اطبع هذه الصفحة


شرح حديث (إن الله كتب الإحسان على كل شيء)

خالد بن سعود البليهد

 
عن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته). رواه مسلم.

هذا الحديث من الأحاديث الجامعة لقواعد الإسلام وهو شامل لسائر أبواب الدين وفروعه. وفيه مسائل:

الأولى: قوله صلى الله عليه وسلم: (كتب الإحسان). لفظ الكتابة تقتضي الوجوب عند أكثر الأصوليين. قال تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيام رمضان: (إني خشيت أن يكتب عليكم). رواه البخاري. والكتابة الواردة في الشرع ضربان:
1- كتابة كونية قدرية وهي ما يقع قدرا لا محالة. قال تعالى: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ). وقال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ).
2- كتابة شرعية دينية وهي ما أمر الله به وشرعه لعباده. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). وقال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ).

الثانية: الإحسان لغة بذل المنفعة والخير. واصطلاحا في عرف الشارع يطلق على أمرين:
(1) إيصال النفع إلى الآخرين.
(2) إتمام العبادة وإتقانها. فهو يشمل الإحسان في حق الله والإحسان في حق الخلق. فالمحسن هو من أحسن في عمله وأحسن إلى غيره.

الثالثة: أمر الله تعالى بالإحسان فقال: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى). وقال تعالى: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). ويختلف حكم الإحسان في الشرع:
1- فتارة يكون واجبا كالإحسان إلى الوالدين والأرحام بقدر ما يحصل به أقل البر والصلة والإحسان إلى الضعيف بقدر ما يحصل به دفع خلته.
2- وتارة يكون مستحبا كصدقة التطوع وسقاية الماء وإكرام الضيف والإحسان إلى الجار ودلالة الضال والسعي على الأرملة والمسكين وغير ذلك من وجوه البر.

الرابعة: الحديث دليل على مشروعية الإحسان في كل شيء وعمومه في سائر الأعمال ولكن إحسان كل شيء بحسبه وهو على أصناف:
1- فالإحسان في باب الواجبات الظاهرة والباطنة يكون بالإتيان بها على وجه كمال واجباتها فهذا القدر من الإحسان فيها واجب. أما الإحسان فيها بإكمال مستحباتها فمستحب ليس بواجب.
2- والإحسان في باب المحرمات يكون بالانتهاء عنها وترك ظاهرها وباطنها كما قال الله تعالى: (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ).
3- والإحسان في باب المقدورات يكون بالصبر عليها من غير تسخط ولا جزع.
4- والإحسان في باب معاملة الخلق يكون بالقيام بما أوجب الله لهم من الحقوق.

الخامسة: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان في القتل مثالا يندرج تحت قاعدة الإحسان. والإحسان في قتل ما يجوز قتله من الناس والدواب يكون بإزهاق نفسه على أسرع الوجوه وأسهلها من غير زيادة في التعذيب لأنه إيلام بلا حاجة ولا مصلحة راجحة. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة). دليل على إحسان هيئة الذبح وهيئة القتل سواء كان ذلك في اختيار الآلة الحادة التي تمضي وتريح المقتول أو في صفة القتل وطريقته. وأسهل وجوه قتل الآدمي ضربه بالسيف على العنق كما قال تعالى في قتال الكفار: (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ). وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية تغزو في سبيل الله قال لهم: (لا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا). رواه مسلم. وفي صحيح البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة). وقد ورد وعيد شديد لمن مثل فقد أخرج أحمد في مسنده عن رجل من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من مثل بذي روح ثم لم يتب مثل الله به يوم القيامة). وأهل الإيمان من أعف الناس في هذا الباب لا يعذبون ولا يمثلون في القتل فهم أرحم الناس بخلق الله. أما الكفار والخوارج وأهل البدع إذا تمكنوا من عدوهم ليس عندهم ورع قساة وظلمة في القتل. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعف الناس قتلة أهل الإيمان). رواه أبوداود.

السادسة: إذا وقع القتل قصاصا فلا يجوز التمثيل بالمقتص منه بل يقتل كما قتل. فإن كان القاتل قد مثل بالمقتول فاختلف الفقهاء في حكم التمثيل به: هل يمثل به أم يقتل بالسف قولان مشهوران لأهل العلم: ذهب أبو حنيفة والثوري ورواية عن أحمد إلى أنه لا قود إلا بالسيف ولا يمثل بالقاتل مطلقا واستدلوا على ذلك بحديث أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا قود إلا بالسيف). رواه ابن ماجه. ولكن هذا الخبر ضعيف لا تقوم به حجة. قال أحمد: يروى لا قود إلا بالسيف وليس إسناده بجيد وحديث أنس
يعني في قتل اليهودي بالحجارة أسند منه وأجود. وذهب مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه إلى جواز التمثيل به كفعله لحديث أنس في الصحيحين قال خرجت جارية عليها أوضاح بالمدينة فرماها يهودي بحجر فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها رمق فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلان قتلك فرفعت رأسها فقال لها في الثالثة فلان قتلك فخفضت رأسها فدعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضخ رأسه بين الحجرين. وهذا القول هو الصحيح أنه يفعل بالقاتل كما فعل بالمقتول لأنه مقتضى العدل وبه يتحقق الزجر ويشيع الأمن وشفاية قلوب أولياء المقتول.
أما التحريق بالنار فقد أذن به النبي صلى الله عليه وسلم ثم نهى عنه كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: (إن وجدتم فلانا وفلانا لرجلين من قريش فأحرقوهما بالنار). ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج: (إني كنت أمرتكم أ، تحرقوا فلانا وفلانا بالنار وإن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما). وأخرج أيضا من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تعذبوا بعذاب الله عز وجل). ولهذا أنكر ابن عباس رضي الله عنهما على علي بن طالب رضي الله عنه لما حرق المرتدين. فلا يجوز التحريق بالنار مطلقا سواء كان مسلما أو كافرا لعموم الأدلة. ويدخل في ذلك تحريق الهوام وأكثر العلماء على كراهة ذلك. فقد نهت أم الدرداء عن تحريق البرغوث. وقال أحمد: (لا يشوى السمك في النار وهو حي). ورخص في الجراد وقال: (هو أهون لأنه لا دم له). أما قتل الحشرات بالصعق الكهربائي فجائز لا شيء فيه لأنه ليس بتحريق وفيه مصلحة ظاهرة والله أعلم.

السابعة: قوله صلى الله عليه وسلم: (وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته). فيه الإرشاد بالذبح بالآلة الحادة لترتاح الذبيحة وتزقق نفسها بسرعة. وقد ورد الأمر بالرفق بالذبيحة عند ذبحها كما روي في حديث أبي سعيد الخدري قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل وهو يجر شاة بأذنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دع أذنها وخذ بسالفتها). يعني بمقدم عنقها. أخرجه ابن ماجه. وقال أحمد: (تقاد إلى الذبح قودا رفيقا وتوارى السكين عنها ولا تظهر السكين إلا عند الذبح أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أن توار الشفار). وقال أيضا: (ما أبهمت عليه البهائم فلم تبهم أنها تعرف ربها وتعرف أنها تموت). وقد ورد الأمر بقطع الأوداج عند الذبح كما روي في حديث ابن عباس وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى عن شريطة الشيطان). وهي التي تذبح فتقطع الجلد ولا تفري الأوداج. رواه أبوداود. وفي مسند أحمد عن قرة: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والشاة إن رحمتها رحمك الله). وقال مطرف: (إن الله ليرحم برحمة العصفور).

الثامنة: في الحديث دلالة ظاهرة على مشروعية احترام الحيوان والرفق به. وقد ورد في السنة أحاديث كثيرة تدل على فضل رحمة الحيوان والإحسان إليه وأن ذلك سبب لدخول الجنة. في الصحيحين عن أبي هريرة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بينما كلب يطيف بركية كاد يقتله العطش إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها فسقته فغفر لها به). وقد ورد وعيد شديد لمن عذب الحيوان أو تسبب في قتله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت). متفق عليه. أما الحيوان المؤذي الذي من طبعه الافتراس أو الإفساد فهو هدر لا حرمة له وقد أمر الشارع بقتله كما في الصحيحين من حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم العقرب والحدأة والغراب والفأرة والكلب العقور). ويدخل في هذا الحديث قياسا كل ما آذى من السباع والجوارح من الطير الضارية ولم يكن في إمساكه مصلحة. وليس من الرفق بالحيوان والرأفة تربية الحيوانات النجسة والعناية بها كالكلاب والخنازير كعادة الإفرنج ومن شابههم من السفهاء وقد نهى الشرع عن ذلك ورتب عقوبة شديدة كما أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط). يعني نقص من أجره مثل جبل أحد. وإنما رخص الشرع في ذلك إذا كانت المصلحة راجحة كاتخاذه للصيد والزرع والماشية ويلحق بذلك على الصحيح استعماله في الحراسة واكتشاف المخدرات وغير ذلك من الأغراض الصحيحة لأن ذلك في معنى المنصوص عليه فالعلة متعدية والأظهر عدم قصرها على النص والله أعلم.

التاسعة: من أعظم الإحسان الذي أمر الله به الإحسان إلى الزوجة والعيال. قال تعالى: (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ). فسره غير واحد بالزوجة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي). رواه الترمذي. وقال صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالنساء ، فإن المرأة خُلقت من ضلع ، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته لم يزل أعوج ، فاستوصوا بالنساء). متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يضاجعها في آخر اليوم). متفق عليه. وفي صحيح مسلم: (كان رسول الله رجلاً سهلاً، فإذا هويت عائشة شيئاً، تابعها عليه). وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حليما لين المعشر مع أهله كريما عف اللسان لا يضرب ولا يعنف ولا يسيء الظن رفيقا بهم يصفح عن زلات النساء ولا يستقصي حقه متغافل في بيته فقد جمع بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم كريم الخصال وحسن المعشر. فينبغي على المؤمن أن يحسن إلى أهله بجميع أنواع الإحسان من طلاقة الوجه وحسن الكلام وإصلاح المظهر والتسامح واحتمال الأذى والرفق ومراعاة الأحوال وتفهم طبيعة المرأة والجود وغير ذلك. ومما يؤسف له أن بعض الناس هداهم الله إذا خرج للناس انبسطت أسارير وجهه وكان كريما دمث الأخلاق حسن المعشر وإذا دخل على أهله اكفهر وجهه وصار عنيفا سيء العشرة مقترا عليهم في النفقة. وهذا الخلق ليس من كمال الرجولة والإحسان في سيء. وليس من الإحسان إلى المرأة إقرارها على فعل المعاصي والوقوع في الشبهات وإدمان الخروج من المنزل بلا مصلحة أو حاجة معتبرة مما يترتب على ذلك تضييع حق الزوج ومصلحة الولد.

العاشرة: مما يدل على سماحة الإسلام ويسره وعدله الإحسان إلى الكفار من أهل الذمة والمعاهدين والمستأمنين غير الحربيين. قال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). فدلت الآيات على أن الكفار من حيث التعامل معهم قسمان:
1- حربيون وهم كل من أظهر القتال على المسلمين أو شارك في ذلك فهؤلاء يجب منابذتهم وإظهار العداوة لهم والسعي في قتالهم حسب القدرة وقطع المصالح معهم.
2- غير حربيين وهم كل من ترك قتال المسلمين ولم يشارك في ذلك فهؤلاء يجب العدل معهم ويباح البر بهم والإحسان إليهم وإقامة المصالح معهم ولا يحل التعرض لهم والاعتداء على حرماتهم بحال من الأحوال.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعاملهم بالحسنى فيعود مريضهم ويقبل هديتهم ويحسن جوارهم ويتعامل معهم في المعاملات المالية وينهى عن ظلمهم. وفي صحيح مسلم عن أسماء بنت أبي بكر قالت قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدهم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله قدمت علي أمي وهى راغبة أفأصل أمي قال: (نعم صلي أمك).
ومعاملتهم بالحسنى لا ينافي بغضهم والبراءة من دينهم ومجانبة طريقتهم وعدم التشبه بهم ودعوتهم إلى الحق. وإنما شرعت معاملتهم بالحسنى في الظاهر لأن ذلك مقتضى العدل الذي جاء به الإسلام ولأن فيه تألفهم وهدايتهم للدخول في دين الإسلام.

خالد بن سعود البليهد
binbulihed@gmail.com
الرياض: في 28/2/1429

 

خالد البليهد
  • النصيحة
  • فقه المنهج
  • شرح السنة
  • عمدة الأحكام
  • فقه العبادات
  • تزكية النفس
  • فقه الأسرة
  • كشف الشبهات
  • بوح الخاطر
  • شروح الكتب العلمية
  • الفتاوى
  • كتب
  • الصفحة الرئيسية