اطبع هذه الصفحة


 بر الوالدين أفضل من الخروج لطلب الرزق

خالد بن سعود البليهد

 
السؤال :

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فضيلة الشيخ أنا متزوج وضاقت بي سبل الرزق وأرغب في السفر خارج البلاد لكن والدي ووالدتي كنت أرغب في البقاء بقربهما لقضاء حوائجهما وأنا في حيرة هل إذا أطعت زوجتي وسافرنا لطلب الرزق وتركتهما مع إذنهما لي بذلك وفي مقدورهما تدبر حالهما لكن يعز علي أن أتركهما بلا أنيس أو من يخفف عنهما وحدتهما فأفتني جزاك الله خيرا


الجواب :
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله. لا شك أن بر الوالدين من أعظم القربات التي رغب الشارع فيها وشدد فيها ورتب عليها الأجور العظيمة خاصة حال الكبر والعجز قال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناَ). ولا يوجد في الدين أمر قرنه الله بطاعته وشكره إلا بر الوالدين قال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَن لا تَعْبُدُوا إلاَّ إيّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَاناً). وفي صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه، فيعتقه). وقال مكحول: (بر الوالدين كفارة الكبائر).

وإن لزوم بر الوالدين والاحسان إليهما والتضحية بكل شيء في سبيل إرضائهما عنوان توفيق العبد وتحقيق الرضا وحلول البركة فيه وسعادته في الدنيا والآخرة. ولذلك أثر عن السلف الصالح مواقف عظيمة وتصرفات يعجب لها المرء في برهم لوالديهم. قال هشام بن حسان: قلت للحسن: إني أتعلم القرآن، وإن أمي تنتظرني بالعشاء، قال الحسن: (تعش العشاء مع أمك تقر به عينها، أحب إلي من حجة تحجها تطوعا). وعن رفاعة بن إياس قال: رأيت الحارس العكلي في جنازة أمه يبكي فقيل له: تبكي قال: (ولم لا أبكي وقد أغلق عني باب من أبواب الجنة). وعن عطاء أن رجلا أقسمت عليه أمه ألا يصلي إلا الفريضة، ولا يصوم إلا شهر رمضان. قال: (يطيعها). وعن يعقوب العجلي قال: قلت لعطاء: تحبسني أمي في الليلة المطيرة عن الصلاة في الجماعة، فقال: (أطعها). وهذه الآثار تدل على فقه السلف لهذا الباب وتعظيمهم الشديد لشأن بر الوالدين.

وحين التأمل في النصوص يظهر أن لزوم طاعة الوالدين والمكث معهم والصبر على بلواهم وحاجتهم ورفع الوحشة عنهم وإدخال السرور أفضل من الخروج لطلب الرزق لمن قوي على ذلك وقنع باليسير وآثر ما عند الله من النعيم خاصة إذا لم يوجد معهم من يسعى في خدمتهم إلا حال الضرورة.

لكن يجوز للمرء إذا ضاقت عليه سبل العيش ولم يجد ما يكفي من النفقة ليعول زوجه وولده أن يخرج لطلب الرزق ولا حرج عليه في ذلك ولا يعد هذا التصرف من تضييع حق الوالدين ويشترط لإباحة خروجه شرطان:
1- أن يكون الوالدان في غنى من الحال وعافية يقومان على أنفسهما أو هناك من يقوم بهما بحيث لا يحتاجان إلى مكثه ولزومه حاجة ظاهرة.
2- أن يأذنا له في الخروج لطلب الرزق وترضى نفوسهم بذلك.
فإن اختل أحد هذين الشرطين لم يجز له الخروج فإن كانا بحاجة له وجب عليه المكث لأن حقهما وطاعتهما مقدم على حق كل مخلوق. وإن لم يأذنا بذلك وجب عليه عدم الخروج لأن الشارع جعل لهما حقا في الإذن بالخروج للجهاد التطوع كما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (أقبل رجل إلى نبي الله فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله تعالى. قال: فهل لك من والديك أحد حي قال: نعم بل كلاهما قال: فتبتغي الأجر من الله تعالى ؟، قال: نعم. قال: فارجع إلى والديك، فأحسن صحبتهما). متفق عليه. وفي روايةٍ: (جاء رجل فاستأذنه في الجهاد فقال: أحي والداك ؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد). وهذا يدل على اعتبار إذنهما في كل عبادة وعمل يقتضي الخروج والانقطاع عنهما.

وبهذا يتبين أنه لا يجوز للمرء أن يخرج من بلد الوالدين إلا بإذنهما ورضاهما سواء كان ذلك في عبادة مستحبة أو عمل مباح أو غير ذلك من الأحوال لأنه يفوت بخروجه حقهما من البر والطاعة والصلة والإحسان. وهذا الحق لوالديه جميعا الأب والأم لا يسقط برضا أحدهما. فإن خرج بغير إذنهما أو عصاهما أو كتم عنهما أمره كان عاصيا آثما مقيما على حال توجب سخط الرب وغضبه ولو كان متأولا فعل الصلاح والأصلح.

وأما الخروج لطلب العبادة المتعدي نفعها للمسلمين كطلب العلم الشرعي وإقامة المشاريع الخيرية والاشتغال بالدعوة إلى الله فهذا عمل جليل وفعل حسن لأنه في سبيل إعلاء كلمة الله ونصرة الدين لكن بشرط إذن الوالدين في ذلك. ويرجى لمن خرج في طلب العلم الشرعي مخلصا القصد أن يكون عمله من جنس الجهاد المشروع لأنه قصد تبصير المسلمين ورفعة الدين ونشر الشريعة.

فعلى هذا لا حرج عليك إن شاء الله الخروج لطلب الرزق إن كنت بحاجة ماسة له وقد أذن والداك بذلك لأنك معذور في ذلك وقد أسقطا حقهما في طلب ملازمتك وقيامك بهما ولكن إن فعلت فلا تبخل عليهما بالسؤال والمهاتفة والصلة بالمال وأكثر من الدعاء لهما لتستدرك بعض ما فاتك من الفضل. وإن صبرت ولزمتهما وتركت الخروج إيثارا لبرهما على نفسك وأهلك وقويت على ذلك فهذا بلا شك أفضل عملا وأعظم ثوابا وأحسن عاقبة ويكون لك أسوة في ذلك الرجل الذي حكى النبي صلى الله عليه وسلم قصته من أهل الغار حيث قدم بر والديه على صبيته فمكث الليل كله قائما بالغبوق حتى أصبح واستيقظ والداه وصبيته يبكون عنده فلم يسقهم حتى سقى والديه فشكر الله عمله وفرج عنه الغار.
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.


خالد بن سعود البليهد
عضو الجمعية العلمية السعودية للسنة
binbulihed@gmail.com
22/4/1430

 

خالد البليهد
  • النصيحة
  • فقه المنهج
  • شرح السنة
  • عمدة الأحكام
  • فقه العبادات
  • تزكية النفس
  • فقه الأسرة
  • كشف الشبهات
  • بوح الخاطر
  • شروح الكتب العلمية
  • الفتاوى
  • كتب
  • الصفحة الرئيسية