اطبع هذه الصفحة


أثر سلامة الصدر على العلاقات الإجتماعية بين المسلمين

خالد بن سعود البليهد

 
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد فإن زكاة النفس وطهارة القلب من الأدران من مقاصد الشريعة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم لهداية المؤمنين وإصلاحهم وتزكيتهم. قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).

وإن سلامة القلب من الغل والحسد والكبر وغيره من الأمراض مرتبة عظيمة يسعى لها المؤمن ويجتهد في تحصيلها وقد ورد فيها فضل عظيم من أهمها أن التحلي بذلك سبب من أسباب دخول الجنة كما صح بذلك الخبر.

وإن سلامة الصدر لها فوائد ومزايا عظيمة وآثارا حسنة في الدنيا والآخرة من أعظمها حصول التحاب والتواد بين المسلمين ودفع العداوة والبغضاء بينهم وتقوية الأواصر والعلاقات الإنسانية والقضاء والتضييق على أسباب الفرقة والخلاف.

إن المتأمل اليوم في بعض علاقات المسلمين فيما بينهم يجد كثرة الجفاء والقطيعة ووقوع العداوة وغلبة سوء الظن في كثير من الأحوال والقضايا إلى غير ذلك من مظاهر الضعف والفتور في العلاقات الإجتماعية بين أفراد المجتمع المسلم.

إن هذه الحالة السيئة لها أسباب كثيرة وعوامل متنوعة في وجودها وقوتها واستمرارها. ومن أعظم هذه الأسباب مرض القلوب وعدم سلامتها وطهارتها من الأدران والأوساخ والعلل التي تؤثر عليها وتجعلها تؤجج نار الفتنة على أصحابها وتدفعهم إلى الجفاء والظلم والقطيعة.

إن القلب الذي يحمل الكبر والخيلاء يجعل صاحبه يتعالى على إخوانه المسلمين ويحتقرهم ويزدريهم ويتفاخر عليهم ولا يحفظ لهم حقا ولا كرامة ولا يسعى لخدمتهم ولا يتشرف بذلك لأنه يرى أنه أرفع قدرا منهم وأعلى منزلة مما يؤثر ذلك على جفائه لهم وبعده عنهم والترفع عن مخالطتهم وصحبتهم والعياذ بالله ولذلك ورد الوعيد عن الكبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) رواه مسلم.

إن القلب الذي يحمل الغل والحقد يجعل صاحبه يتشوف إلى العداوة وحفظ الإساءة الصادرة من إخوانه المسلمين ولو صغرت ويجعلها حبيسة صدره لا يتجاوز ولا يعفو عنها ولو طال الزمن فتؤثر في قلبه وفكره وتكون زادا للبغضاء مما يفضي به ذلك إلى الانتقام والقطيعة ممن أساء إليه ولو كان من أقرب الناس إليه وله محاسن كثيرة ووقعت منه هفوة في مسألة شخصية. ولذلك ورد الحث على العفو والصفح والتسامح. قال تعالى: (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

إن القلب الذي يحمل سوء الظن يحمل صاحبه على إساءة الظن بإخوانه المسلمين وتصرفاتهم ومواقفهم لأدنى سبب وأقرب شبهة فتراه يفسر كثيرا من التقصير والفتور من الآخرين وانقطاعهم بأسوء الاحتمالات والظنون وإذا بلغته كلمة قالها شخص فيه فسرها بسوء القصد وعظمها وجعل لها خلفية وبنى عليها مواقف وقد تكون كلمة عابرة قالها أخوه على سبيل المزاح أو في سياق النصيحة وغير ذلك مما يدل على طهارته ولكن الشيطان يجعل هذا الشخص المبتلى بسوء الظن يسيء الظن بأخيه ويفسر كلامه بقصد ومعنى لم يخطر على باله ليفسد بينهما ويفرق بينهما. وكان الواجب عليه حين بلغه الكلام أن يتصل على المتكلم ويتبين منه الموقف الصحيح ويعالج الأمر بحكمة. وهذا السلوك له أثر سيء في وقوع كثرة المشاكل وحصول القطيعة بين المسلمين بل أكثر المشاكل ترجع إلى هذا السبب والله المستعان. ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث) متفق عليه.

إن القلب الذي يحمل كثرة الشك بلا داع ولا سبب صحيح يحمل صاحبه على الشك في تصرفات الآخرين ولو كان ظاهرها السلامة فإذا سلم عليه أحد أو زاره أو أسدى له معروفا أو اتصل به أو جمع الله بينهما على غير ميعاد شك في أمره وحدث نفسه ماذا يقصد هذا الشخص وماذا ينوي بي فعامله بحذر وحزم وقصر في خدمته وحاول التخلص منه بأسرع فرصة. وهذا السلوك له أثر سيء في ضعف العلاقات وسرعة انقضائها خاصة بين الأزواج. فالزوج الذي يكثر الشك في زوجته بلا ريبة ويسيء بها الظن ويضيق عليها الخناق ويتهمها بالفجور يفضي ذلك إلى تدهور علاقته بها وطلاقها. والزوجة التي تكثر الشك في زوجها وتتعقبه وتتابعه وتفتش أغراضه الخاصة يفضي هذا السلوك إلى فتور العلاقة بينهما أو هجران الزوج لها بالكلية أو الانفصال عنها.

إن من العادات والسلوكيات الخاطئة في مجتمعنا انتشار ثقافة الشك بين أفراد المجتمع في الصغير والكبير والوالد والولد والزوج والزوجة والرئيس والمرؤوس والمعلم والتلميذ وغيرهم مما يؤدي إلى انعدام الثقة والأمان في العلاقات الإجتماعية.

إن القلب الذي يحمل الحسد يجعل صاحبه ينظر إلى النعم التي أنعم الله بها على بعض عباده ويتشوف لها ويتمنى زوالها عنهم والحسد يؤجج نار الفتنة في قلبه ويجعله يتطلع إلى ما في أيدي الناس ويبغضهم ويكرههم لاعتقاد أنهم لا يستحقون هذا العطاء وأنه أحق منهم به وهذا يولد لديه سلوك الظلم والقطيعة والجفاء وإذا سألهم فأعطوه أحبهم وأثنى عليهم خيرا وإن منعوه أبغضهم وأثنى عليهم شرا فهو لا يتعامل معهم على أساس مقتضى الإخوة الإيمانية والقيام بحقوق المسلمين وإنما يتعامل معهم على أساس الدنيا والمنافع الشخصية والعياذ بالله. ولذلك فإن كثيرا من الناس يحسن ويصل ويكافئ الآخرين ما دام ينتفع بهم ويصيب من دنياهم وعطاياهم فإذا انقطع خيرهم وانتهت مصلحته منهم جفاهم ونساهم وتنكر لهم ولم يذكر جميلهم وهذا من ضعف اليقين بالله وربط الرزق بالخلق والتوكل على الأسباب الحسية. وقد روي في الأثر: (إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله أو تذمهم على ما لم يؤتك الله). رواه البيهقي.

وبالعكس من ذلك كله فإن القلب إذا كان سليما من الغل والحقد متواضعا حسن الظن بالآخرين غير شكاك ولا يحسد أحدا على فضل ونعمة خصه الله به واثقا بالله معتمدا عليه غنيا بفضله راضيا يقدره هذا القلب يحمل صاحبه على بر المؤمنين والإحسان إليهم والصبر على أخطائهم وإحسان الظن بهم والتجاوز عن هفواتهم وزلاتهم والقناعة عما في أيديهم فهو يتعامل معهم بالشكر والإحسان والرحمة والتسامح والتواضع طاعة لله وتأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم يرجو ما عند الله من الثواب وحسن الخاتمة لا ينظر إلى حطام الدنيا وزخرفها الزائل.


خالد بن سعود البليهد
binbulihed@gmail.com
الرياض: في 7/6/1429
 

خالد البليهد
  • النصيحة
  • فقه المنهج
  • شرح السنة
  • عمدة الأحكام
  • فقه العبادات
  • تزكية النفس
  • فقه الأسرة
  • كشف الشبهات
  • بوح الخاطر
  • شروح الكتب العلمية
  • الفتاوى
  • كتب
  • الصفحة الرئيسية