اطبع هذه الصفحة


شرح حديث (لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث)

خالد بن سعود البليهد

 
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة) متفق عليه.

هذا حديث عظيم في بيان حرمة دم المسلم وعصمة نفسه والحالات التي يباح فيها قتله. وفيه مسائل:

الأولى: في الحديث دليل على وجوب احترام دم المسلم وعصمته مادام أنه قد أظهر الإسلام فلا يحل لأحد أن يتعرض له مهما فعل من الذنوب أو أخل بالواجبات أو ضيع من الحقوق إلا إذا فعل ما يوجب قتله بسلطان الشرع. والذي يلي قتله الإمام الشرعي أو من ينوب عنه ولا يحل لمن سواهم إقامة هذا الحد باتفاق أهل العلم. وقد ورد في الشرع ذم شديد لمن انتهك حرمة المسلم واستباح دمه وفاعل ذلك مرتكب لكبيرة عظيمة مستحق للوعيد في الآخرة والخزي في الدنيا. قال تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا).

الثانية: إذا زنى الثيب كان حده الرجم حتى الموت وقد أجمع الفقهاء على ذلك وقد كان الرجم في القرآن ثم نسخ ولفظه: (والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم). وقد رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا والغامدية ورجم اليهوديين الذين تحاكما إليه ورجم الخلفاء الراشدون بعده. فالرجم سنة ثابتة وفريضة عادلة لها أثر عظيم في تطهير أعراض المسلمين ونشر الفضيلة في المجتمع فتبا لمن أنكره وازدراه وترفع عن تنفيذه واعتقد أنه من الوحشية أو انتهت مشروعيته في صدر الإسلام. واختلف الفقهاء في جلد من استحق الرجم هل يجمع له بينهما أو يقتصر على الرجم: ذهب الإمام أحمد في المشهور عنه إلى الجمع بينهما أخذا بظاهر حديث عبادة (والثيب بالثيب جلد مئة والرجم) رواه مسلم. وذهب الجمهور إلى الإقتصار على الرجم دون الجلد أخذا بسائر الأحاديث الثابتة التي لم تذكر الجلد وقالوا هي ناسخة لحديث عبادة لأنها متراخية عنه وهذا هو الأقرب لكن إن اجتهد الإمام ورأى المصلحة في الجمع بينهما كان هذا سائغا له.

الثالثة: من قتل مسلما معصوما عمدا بغير حق قتل به قصاصا كما في قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ). وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى). ويستثنى من هذا الحكم ثلاث صور:
1. أن يقتل الوالد ولده: فلا يقاد به لما روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عمر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يقاد الوالد بولده). وقد صح عن عمر. ولأن الوالد سبب في وجود الولد فلا يقاد الأصل بفرعه وهو مذهب الجمهور وهو الصحيح.
2. أن يقتل الحر عبدا: فلا يقاد به لما روي في السنة وهو قول أكثر العلماء وأجمعوا على عدم القصاص بين العبد والحر في الأطراف. أما حديث سمرة في ثبوت القود بين العبد والحر ولفظه: ( من قتل عبده قتلناه ومن جدعه جدعناه) فهو حديث منكر لا يثبت طعن فيه الإمام أحمد وغيره من الأئمة.
3. أن يقتل مسلم كافرا: فلا يقاد به لحديث علي في صحيح البخاري: (لا يقتل مسلم بكافر). وسواء كان الكافر حربيا أو معاهدا وهو مذهب الجمهور وهو الصحيح.

الرابعة: وفيه أن التارك لدينه المفارق للجماعة يقتل ويستباح دمه والمراد به من ترك دين الإسلام وارتد عنه وفارق جماعة المسلمين. فإن ارتد المسلم عن دينه بقول أ, فعل أو اعتقاد ناقض لأصل الدين استتيب فإن تاب ورجع عفي عنه وإن لم يتب أقيم عليه حد الردة وهو القتل ومات على الكفر والعياذ بالله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) رواه البخاري. وحد الردة أمر محكم وحكمه باق إلى يوم القيامة خلافا لمن رده وأنكره وزعم أنه شرع في أحوال خاصة. وقد شرعه الله صيانة للدين وتعظيما لشعائر الله وفرقانا بين الإسلام والكفر والحق والباطل. وهو عام لكل مرتد سواء كان كافرا ثم أسلم ثم ارتد أو ولد مسلما ثم ارتد. وإنكار الردة بالكلية دليل على قلة البصيرة والغيرة على حرمات الله والذلة والإنهزامية أمام أعداء الله.

الخامسة: لا فرق في باب الردة بين الرجل والمرأة عند أكثر العلماء وهو الحق. فإن حصلت الردة من المرأة أقيم عليها حد الردة كالرجل لعموم الخبر وآثار الصحابة وقاعدة الشرع عدم التفريق بين الرجل والمرأة في باب الأسماء والأحكام والآثار المترتبة على ذلك. أما من فرق بينهما ومنع الحد عن المرأة المرتدة بشبهة عدم قتل نساء الكفار في دار الحرب فقوله ضعيف نقلا وقياسا لأنه لا يصح قياس الكفر الطارئ على الكفر الأصلي فالكفر الطارئ أغلظ وأشد من الكفر الأصلي ولذلك يقتل من الرجال في باب الردة من لا يقتل من أهل الحرب كالشيخ الكبير والأعمى والمريض. وكذلك أباح الشارع نكاح أهل الكتاب وذبائحهم وحرم ذلك في المرتد وغير ذلك من الأحكام التي تدل على أن الشارع شدد في الكفر الطارئ. وعدم قتل النساء في دار الحرب لعدم مشاركتهن في القتال ليس لوجود الفرق بين المرأة والرجل ولهذا إذا حملت المرأة السلاح وقاتلت كان حكمها حكم الحربي تقتل مثله.

السادسة: التحقيق قبول توبة المرتد. فإذا رجع المرتد إلى الإسلام وتاب عن ردته قبلت منه وكف عنه ولم يتعرض له بالقتل لأن الوصف الموجب لقتله قد زال وعملا بعموم نصوص التوبة ولأن التوبة تجب ما قبلها ولأن الشارع لم يستثن في التوبة شيئا يدل على رد توبة المرتد وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل توبة من ارتد عن الإسلام. أما من تكررت ردته وظهرت عليه أمارات الكذب والنفاق فلا يقبل منه توبة في الظاهر ويقام عليه الحد في الدنيا وتوكل سريرته إلى الله.

السابعة: ورد في السنة أحاديث تدل على إباحة قتل المسلم في غير هذه الخصال الثلاث:
1. اللواط: لحديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقتلوا الفاعل والمفعول به) رواه أبوداود. وأفتى به مالك. وحكي إجماع الصحابة عليه. وذهب الجمهور إلى أن حد اللواط كالزنا قياسا عليه وتركوا العمل بظاهر الحديث لنكارة متنه والاختلاف في إسناده.
2. نكاح ذات المحرم: لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من فعله. وروي أنه قتل من فعل ذلك كما في حديث البراء بن عازب الذي أخرجه أحمد وغيره. وقال به طائفة من العلماء.
3. الساحر: لما أخرج الترمذي من حديث جندب مرفوعا: (حد الساحر ضربه بالسيف). وروي فعله عن جمع من الصحابة. وأفتى به جماعة من أهل العلم مالك وأحمد وغيرهما.
4. شارب الخمر في المرة الرابعة: لحديث معاوية في الأمر بقتل شارب الخمر في المرة الرابعة الذي أخرجه أحمد وغيره. والصحيح أن هذا الحكم منسوخ قد تركت الأمة العمل به. وفي صحيح البخاري: (أن رجلا كان يؤتى به النبي صلى الله عليه وسلم في الشرب فلعنه رجل فقال ما أكثر ما يؤتى به فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله). فهذا الحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتله ولو كان القتل محفوظا في الشرع لفعله. أما قتل السارق في المرة الخامسة فالحديث فيه منكر لا يصح العمل به.
5. الصائل على الإنسان في نفسه وماله وأهله: فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (من قتل دون ماله فهو شهيد) أخرجه البخاري. وفي رواية (دون دمه). وذهب الشافعي وأحمد إلى أن الإنسان يدفع الصائل بالأسهل فالأسهل ولا ينو قتله فإن لم يندفع إلا بالقتل قتله. وذهب طائفة إلى إباحة قتله ابتداء.
و عند التأمل يمكن رد هذه الأمور إلى حديث ابن مسعود فتكون داخلة في معناه راجعة إلى الخصال الثلاثة. فما كان من جنس انتهاك الفرج المحرم يكون داخلا في حكم الثيب الزاني وما كان من جنس سفك الدم الحرام يكون داخلا في قتل النفس بغير حق وما كان من جنس الردة والكفر يكون داخلا في حكم التارك لدينه المفارق للجماعة.

الثامنة: ذهب جماعة من العلماء منهم مالك وأحمد إلى مشروعية قتل الداعية إلى البدعة المغلظة لأن فعله شبيه بالخروج من الدين ووسيلة إلى ذلك. فمتى ما أظهر بدعته ودعى الناس إليها وحملهم عليها قتل وإن استخفى ببدعته ولم يدع الناس إليها كان حكمه حكم المنافقين المستخفين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتعرض لهم بقتل ولا قتال. فقد سئل الإمام أحمد عن الجهمي قال: (أرى قتل الدعاة منهم). وهذا من باب التعزير وهو راجع إلى نظر الإمام في تحقيق المصلحة ويختلف بحسب قوة أهل الحق وضعفهم وما يترتب على ذلك.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال الخوارج بقوله: (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود) خرجاه في الصحيحين. وفيهما أيضاً من حديث علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة). وقال صلى الله عليه وسلم فيهم : (طوبى لمن قتلهم ثم قتلوه) رواه الإمام أحمد. واتفق الصحابة على قتالهم واختلف الفقهاء في حكم من أظهر مذهب الخوارج ولم يخلع طاعة الإمام أو يسفك دما حراما على ثلاثة أقوال:
1. ذهب مالك إلى ابتداء قتالهم مطلقا لفسادهم في الأرض وعملا بظاهر النصوص. فقال يستتابون فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم.
2. وذهب أحمد إلى التفصيل فقال إن دعوا إلى بدعتهم قوتلوا وإن لم يدعوا إليها لم يقاتلون. قال: (الحرورية إذا دعوا إلى ما هم عليه إلى دينهم فقاتلهم وإلا فلا يقاتلون).
3. وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى عدم قتالهم بمجرد دعوتهم وإنما يقاتلون إذا بدئوا القتال وسفكوا الدماء. واستدلوا بأن الخليفة علي رضي الله عنه لم يقاتلهم حتى سفكوا الدماء ولم يتعرض لهم قبل ذلك. ووافقه عمر بن عبد العزيز.
والذي يظهر أن الإمام الشرعي له قتال الخوارج عند ظهور أمرهم وانتشار دعوتهم ولو لم يخرجوا عليه ويسفكوا الدماء لعموم الأمر بقتالهم دون تقييده بحصول القتال منهم ، ودرءا للفتنة عن المسلمين ، واستئصالا لشوكتهم قبل تمكنهم فإنهم لو تركوا ولم يتعرض لهم لإستفحل أمرهم وقويت شوكتهم وعظم فسادهم وشق على أهل السنة القضاء عليهم والتأريخ يشهد بهذا. أما تركهم يدعون غيرهم ويشيعون مذهبهم ويتترسون دون تعرض لهم فهذا قول فيه بعد عن روح الشريعة ويترتب عليه فساد عظيم. وللإمام ترك قتالهم حتى يسفكوا الدماء ينظر الأصلح في ذلك ويراعي الأحوال كأن يخشى مفسدة أعظم أو يكون غير متهيأ لقتالهم كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل ذي الخويصرة تأليفا للناس في الإسلام وخشية تنفيرهم عنه كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر لما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق فقال رسول الله: (معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي إن هذا وأصحابه يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية). والله الموفق.

خالد سعود البليهد
binbulihed@gmail.com
الرياض: في 16/1/1429
 

خالد البليهد
  • النصيحة
  • فقه المنهج
  • شرح السنة
  • عمدة الأحكام
  • فقه العبادات
  • تزكية النفس
  • فقه الأسرة
  • كشف الشبهات
  • بوح الخاطر
  • شروح الكتب العلمية
  • الفتاوى
  • كتب
  • الصفحة الرئيسية