المبادرة إلى التوبة

خالد بن سعود البليهد

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد:

فقد أوجب الله تعالى التوبة على جميع العباد بقوله: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). فيجب على المسلم أن يتوب إلى الله من جميع الذنوب في سائر الأوقات ولا يتساهل في هذا الأمر العظيم مهما كثرت ذنوبه وعظمت غفلته وضعفت نفسه أمام الشهوات.

والله تعالى يفرح بتوبة عبده العاصي الغافل لأنه يحب الإحسان والعفو والتجاوز والثواب والرحمة فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للَّهُ أَشدُّ فَرَحًا بِتَوْبةِ عَبْدِهِ حِين يتُوبُ إِلْيهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى راحِلَتِهِ بِأَرْضٍ فلاةٍ، فانْفلتتْ مِنْهُ وعلَيْها طعامُهُ وشرَابُهُ فأَيِسَ مِنْهَا، فأَتَى شَجَرةً فاضْطَجَعَ في ظِلِّهَا، وقد أَيِسَ مِنْ رَاحِلتِهِ، فَبَيْنما هوَ كَذَلِكَ إِذْ هُوَ بِها قَائِمة عِنْدَهُ، فَأَخذ بِخطامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الفَرحِ: اللَّهُمَّ أَنت عبْدِي وأَنا ربُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الفرح). رواه مسلم.

والله تعالى لكمال رحمته وعفوه وجوده يقبل توبة المسيء مهما عظم ذنبه قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِن الله تَعَالَى يبْسُطُ يدهُ بِاللَّيْلِ ليتُوب مُسيءُ النَّهَارِ، وَيبْسُطُ يَدهُ بالنَّهَارِ ليَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مغْرِبِها). رواه مسلم.

والتوبة الصادقة نجاة للمؤمن في الآخرة من العذاب قال تعالى: (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). أما من مات وهو مقيم على المعصية ولم يتب فهو داخل في الوعيد تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ). وهذا يدل على خطورة الأمر.

وللتوبة الصحيحة المقبولة عند الله شروط:

الأول: الإقلاع عن الذنب بالكلية أما من حدث نفسه بالتوبة وهو مقيم على الذنب فتوبته باطلة.

الثاني: الندم على فعل المعصية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (النَّدَمُ تَوْبَةٌ). رواه أحمد. أما من فرح بالمعصية وتفاخر بها ولم يندم على تركها فلا توبة له قال ابن عباس رضي الله عنهما: (فرحك بالذنب إذا ظفرت به أعظم من الذنب. وحزنك على الذنب إذا فاتك أعظم من الذنب).

الثالث: العزم الجازم على عدم الرجوع إلى المعصية أما من كان يراود نفسه بالمعصية متى ما سنحت له الظروف فكاذب في توبته.

الرابع: حصول التوبة في الوقت الشرعي لها قبل خروج الشمس من مغربها لقول النبي  صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تطلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مغْرِبِهَا تَابَ الله علَيْهِ). رواه مسلم. وقبل أن تصل الروح الحلقوم ساعة الاحتضار قال تعالى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآن). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الله عزَّ وجَلَّ يقْبَلُ توْبة العبْدِ مَالَم يُغرْغِرْ). رواه الترمذي.

ولا تصح التوبة من مظالم العباد إلا برد الحقوق إلى أهلها والتحلل منهم في الدنيا لما روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَانَتْ عِندَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ، مِنْ عِرْضِهِ أو مِنْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليومَ قَبْلَ أَن لا يَكُونَ دِينَارٌ ولا دِرْهَمٌ؛ إِنْ كَانَ له عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِن لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أَخَذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ). ومن لم يتحلل ممن ظلمه فعليه القصاص يوم القيامة.

والتوبة الصحيحة تمحو الذنوب وتكفر الخطايا مهما عظمت قال تعالى: (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا). وفي الحديث القدسي: (يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ). رواه مسلم.

وقد حث الله تعالى المؤمنين على التوبة النصوح بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا). سُئل عمر رضي الله عنه عن التوبة النصوح؟ قال: (التوبة النصوح: أن يتوب الرجل من العمل السيئ ثم لا يعود إليه أبدا). وقال قتادة: (هي الصادقة الناصحة). فالتوبة النصوح هي التوبة الخالصة الصادقة السالمة من الفساد في القصد والعمل بحيث يتبدل سلوك العبد من الكفر إلى الإيمان ومن المعصية إلى الطاعة ومن الرياء إلى الإخلاص ومن الشرك إلى التوحيد ومن الفجور إلى العفاف ومن أكل الحرام إلى الحلال ومن البيئة الفاسدة إلى البيئة الصالحة كأنه ولد من جديد أما من خلط بين الحلال والحرام والإساءة والإحسان فليست توبته نصوحا قال ابن تيمية: (فالتوبة النصوح هي الخالصة من كل غش وإذا كانت كذلك كائنة فإن العبد إنما يعود إلى الذنب لبقايا في نفسه فمن خرج من قلبه الشبهة والشهوة لم يعد إلى الذنب فهذه التوبة النصوح وهي واجبة بما أمر الله تعالى؛ ولو تاب العبد ثم عاد إلى الذنب قبل الله توبته الأولى ثم إذا عاد استحق العقوبة فإن تاب تاب الله عليه أيضا).

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يداوم على الاستغفار والتوبة كما ورد في صحيح مسلم  عن الأغر بن يسار المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (يَا أَيُّها النَّاس تُوبُوا إِلى اللَّهِ واسْتغْفرُوهُ فإِني أَتوبُ في اليَوْمِ مائة مَرَّةٍ). فينبغي للمؤمن أن يداوم عليها آناء الليل والنهار.

فيجب على المسلم أن يبادر بالتوبة من الذنوب ولا يؤخر قال ابن القيم: (المبادرة إلى التوبة من الذنب فرض على الفور ولا يجوز تأخيرها فمتى أخرها عصى بالتأخير فإذا تاب من الذنب بقي عليه توبة أخرى وهي توبته من تأخير التوبة وقل أن تخطر هذه ببال التائب بل عنده: أنه إذا تاب من الذنب لم يبق عليه شيء آخر وقد بقي عليه التوبة من تأخير التوبة ولا ينجي من هذا إلا توبة عامة مما يعلم من ذنوبه ومما لا يعلم فإن ما لا يعلمه العبد من ذنوبه أكثر مما يعلمه ولا ينفعه في عدم المؤاخذة بها جهله إذا كان متمكنا من العلم فإنه عاص بترك العلم والعمل فالمعصية في حقه أشد).

ومن المؤسف أن يستمر المؤمن في وحل الذنوب وستار الغفلة مع كثرة المبكيات والمصائب والأحداث من حوله التي تهز الجبال ولكن قلبه قاسي. ومن المؤسف أن يجتهد المؤمن في إصلاح دنياه والسعي وراء جمع المال وآخرته في خراب وضياع وكأنه سيعمر في الدنيا. ألا يمكن أن يستشعر المؤمن قرب أجله ودنو رحيله من الدنيا وهو لم يستعد إن التفكر في هذه القضية كفيلة بأن توقظه وتقلب حياته. وماذا سيجني المؤمن من كثرة الذنوب والغرق في الشهوات إلا الوحشة والعذاب والألم النفسي واللوم بعد الفراغ منها تستوحش روحه التي بين جنبيه. ولو تفكر المؤمن في الموت الذي يخطف أحبابه وأوليائه من بين يديه قد يخطف روحه ويفسد حياته فكيف يستمر في ارتكاب الذنوب والغفلة من غير وعي. ولو تفكر المؤمن في سعة رحمة الله وجوده وكرمه وفرحه بتوبة عبده المؤمن لهرع مسرعا للتوبة والإصلاح ليس كحال المخلوق الذي يسيء مع الظالم. ولو تفكر المؤمن في الأوقات والليالي الذي أضاعها في اللهو والمعاصي لندم عليها في الدنيا قبل أن يندم عليها في الآخرة واستدرك ما بقي منها. ولو تفكر المؤمن في حال الفاسقين والعصاة الذين تلذذوا بالشهوات ثم رحلوا عن الدنيا كيف أعرض الناس عن ذكرهم ولم يبق لهم سيرة حسنة وصيت طيب. لو تفكر المؤمن في حال الصالحين في الجنة وعلو منزلتهم وعظيم ثوابهم مع مالهم في الدنيا من الثناء الحسن والدعاء لغير حاله وتخلص من الذنوب. ولو تفكر المؤمن في شدة عذاب الله وانتقامه من أهل الكبائر والجرائم الذين ماتوا من غير توبة وهم تحت مشيئته لاجتهد في ترك الكبائر ولم يفرط في طاعة الله. ولو تفكر المؤمن في فضل حسن الخاتمة وأن العبرة بالخواتيم وأن الله إذا أراد بعبده العاصي خيرا وفقه للعمل الصالح لأحسن توبته ولزم الخير. ولو تفكر المؤمن في حقارة هذه الدنيا ودناءتها وأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة لما باع دينه بعرض من الدنيا ولاستعد للرحيل وزهد فيها. ولو تفكر المؤمن أن حياة الأحزان والشقاء والذلة سببها الرئيس هو المعاصي وأن الرضا والسعادة والعزة في الاستقامة على الطاعة لغير حياته ولم يبق على معصيته قال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً). فالطاعة تورث العزة والمعصية تورث الذلة قال جعفر الصادق: (من أخرجه الله من ذل المعصية إلى عز التقوى أغناه الله بلا مال وأعزه بلا عشيرة وآنسه بلا أنيس). وكان من دعاء بعض السلف: (اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك).

وإذا زين لك الشيطان المعصية ووقعت فيها فاحذر من ثلاث خصال:

الأولى: أن تكون مستحلا لها قال تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ). ومن استحل شيئا حرمه الله كفر.

الثانية: أن تجاهر بمعصيتك أمام الناس وتتباهي بذنبك قال صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ). متفق عليه.

الثالثة: أن تصر على ذنبك وتستخف بعذاب الله وعقوبته قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ). قال ابن تيمية: (ولا يجوز للمسلم إذا تاب ثم عاد أن يصر بل يتوب ولو عاد في اليوم مائة مرة فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يحب العبد المفتن التواب).

وإذا غلبك الشيطان واستدرجك إلى المعصية وأوقعتك نفسك في الرذيلة فأسر بذنبك ولا تخبرن مخلوقا بمعصيتك وأتبع تفريطك باستغفار وندم وعزم على عدم العود وأشغل نفسك بعمل صالح من صلاة وصدقة وذكر وبر فإن الحسنة تمح السيئة والتوبة تغسل قلبك وجوارحك من درن المعصية والإنابة تطهر روحك من وسخ الغفلة والتائب يسير في طريق الله قال تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ۚ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحسنةَ تَمْحُهَا، وخَالقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ). رواه الترمذي.

وموانع التوبة كثيرة من أهمها:

الأول: الجهل بالله قال تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا). قال مجاهد: (كل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته). فمن عصى الله فهو جاهل ومن أطاع الله فهو عالم.

الثاني: الغفلة عن ذكر الله قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ). قال قتادة: (أي نسي ما سلف من الذنوب). فمن غفل عن ذكر الله حببت له المعصية وبغضت له التوبة.

الثالث: النفس الأمارة بالسوء قال تعالى: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي). فمن أطاع نفسه الأمارة بالسوء زينت له الفاحشة وأغرته بالمعصية وأبعدته عن التوبة. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته : (وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا). رواه أبو داود.

الرابع: اتباع الهوى قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ). فمن ائتمر بهواه ضل عن طريق التوبة.

الخامس: الافتتان بزخرف الدنيا قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبٌّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنعَامِ وَالحَرثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدٌّنيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسنُ المَآبِ). فمن سكنت الدنيا في قلبه تحركت جوارحه في المعصية ومنع التوبة لأنها تقطع عليه شهواته.

السادس: طول الأمل قال تعالى: (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ). فمن طال أمله أمن العقوبة ومن أمن العقوبة لم يوفق للتوبة والإنابة.

السابع: صحبة الفساق قال تعالى: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا). فمن أطاع الفساق زينوا له الشهوات وبغضوا له الطاعات وصدوه عن التوبة.

والشيطان له مداخل خطيرة على المؤمن في باب التوبة:

الأول: تخدير العاصي بتسويف التوبة إلى آخر عمره وتأجيلها إلى المشيب فيلقى في روعه الأماني الكاذبة بأنه ما يزال في ريعان الشباب فليهنأ وليستمتع بالمعاصي ثم يتوب وهذه الحيلة الفاسدة خطيرة لأنه إذا أجل التوبة وطال زمانه في المعصية شق عليه تركها وفراقها لأن نفسه ألفتها وأدمنتها. وأمر آخر أنه ربما عرض له المرض أو هجم عليه الموت وهو غارق في المعصية فيحال بينه وبين المعصية ويموت على المعصية ويبعث عليها.

الثاني: توبتك ناقصة لا تصح فإما أن تتوب من جميع الذنوب لتصح توبتك أو تترك التوبة نهائيا وهذه شبهة باطلة لأن توبة المؤمن من بعض الذنوب مع إصراره على ذنب آخر تصح لعموم الأدلة فلكل ذنب توبة خاصة به ولم يرد في النصوص ما يدل على أن التوبة لا تصح إلا إذا استغرقت جميع الذنوب وهذا مذهب جمهور الفقهاء.

الثالث: توبتك كاذبة لتكرارك الذنب بعد توبتك كلما تبت أذنبت وقد عالج الشرع هذه الشبهة الفاسدة وأبطلها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَذنَب عبْدٌ ذَنْبًا فقالَ: اللَّهُمَّ اغفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعالى: أَذْنَبَ عبدِي ذَنْبًا، فَعَلِم أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ ربِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تبارك وتعالى: أَذْنَبَ عبدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغفِرُ الذَّنبَ، وَيَأخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَي رَبِّ اغفِرْ لِي ذَنبي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالى: أَذْنَبَ عَبدِي ذَنبًا، فعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنبِ، قد غَفَرْتُ لِعَبْدِي فَلْيَفْعَلْ مَا شَاءَ). متفق عليه. فلا يشترط في صحة التوبة عند أكثر أهل العلم عدم الرجوع إلى الذنب الذي تاب منه العاصي ما دامت توبته صحيحة مستجمعة لشروطها فإذا عاود الذنب كانت معصية جديدة ولم تبطل توبته السابقة.

الرابع: أنت ضعيف لا تستطيع أن تتوب وتغير حالك لأنك حينئذ ستخالف التيار وتخالف المجتمع وستمنع فرحة الحياة عن نفسك فستكون منعزلا شاذا عن الناس وهذه الشبهة الشيطانية قد أبطلها الله بقوله: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا). رواه البخاري. وبين النبي صلى الله عليه وسلم فضل التمسك بالشرع في زمان الفتن. فلا يضر المسلم الصادق ما يفقده من نعيم الدنيا ولهوها وانكفاف الناس عنه لأنها خسارة يسيرة زائلة في مقابل فوز وفلاح عظيم ودائم في الآخرة.   

الخامس: أنت منافق لأنك تظهر العمل الصالح والتوبة إذا كنت في مجامع الصالحين وإذا خلوت مع نفسك عصيت ربك ونقضت توبتك وهذه شبهة فاسدة قد أبطلها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث نافق حنظلة المخرج في صحيح مسلم وقال فيه: (وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لو تَدُومُونَ علَى ما تَكُونُونَ عِندِي، وفي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ المَلَائِكَةُ علَى فُرُشِكُمْ وفي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثَلَاثَ مَرَّاتٍ). ودلت النصوص على أن المؤمن يزيد إيمانه إذا أطاع ربه وينقص إذا عصى ربه.

السادس: أنت عملت ذنوبا عظيمة لا يغفرها الله لك فاستمر في باطلك ولهوك واقطع التفكير في التوبة لأنها لا تنفعك أبدا وهذه شبهة فاسدة خطيرة ناشئة عن القنوط من رحمة الله وقد أبطلها الله عز وجل فقد روى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا وَأَكْثَرُوا وَزَنَوْا وَأَكْثَرُوا، فَأَتَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ، لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً؟ فَنَزَلَ: (وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَلاَ يَزْنُونَ)، ونزلت: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)). فرحمة الله واسعة لكل ذنب عظيم وفضله عظيم لكل تائب ومغفرته عامة لكل منيب وما بين العاصي ورحمة الله ومغفرته إلا التوبة الصادقة وحسن الظن بربه قال تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى).

السابع: أنت مرائي في توبتك إنما قصدت في تركك الفساد وإظهار التوبة الرياء والسمعة الحسنة والمكاسب الشخصية ولم تفعل ذلك خالصا لوجه الله فتوبتك مشكوك فيها وهذه وسوسة خبيثة تعرض لكل من عمل صالحا وأقبل على طاعة ربه وعلاجها في التعوذ من الشيطان الرجيم وتجديد الإخلاص وكثرة ذكر الله والتأمل في فوائد التوبة والتفكر في الثواب العظيم لأهل التوبة والعمل الصالح قال تعالى: (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۚ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

خالد بن سعود البليهد

15/7/1443