يتصدق الخائن والغاصب عن نفسه فهذا لايقبل منه بل يأثم بتصرفه في مال غيره
بغير إذنه ولا يحصل للمالك بذلك أجر لعدم نيته وقصده وهذا النوع هو المراد في
الأحاديث والآثار الدالة على تحريمه . اجتمع الناس يوما عند عبدالله بن عامر
أمير البصرة وهو يحتضر فأثنوا عليه خيرا لبره وإحسانه وابن عمر ساكت فطلب منه
ابن عامر أن يتكلم فروى له حديث (لا يقبل الله صدقة من غلول) ثم قال له وكنت
على البصرة.
2 ـ
أن يتصدق به عن صاحبه إذا عجز عن رده إليه أو الى ورثته فهذا جائز عند أكثر
العلماء ، ويقبل عن صاحبه وهذا النوع يشمل صورا كثيرة كاللقطة والمغصوب والأجرة
ونحوها ، فمتى ما جهل أربابها أو عجز عن تسليمها تصدق بها عنهم وبرئت ذمته بذلك
إن شاء الله.
الخامسة :
في الحديث دلالة على أن العمل لايقبل ولا يزكوا إلا بأكل الحلال وإن أكل الحرام
يفسد العمل ويمنع قبوله وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الدعاء
مثالا على سائر الأعمال والعبادات. وفي مسند احمد عن ابن عمر قال (من اشترى
ثوبا بعشرة دراهم في ثمنه درهم حرام لم يقبل الله له صلاة ما كان عليه). ثم
رفعه إلى رسول الله. وأخرج الطبراني بإسناد وفيه ضعف من حديث أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا خرج الرجل حاجا بنفقة طيبة ووضع رجله في
الغرز فنادى لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء لبيك وسعديك زادك حلال
وراحلتك حلال وحجك مبرور غير مأزور وإذا خرج الرجل بالنفقة الخبيثة فوضع رجله
في الغرز فنادى لبيك اللهم لبيك ناداه منادي من السماء لالبيك ولا سعديك زادك
حرام ونفقتك حرام وحجك غير مبرور). وقال ابن عباس "لا يقبل الله صلاة امرئ في
جوفه حرام". والمراد بنفي القبول في الأحاديث هو عدم حصول الأجر والثواب في
الآخرة أما سقوط الفرض وبراءة الذمة فيحصل للعبد إذا أتى بالعبادة. ويطالب بها
العبد ، فهناك فرق بين أحكام الدنيا وأحكام الآخرة وعليه يحمل صلاة الآبق
والمرأة التي أسخطت زوجها ومن أتى كاهنا ومن شرب الخمر أربعين يوما ، ولهذا كان
السلف يشتد خوفهم من هذه الآية ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ
الْمُتَّقِينَ). فيخافون أن لايكونوا من المتقين الذين يتقبل منهم. قال وهيب بن
الورد " لو قمت مقام هذه السارية لم ينفعك شي حتى تنظر ما يدخل بطنك حلال أو
حرام " .
السادسة :
من أعظم أنواع العبادة الدعاء قال تعالى (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي
سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ). وقال تعالى (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي
عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ). وثبت في
السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الدعاء هو العبادة) رواه الترمذي
وصححه. فجعل النبي الدعاء ركن العبادة الأعظم لما فيه من الإعتراف والإقرار
بالله وحصول التذلل والانكسار بين يديه وتفويض الأمر إليه في السراء والضراء
وهذه هي الثمرة التي من أجلها شرعت سائر العبادات و القربات.
وللدعاء أسباب تحصل بها الإجابة بإذن الله :
1ـ
التمسك بالسنة لقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله أمر المؤمنين بما أمر به
المرسلين). فالإتباع من أعظم أسباب قبول الدعاء وإجابته.
2ـ
إطالة السفر وحصول التبذل في اللباس والهيئة لأن ذلك أقرب إلى التذلل والخشوع.
وغير ذلك من الأحوال التي ينكسر فيها العبد ويخشع قلبه ، وكلما كان العبد أخشع
كان دعاؤه أسمع.
3ـ
الإلحاح على الله عز وجل في الدعاء فإن الله يحب من عبده أن يكرر دعائه و يتعلق
بجنابه ويظهر الإفتقار إليه.
4ـ
إطابة المطعم والمشرب فقد روي في معجم الطبراني (يا سعد أطب مطعمك تجب دعوتك).
5ـ
إخلاص القصد وقوة اليقين بوعد الله والثقة بموعوده وحسن الظن به قال رسول الله
(دعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل
لاه) رواه الترمذي.
6-
المحافظة على الفرائض والمداومة على النوافل وذكر الله في السراء. قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) رواه أحمد.
وقال تعالى عن يونس عليه السلام ( فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ
الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ). فلما كان
يونس عليه السلام من الذاكرين لله قبل البلاء ذكره الله حال البلاء. وجاء في
الأثر لما دعا بالكلمات فَقالَتِ الـمَلائِكَةُ: يا رَبّ هَذا صَوْتٌ ضَعِيفٌ
مَعْرُوفٌ فِـي بِلادٍ غَرِيبَةٍ, قال: أما تَعْرَفُونَ ذلكَ؟ قالَوا يا رَبّ
وَمَنْ هُوَ؟ قالَ: ذلكَ عَبْدي يُونُسُ .
السابعة :
هناك موانع للدعاء تمنع من إجابته فمن ذلك :
1ـ
تعاطي الحرام والتوسع فيه من الطعام والشراب واللباس. وقد دل على ذلك قوله صلى
الله عليه وسلم (فأنى يستجاب له).
2ـ
الاستعجال في طلب الإجابة. فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (
يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول: دعوت فلم يستجب لي) متفق عليه.
3ـ
الدعاء بالإثم أو القطيعة. ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال (لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم).
4ـ
ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (
والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث
عليكم عذاباً منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم) رواه الترمذي.
5-
الاعتداء في الدعاء قال سبحانه (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً
إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).
6-
الإشراك بالله في الدعاء ، ودعاؤه بأدعية مبتدعة محدثة ليس لها أصل في الشرع
مخالفة للسنة. فإن الدعاء يحبط بالشرك وإن الله لا يقبل عملا على غير وفق ما
شرعه لعباده. ففي الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم (من عمل عملا ليس عليه
أمرنا فهو رد).
الثامنة :
يستحب للعبد إذا دعا أن يتحلى بآداب جليلة فمن ذلك:
1ـ
الطهارة فالدعاء حال التطهر أكمل حالا من غيره.
2ـ
استقبال القبلة لأنها اشرف الجهات ما لم يكن في حال يقتضي خلاف ذلك كالخطيب
ونحوه.
3ـ
رفع اليدين فيستحب الرفع مطلقا إلا في المواضع التي لم ينقل عن النبي صلى الله
عليه وسلم رفع اليدين فيها فالسنة ترك الرفع كالدعاء يوم الجمعة.
4ـ
الحمد والثناء على الله في ابتداء الدعاء.
5 ـ
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
6 ـ
استعمال الأدعية الجامعة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
7 ـ
التوسل بين يدي الدعاء إلى مقصوده بما يناسب ذلك ويلائمه من أسماء الله وصفاته.
8-
العزم في الدعاء وعدم تعليق السؤال بالمشيئة.
9-
حضور القلب وإقباله على الله حال الدعاء.
التاسعة :
للدعاء أوقات يستجاب فيها إذا تحققت الشروط وانتفت الموانع وأذن الله في ذلك ،
فيستحب للعبد تحريها والمواظبة عليها فإن الدعاء فيها أوكد وأحرى بالإجابة:
1 ـ
في سجود الصلاة.
2 ـ
الثلث الأخير من الليل.
3 ـ
بين الأذان والإقامة.
4 ـ
عند نزول المطر.
5 ـ
أثناء السفر.
6 ـ
عند التحام الصفين في القتال في سبيل الله.
7ـ
آخر ساعة يوم الجمعة.
8ـ
عشية عرفة.
9ـ ليلة القدر.
10-
عند الفطر من الصوم.
العاشرة :
التوسل إلى الله في الدعاء قسمان :
الأول:
توسل ممنوع وهو توسل العبد في دعائه بمنزلة المخلوق أو حقه أو جاهه كالتوسل
بجاه الأنبياء أو الملائكة أو الأولياء أو الصالحين
فهذا عمل محدث ليس له أصل في الشرع ولم يفعله السلف وهو وسيلة إلى الغلو المنهي
عنه ، وكل ما روي في هذا الباب باطل لا يصح منه شي كما قرره المحققون من أهل
العلم ، وقد منعه الأئمة ولا يصح عن أحد من المتقدمين أنه استحبه ومن حكى خلاف
ذلك فقد غلط عليهم ، وإنما حكي اختلافهم فيه بين الكراهة والتحريم فهم متفقون
على عدم مشروعيته واستحبابه.
ومما يجدر التنبيه عليه أن قوما من متأخري الفقهاء وسعوا الأمر في هذه المسألة
أعني التوسل بجاه المخلوق ولبسوا على الناس وحكوا فيها خلافا وجعلوها من مسائل
الفروع التي يسوغ فيها الاجتهاد والصواب أنه لا يعرف عن الأئمة والسلف فيها
خلاف في عدم مشروعيتها بل هي مما أحدثها الناس .
الثاني:
توسل مشروع وهو على أنواع :
1 ـ
التوسل بأسماء الله وصفاته قال تعالى ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى
فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
2 ـ
التوسل بالإيمان والعمل الصالح. قال تعالى ( الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا
إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). وكما
في قصة أصحاب الغار الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة فتوسلوا إلى الله بصالح
عملهم من البر والعفة والأمانة ففرج الله عنهم. والقصة في الصحيحين.
3 ـ
التوسل بدعاء الرجل الصالح كما توسل الخليفة عمر رضي الله عنه بدعاء العباس رضي
الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد أن يستسقي كما في صحيح
البخاري.
خالد بن سعود البليهد
عضو الجمعية العلمية السعودية للسنة
binbulihed@gmail.com
|
|
|
|
|