اطبع هذه الصفحة


كيف تكون عالما في الإعتقاد

خالد بن سعود البليهد

 
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد فإن التأصيل في العلوم الشرعية والتمكن في مسائله مطلب مهم ينبغي على طالب العلم أن يعتني به ويسعى في تحصيله خاصة في علم الإعتقاد لأهميته وكونه أصلا في الدين تتفرع الأعمال منه ة وكثرة اختلاف الفرق الإسلامية فيه وما يلقى فيه من الشبهات والآراء المختلفة وخفاء بعض مسائله ودلائله.

وتظهر أهمية التأصيل في الإعتقاد في الأمور الآتية:

1- ما يلحظ في الآونة الأخيرة من ضعف أهل السنة في تقرير الإعتقاد وقلة المعتنين والمتخصصين فيه.
2- اضطراب بعض طلاب العلم والدعاة في بعض المسائل وعدم فهمهم لغة ومقاصد كلام أئمة السلف.
3- عدم تمكن بعض المناظرين من أهل السنة في مسائل الإعتقاد أثناء ردهم ومناظرتهم لأهل البدع.
4- ندرة دروس الإعتقاد في الحركة العلمية وإهمال بعض المدارس العلمية المحسوبة على السنة لعلم الإعتقاد.
5- كثرة المخالفين لأهل السنة ونشاط المبتدعة في تشويه مذهب أهل السنة والطعن فيه وقيام مراكز ومدارس مختلفة بهذا الدور السيء.

ومما يؤسف أنك قد تجد طالب علم متمكن في علم الحديث أو الفقه ولكنه يجهل أصول عظيمة ومسائل ظاهرة في علم الإعتقاد ويظهر فيه الضعف في تقرير مسائله وإدراك أصوله وعلله ومسالك أهل السنة فيه. فيقبح بالطالب والشيخ أن يجهل بعض المسائل المهمة في الإعتقاد أو يحصل عنده خلل فيها أو يسهل ويتهاون في الخلاف في مسائل الإعتقاد.

بادئ ذي بدأ يجب على من أراد أن يتقن هذا العلم ويحيط بأهم مسائله أن يسلم ويعتقد أن القول في مسائل الإعتقاد هو لأئمة السنة من السلف الصالح المجمع على إمامتهم. وأنه لا يسوغ لمن جاء بعدهم إعادة النظر والاختيار في هذا الباب. ولهذا نبه العلماء على تخطئة من تكلم في مسألة ليس له فيها إمام معتبر سبقه بالقول. ولكن يبقى على طالب العلم استفراغ الوسع وبذل الجهد في حفظ أصول الإعتقاد وفهم كلام السلف وإدراك مقاصده ومآخذه. وليعلم طالب العلم أن العبرة في تقرير الإعتقاد بما أجمع عليه الأئمة وسطروه في عقائدهم ولم يتعرض لانتقاد أو استدراك من أحد العلماء الراسخين ولا يلتفت إلى قول العالم المتفرد في مسألة لم يتابعه الجماعة على قوله ونبهوا على خطأه بل قوله شاذ لا يعول عليه ولا يجوز لأحد أن يعتمده ويدين الله به كما نبه العلماء على خطأ ابن خزيمة وابن منده وغيرهما في آحاد المسائل.

خطوات التأصيل في مسائل الإعتقاد:

أولا: إدراك المسألة المعنية بالبحث وفهمها وتصورها تصورا دقيقا مطابقا للواقع وتصرفات الناس.
ثانيا: تحرير حكم المسألة ومعرفة أصلها التي تندرج تحته وتمييزها عن الأمور التي تحتف بها.
ثالثا: معرفة دليل ومأخذ الحكم وطريقة الإستدلال به ورد الاعتراضات المتوجهة لها.
رابعا: ضبط القواعد والتقاسيم في المسائل والأبواب إن وجدت وتلخيص المباحث وغير ذلك مما له دور كبير في ضبط العلم وإتقانه.

لا يمكن لطالب العلم أن يتقن هذا العلم عن طريق بحث المسائل على انفراد وإذا اعتمد على هذه الطريقة سيكون تصوره للمسائل قاصرا وسيقع في أوهام وأغلاط ظاهرة. وإنما يتمكن من الإتقان إذا درس العلم دراسة منهجية متكاملة بإتمام الكتب والرسائل بحيث يصبح عنده تصور كلي للمسائل والأبواب.

ليس العبرة في ضبط علم الإعتقاد بكثرة الكتب والقراءات واختلاف النظر في مناهج العلماء ومدارسهم إنما العبرة في تحقيق الإتقان وإدراك المسائل ولو كانت الكتب قليلة فالمهم التركيز على المعاني والمآخذ والأدلة واختيار الكتب النافعة باستشارة أهل العلم الموثوق بهم. فهذا كتاب القول السديد لابن سعدي في بيان مقاصد كتاب التوحيد من أنفع الكتب التي عنيت واهتمت بذكر المقاصد والأصول في باب الألوهية وقل أن تجد مثله مع صغره فاعتناء الطالب به وبغيره من كتب التحقيق يجعله متمكنا أكثر من غيره. ومع كثرة التأمل والمناقشة يصبح لديه نضوج علمي ويفتح الله عليه.

كثير من الطلاب والباحثين يعتني أثناء دراسته للاعتقاد بكثرة النقولات وذكر الفوائد والتوسع في الشروح وهذا أمر نافع بلا شك لكن أنفع منه وأهم أن يعتني بتحرير المسائل وإدراك المآخذ وضبط الأصول وإيراد الاعتراضات ومناقشتها وإيضاح المشكل ولن يتمكن من ذلك إلا سلك التدرج في الكتب ووفق إلى شيخ يحسن التعليم على هذه الطريقة يعتمد في شرحه على التحليل والتعليل وبيان المآخذ والأصول.

وهذا العلم يشتمل على أقسام منه ما يتعلق بأصول الإيمان الستة ومنه ما يتعلق بتوحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات ومنه ما يتعلق بمسلك أهل السنة في العلم والمحبة والطاعة والسلوك والجماعة وغيره ومنه ما يتعلق بالأهواء والملل والرد على المخالفين وغير ذلك. وهذه الأبواب تتفاوت في الظهور والخفاء والأهمية فالواجب على الطالب أن يتقن أصول هذه الأبواب ثم إذا أراد أن يتخصص في باب فلا بأس لكن لا يسوغ له التخصص وهو يجهل أساسيات مهمة في بعض الأبواب. ويجب على الطالب أن يعتني عناية فائقة بباب الألوهية والأسماء والصفات لأنهما ثمرة التوحيد والخصومة فيهما عظيمة بين الفرق وبهما يحصل تعبيد الخلق لربهم عز وجل وتذللهم له.

كما أنه يجدر تنبيه الطالب على أن كتب ومصادر الإعتقاد التي وضعها العلماء على قسمين:

أولا: كتب وضعها العلماء في تقرير مسائل الإعتقاد وتأصيل الأبواب وعرض الأدلة. واعتمدت كتب منهجية في المدارس العلمية.
ثانيا: كتب وضعها العلماء في الردود ومناقشة المخالفين لأهل السنة والجواب عن شبهاتهم ووضع القواعد في هذا الباب. وقد تفنن السلف في هذا الباب إما باعتبار الرد على شخص معين أو طائفة معينة أو مسألة معينة.
فينبغي على طالب العلم الإقتصار في مرحلة التأصيل على كتب التقرير فقط ككتاب التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب والعقيدة الواسطية لابن تيمية والعقيدة الطحاوية للطحاوي وغيرها وعدم النظر في كتب الردود لأن ذلك يشوش على ذهن الطالب ويشتت قلبه وربما يوقعه في بعض الشبهات. فإذا أصل العلم وأتقن مسائله وضبط جادة أهل السنة ثم أراد بعد ذلك النظر في باب الردود والتخصص فيها فحسن. أما أن يبتدئ في الردود ويشغل وقته فيها وهو لم يتمكن بعد فهذا مسلك خاطئ وفيه مفاسد ومخالف لطريقة علماء أهل السنة.

كما يجب على الطالب الإقتصار على كتب أهل السنة ومصنفات السلف الخالصة التي أثنى عليها العلماء واعتمدوها أصولا ويحذر أشد الحذر من النظر أو التفقه في كتب المبتدعة المخالفين لمنهج السلف كالأشاعرة والماتريدية والمعتزلة والإباضية والرافضة وغيرهم. وكذلك يحذر من دراسة الكتب المعاصرة التي وضعها بعض المفكرين في شرح العقيدة ومسائل الإيمان وهم ليسوا ممن درس مذهب السلف وتخرج على طريقتهم. فالعقيدة لا تبنى على مجرد الغيرة والخواطر والتأملات والثقافة العامة.

وهناك أمر يجب التنبه إليه في منهج تأصيل الإعتقاد وفهم مذهب أهل السنة في المسائل التي فيها خفاء واشتباه كمسائل الإيمان والأسماء والصفات أن كلام السلف كثير ومبثوث في المصنفات ولغتهم يتخللها الاقتضاب والإختصار والاصطلاحات الخاصة ويعسر على الطالب المبتدئ إدراك كلامهم وفهم مآخذهم وضبط القواعد في هذه الأبواب ولكن الله قيض علماء راسخين شرحوا مذاهب السلف وضبطوا قواعد أهل السنة وبينوا الأخطاء والشذوذات التي انفرد فيها بعض العلماء وهم المحققون كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب وغيرهم فيحسن بالطالب أولا أن يعكف على كلام المحققين ثم ينصرف بعد ذلك إلى قراءة مصنفات السلف ومدارسته حتى لا يقع في إشكالات وشبهات وهو في بداية الطلب فالأمر فيه خطورة. ولذلك زل في باب الإعتقاد علماء كبار في علوم الشريعة عرفوا بحسن القصد وتعظيم السنة فمنهم من ابتلي بصحبة أهل الكلام فأحسن الظن بهم فاختار مذهبهم جهلا منه بحقيقة مذهب السلف ومنهم من اضطرب قوله في هذا الباب ومنهم من صحح كلا الطريقتين طريقة السلف وطريقة الخلف. فالإنسان مهما كثر علمه وعظم ذكاؤه لا تؤمن عليه الفتنة في هذا الباب والموفق من وفقه الله.

وهذا يوجب على طالب الحق أن يتحرى الصواب ويخلص القصد ويسأل الله الإعانة والهداية ويلزم كلام المحققين الكبار من أهل السنة الذين عرفوا بسعة الإطلاع على أقوال الطوائف والإمامة في العلم وحسن الفهم للنصوص وكمال النصح والغيرة على السنة وقد فتح الله على قلة من العلماء في هذا الباب مالم يفتحه على كثير من الناس. وحري بمن أخذ تلكم الأسباب والوسائل وسلك جادة السلف أن يوفق للصواب. أما من زهد بكلام المحققين وتفرد بالنظر واعتمد على فهمه القاصر وتصور أن الأمر يسير في الإستدلال والاستنباط وبناء الأصول والقواعد واعتقد أن له الحق في الاستدراك على الأئمة فحري بأن يخذل ويبتلى ببدعة وتزل قدمه كما زل في القديم بعض المنتسبين للسنة في هذا البحر المتلاطم الأمواج الواسع الأطراف والله المستعان. ومن تأمل كثيرا من الفتن التي امتحن فيها بعض الأئمة عرف الخطورة في ذلك واستبرأ لدينه ولزم الجادة ووكل الأمر لأهله وعرف قدر نفسه. ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا.

خالد بن سعود البليهد
binbulihed@gmail.com
الرياض: في 8/3/1429
 

خالد البليهد
  • النصيحة
  • فقه المنهج
  • شرح السنة
  • عمدة الأحكام
  • فقه العبادات
  • تزكية النفس
  • فقه الأسرة
  • كشف الشبهات
  • بوح الخاطر
  • شروح الكتب العلمية
  • الفتاوى
  • كتب
  • الصفحة الرئيسية