اطبع هذه الصفحة


شرح عمدة الأحكام (7)

خالد بن سعود البليهد

 
عن حمران مولى عثمان بن عفان أنه رأى عثمان دعا بوضوء فأفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات ثم أدخل يمينه في الوضوء ثم مضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه إلى المرفقين ثلاثا ثم مسح برأسه ثم غسل كلتا رجليه ثلاثا ثم قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا وقال: (من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه).

اشتمل هذا الحديث على الصفة الكاملة لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم من ابتدائه إلى انتهائه. وفيه مسائل:


الأولى:
في الحديث دليل على استحباب التثليث في غسل أعضاء الوضوء ويجزئ الإقتصار على غسلة واحدة. قال النووي: (هذا الحديث أصل عظيم في صفة الوضوء وقد أجمع المسلمون على أن الواجب في غسل الأعضاء مرة مرة وعلى أن الثلاث سنة). وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلك توضأ مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا. ويجوز للمتوضئ أن يخالف في العدد بين أعضاء الوضوء فيغسل عضوا مرة وعضوا مرتين أو ثلاثا كما دلت السنة على ذلك.

الثانية:
دل الحديث على مشروعية غسل اليدين في ابتداء الوضوء وهو سنة باتفاق الفقهاء ليس من فرائض الوضوء لم يذكره الله تعالى في آية الوضوء.

الثالثة:
من صفة الوضوء الوارد مشروعية المضمضة والاستنشاق ولكن اختلف الفقهاء في حكمهما: فذهب أحمد إلى وجوبهما لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على فعلهما ولم ينقل أنه تركهما وفعله مفسر لمجمل القرآن فيأخذ حكمه من الوجوب. وذهب الجمهور إلى استحبابهما لأن الله لم يذكرهما في فرائض الوضوء مما يدل على سنيتهما وفعله صلى الله عليه وسلم محمول على الاستحباب. ومأخذ النزاع بين الأئمة هل المضمضة والاستنشاق داخلان في مسمى الوجه المذكور في الآية فيلحقان بالظاهر في الحكم أم أنهما غير داخلان فيه فيلحقان بالباطن في الحكم.

الرابعة:
دل الحديث أيضا على أن المرفقين داخلان في غسل اليدين فيكون قوله تعالى: (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ). بمعنى مع المرافق والأصل أن المغيا لا يدخل في الغاية إلا إذا دلت قرينة على دخوله كما هنا فقد واظب النبي صلى الله عليه وسلم على غسل المرفقين ولم ينقل عنه أنه تركهما فيكون فعله قرينة على دخولهما وبيانا لإجمال القرآن.

الخامسة:
اتفق الفقهاء على وجوب مسح الرأس واتفقوا على مشروعية استيعاب جميعه لكن اختلفوا هل يجب مسح جميعه أم يجزئ الاقتصار على بعضه: فذهب أبو حنيفة والشافعي إلى جواز الاقتصار على بعضه على اختلاف بينهم في القدر المجزئ. وذهب مالك وأحمد إلى وجوب استيعابه كله واستدلوا بالأحاديث الصحاح التي وصفت وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم وضبطته ودلت على أنه كان يواظب على ذلك كما في حديث عبد الله بن زيد: (ومسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه). متفق عليه. وقال ابن القيم: (لم يصح في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة).

السادسة:
الأذنان من الرأس يشرع مسحهما تبعا له ولا يشرع مسحهما بماء جديد وما روي في ذلك شاذ لا يصح والمحفوظ في السنة مسحهما بما فضل من ماء الرأس. وصفة المسح على ما جاء في حديث عبد الله بن عمرو: (ثم مسح برأسه وأدخل أصبعيه السباحتين في أذنيه ومسح بإبهاميه ظاهر أذنيه). رواه أبوداود. والمشهور عند جمهور الفقهاء أن مسحهما سنة لا يلزم الإتيان به.

السابعة:
في الحديث وجوب الترتيب في الوضوء وهو من فرائض الوضوء لأن الله ذكره في القرآن مرتبا فأدخل الممسوح بين المغسولات مما يدل على لزوم الترتيب وتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم مرتبا وواظب على ذلك ولم ينقل أنه أخل بذلك.

الثامنة:
في الحديث وجوب غسل الرجلين مع الكعبين ولا يجزئ مسهما. والكعبان هما العظمان الناتئان في جانبي القدم.

التاسعة:
في الحديث جواز تعليم الفرائض والسنن بالفعل ليكون أبلغ فهما وأدق تصورا في أذهان المتعلمين. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من استعمال هذا الأسلوب التعليمي المؤثر خاصة في المسائل العملية التطبيقية.

العاشرة:
في الحديث الحث على الخشوع وحضور القلب بين يدي الله أثناء العبادة والحرص على دفع الخواطر والأحاديث التي تفسد الخشوع وتشغل المصلي أو تنقصه وتعكر صفوه من التفكير بأعراض الدنيا وزينتها. قال تعالى في مدح الخشوع: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ). والإنسان يحضره في صلاته ما هو مشغوف به أكثر من خارجها ويزين له الشيطان ذلك ويشغله عن تدير صلاته وتعقلها. والمراد في الذم هنا حديث النفس الذي يستقر بالقلب وتسترسل معه النفس ويحركها إلى محبة الدنيا والانشغال عن الذكر أما الخواطر والهموم التي ترد على القلب وتهجم عليه ثم يجاهدها المرء ويدفعها ما استطاع فلا أثر لها ولا تمنع من حصول الثواب المترتب على أداء الصلاة.

الحادية عشرة:
في الحديث بيان أن فعل الوضوء الكامل والصلاة الخالصة من الشوائب سبب لتكفير الخطايا والذنوب. قال تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ). وثبت في صحيح مسلم عن ابن مسعود : (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن أمسها ،فأنا هذا فاقض في ما شئت ،فقال له عمر: لقد سترك الله لو سترت على نفسك، قال فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ،فقام الرجل فانطلق ،فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً دعاه وتلا عليه هذه الآية : (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ). قال رجل من القوم : يانبي الله هذه له خاصة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : (بل للناس كافة).

الثانية عشرة: فيه دليل على مشروعية سنة الوضوء فيستحب لمن توضأ أن يصلي ركعتين تامتين يخشع فيهما ويؤديهما على أكمل وجه. وهي من جنس التطوع المطلق. وقد ورد أنها سبب لدخول الجنة كما في حديث بلال المشهور.


خالد بن سعود البليهد
binbulihed@gmail.com
الرياض: في 27/5/1429

 

خالد البليهد
  • النصيحة
  • فقه المنهج
  • شرح السنة
  • عمدة الأحكام
  • فقه العبادات
  • تزكية النفس
  • فقه الأسرة
  • كشف الشبهات
  • بوح الخاطر
  • شروح الكتب العلمية
  • الفتاوى
  • كتب
  • الصفحة الرئيسية