اطبع هذه الصفحة


شرح رسالة فضل علم السلف على الخلف 13

اضغط هنا لتحميل الكتاب على ملف وورد

خالد بن سعود البليهد

 
بسم الله الرحمن الرحيم


(ومن ذلك أعني محدثات الأمور ما أحدثه المعتزلة ومن حذا حذوهم من الكلام في ذات الله تعالى وصفاته بأدلة العقول وهو أشد خطراً من الكلام في القدر لأن الكلام في القدر كلام في أفعاله وهذا كلام في ذاته وصفاته).

من العلوم الفاسدة التي ابتدعها المعتزلة ومن سار على طريقتهم الخوض في أسماء الله وصفاته إثباتا ونفيا عن طريق دلالة العقل القاصرة وذلك أنهم أصلوا قواعد عقلية فاسدة ثم بنوا عليها مسائل في هذا الباب كما سيأتي التمثيل لمذهبهم وقد بين المصنف أن جنايتهم في باب الأسماء والصفات أعظم وأشد خطرا من جنايتهم في باب القدر لأن أسماء الله وصفاته متعلق بذات الله وصفاته والقدر متعلق بفعل الله والعلم بالذات والصفات أشرف وأهم من العلم بالفعل لكثرة الآثار والأحكام المترتبة على الذات والصفات ولذلك اعتنى الشارع ببيان الذات والصفات أكثر من اعتنائه ببيان القدر.

(وينقسم هؤلاء إلى قسمين أحدهما من نفى كثيراً مما ورد به الكتاب والسنة من ذلك لاستلزامه عنده للتشبيه بالمخلوقين كقول المعتزلة لو رؤي لكان جسما لأنه لا يرى إلا في جهة: وقولهم لو كان له كلام يسمع لكان جسما ووافقهم من نفى الاستواء فنفوه لهذه الشبهة: وهذا طريق المعتزلة والجهمية وقد اتفق السلف على تبديعهم وتضليلهم وقد سلك سبيلهم في بعض الأمور كثير ممن انتسب إلى السنة والحديث من المتأخرين).

بين المصنف أن المخالفين لأهل السنة في باب الأسماء والصفات قسمان:
القسم الأول: من نفى الأسماء والصفات أو الصفات وبالغ في ذلك اعتمادا على دلالة العقل المجردة عن الوحي فتصور بعقله أن إثبات هذا الاسم أو تلك الصفة الواردة في الشرع يقتضي تشبيه الخالق بالمخلوق ثم نفى تلك الصفة قصدا لتنزيه الرب عن مشابهة الحوادث فبنى مذهبه في نفي الصفات على هذه القاعدة الفاسدة وهي أن إثبات الصفة للخالق يستلزم التشبيه بالمخلوق لأن هذه الصفات لا تثبت إلا في محل حادث وعلى هذا نفى صفة الرؤية للرب لأن الرؤية عقلا لا تثبت إلا لمن كان في جهة والجهة ظرف للمخلوق أما الخالق فلا تحده جهة وليس داخل العالم ولا خارجه وهذا كلام فاسد مخالف لدلالة القرآن في قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ). ومخالف لدلالة السنة كما جاء في حديث جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر قال: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ (فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها). متفق عليه. وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم الجهة لله كما ثبت في صحيح الإمام مسلم في حديث معاوية بن الحكم السلمي في قصة ضربه لجاريته وفيه قلت يا رسول الله أفلا اعتقها قال ائتني بها فأتيته بها فقال لها أين الله ؟ قالت في السماء قال من أنا قالت أنت رسول الله قال أعتقها فإنها مؤمنة). وتعطيل الله عن سائر الجهات يقتضي أن يكون عدما تعالى الله عنا يقولون علوا عظيما وقد أجمع السلف على رؤية المؤمنين لربهم بأبصارهم في الجنة. وكذلك نفت المعتزلة صفة الكلام لله لأن إثبات الكلام لأحد يستلزم أن يكون المتكلم حادثا مخلوقا لأن الكلام المعهود عقلا لا يكون إلا بلسان وشفتين وهذا من صفات المخلوق والله منزه عن ذلك وهذا القول الفاسد مخالف للكتاب والسنة وإجماع أهل السنة كما قال تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا). وثبت في السنة قوله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه وليس بينه وبينه ترجمان). متفق عليه. فالنبي صلى الله عليه وسلم أثبت الكلام للرحمن وقد أجمع السلف على ثبوت صفة الكلام لله على الوجه اللائق به. وكذلك وافقت الأشاعرة المعتزلة في نفيهم استواء الرحمن على العرش بشبهة أن الاستواء يستلزم التشبيه بالمخلوق لحاجته للعرش وإحاطته له والله منزه عن ذلك وهذا القول باطل مخالف للكتاب والسنة والإجماع كما قال تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى). وثبت في السنة: (لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي). متفق عليه. وأجمع السلف على أن الله مستو على عرشه بذاته فوق السموات السبع على الوجه اللائق به وعلمه بكل مكان.
ومنشأ هذا الانحراف العقدي عند نفاة الصفات أنهم أحالوا دلالة النصوص الشرعية المحكمة إلى دلالة أفهامهم القاصرة الظنية وخالفوا قواعد اللغة المحكمة وفهم الصحابة الثاقب الذين عايشوا التنزيل وتلقوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم مشافهة بلا واسطة وعرفوا بالفصاحة وصفاء المشرب وهذا يجعل فهمهم مقدما على غيرهم وقد تلقى التابعون لهم من أهل السنة هذا الفهم ثم أتباعهم حتى استقر الإجماع عليه في زمن تدوين أصول السنة.
ثم بين المصنف أن هذا المنهج في باب الأسماء والصفات هو طريقة الجهمية والمعتزلة وبين موقف السلف منهم ، والنفاة في هذا الباب المخالفون لأهل السنة طائفتان:
1-الجهمية وهم أتباع جهم بن صفوان الذي اشتهر عنهم إنكار العلو والكلام والرؤية وسائر الصفات لأنها أعراض والعرض موصوف يقوم بجسم والجسم حادث والله قديم ليس بجسم ثم أنكروا الأسماء لأنها مستلزمة لثبوت الصفات ثم جاء المعتزلة وأثبتوا الأسماء لكنهم نفوا الصفات فتناقضوا لأن إثبات الأسماء يستلزم الصفات وحقيقة مذهبهم إثبات الأسماء لله مع نفي الصفات فيثبتون لله الأسماء دون ما تضمنته من الصفات فيقولون عليم بلا علم سميع بلا سمع وهكذا فهم غلاة في نفي الصفات قال أبو الحسن الأشعري: (وأجمعت المعتزلة على أن صفات الله سبحانه وأسماءه هي أقوال وكلام فقولنا الله عالم قادر حي أسماء لله وصفات له وكذلك أقوال الخلق ولم يثبتوا صفة له علما ولا صفة قدرة وكذلك قولهم في سائر صفات النفس). وكان السلف يدخلون المعتزلة في الجهمية ويطلقون التجهم على كل منكر للصفات ويجعلونهم في منزلة واحدة وقد شنع عليهم السلف تشنيعا عظيما وحكموا بكفرهم قال ابن تيمية في بيان موقف الإمام أحمد: (وإنما كان يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته لأن مناقضة أقوالهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرة بينة ولأن حقيقة قولهم تعطيل الخالق). وقال أيضا عن مذهب السلف: (ولهذا كفروا من يقول إن القرآن مخلوق وإن الله لا يرى في الآخرة). وقال سفيان الثوري: (من قال القرآن مخلوق فهو كافر). وحلف يزيد بن هارون: (بالله الذي لا إله إلا هو من قال إن القرآن مخلوق فهو زنديق ويستتاب فإن تاب وإلا قتل).

2-الأشاعرة وهم أتباع أبي الحسن الأشعري وقد اختلف الناس في آخر ما استقر عليه مذهبه وليس هذا موضعه والأشاعرة أقرب إلى السنة من المعتزلة ومذهبهم موافق للكلابية أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب الذي توسط بين السلف والجهمية فكان يثبت الصفات الذاتية وينفي الصفات الفعلية الاختيارية قال ابن تيمية: (والكلابية هم مشايخ الأشعرية فإن أبا الحسن الأشعري إنما اقتدى بطريقة أبي محمد بن كلاب وابن كلاب كان أقرب إلى السلف زمنا وطريقة وقد جمع أبو بكر بن فورك شيخ القشيري كلام ابن كلاب والأشعري وبين اتفاقهما في الأصول). ومذهب الأشاعرة في الصفات إثبات سبع صفات لله عز وجل فقط وتأويل سائر الصفات والصفات التي يثبتونها هي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام النفسي وتسمى بالصفات العقلية لأن العقل دل على ثبوتها أما غير هذه الصفات فهم يتأولونها كتأولهم صفة الغضب بإرادة العقاب وصفة الرحمة بإرادة الثواب وصفة اليد بالنعمة ويؤلون صفة استواء الله على العرش بقهره له واستيلائه عليه وهكذا يسلكون هذا المسلك في باقي الصفات وهذا المذهب مخالف للكتاب والسنة وإجماع أهل السنة وقد حذر السلف من بدعتهم وهجروهم ولم يقبلوا شهادتهم وشددوا النكير عليهم قال ابن تيمية: (وأما الحارث المحاسبي فكان ينتسب إلى قول ابن كلاب ولهذا أمر أحمد بهجره وكان أحمد يحذر عن ابن كلاب وأتباعه). وأنكر أبو بكر ابن خزيمة على الأشاعرة ميلهم إلى مذهب الكلابية. وقال أبو نصر السجزي: (ثم بلي أهل السنة بعد هؤلاء بقوم يدعون أنهم من أهل الإتباع وضررهم أكثر من ضرر المعتزلة وغيرهم وهم أبو محمد بن كلاب وأبو العباس القلانسي وأبو الحسن الأشعري ...وفي وقتنا أبو بكر الباقلاني ببغداد وأبو إسحاق الإسفرائني وأبوبكر بن فورك بخراسان فهؤلاء يردون على المعتزلة بعض أقاويلهم ويردون على أهل الأثر أكثر مما ردوه على المعتزلة....وكلهم أئمة ضلالة يدعون النّاس إلى مخالفة السنة وترك الحديث). وهذا يبين لنا أن مذهب الأشاعرة أخطر من مذاهب أهل البدع الصريحة لأنهم يلبسون على الناس بانتسابهم للسنة وإثباتهم بعض الصفات وموافقة أهل الحديث في بعض الأبواب مع خفاء مذهبهم وإظهارهم اتباع الحديث والسنة وردودهم على المعتزلة ولذلك نبه المصنف هنا رحمه الله على أن السلف الصالح مجمعون على ذم طريقة أهل الكلام في مسائل الاعتقاد في القرون الأولى وكان هذا الأمر ظاهرا لا خفاء فيه عند سائر أئمة المذاهب ثم التبس الأمر على كثير من المتأخرين لضعف نور النبوة وتقادم العهد وقلة العلماء الربانيين وتأثير الأمراء فصار كثير من متأخري الفقهاء والمحدثين يسلكون مسلك المتكلمين في باب الصفات وغيره من أبواب الاعتقاد وهذا ظاهر في كتبهم وتورط في ذلك فطاحلة كبار وانتشر مذهب الأشاعرة في كثير من دول الإسلام وصار مذهبا رسميا في كثير من المراكز العلمية وكثير من العلماء والوعاظ اليوم يدينون بمذهب الأشاعرة والماتريدية وفي المقابل لحق كثيرا من دعاة السنة ضعف وفتور في بيان اعتقاد أهل السنة وابتلوا ببدعة التسامح والثناء على أهل الكلام تحت مشروع الدعوة إلى الله والعمل للإسلام.



 

خالد البليهد
  • النصيحة
  • فقه المنهج
  • شرح السنة
  • عمدة الأحكام
  • فقه العبادات
  • تزكية النفس
  • فقه الأسرة
  • كشف الشبهات
  • بوح الخاطر
  • شروح الكتب العلمية
  • الفتاوى
  • كتب
  • الصفحة الرئيسية