اطبع هذه الصفحة


شرح رسالة فضل علم السلف على الخلف 5

اضغط هنا لتحميل الكتاب على ملف وورد

خالد بن سعود البليهد

 
بسم الله الرحمن الرحيم


(وخرج أيضاً من رواية نعيم بن أبي هند قال قال عمر: تعلموا من النجوم ما تهتدون به في بركم وبحركم ثم امسكوا وتعلموا من النسبة ما تصلون به أرحامكم وتعلموا ما يحل لكم من النساء ويحرم عليكم ثم انتهوا وروى مسعر عن محمد ابن عبد الله قال قال عمر بن الخطاب (تعلموا من النجوم ما تعرفون به القبلة والطريق). وكان النخعي لا يرى بأساً أن يتعلم الرجل من النجوم ما يهتدي به ورخص في تعلم منازل القمر أحمد وإسحق ويتعلم من أسماء النجوم ما يهتدي به: وكره قتادة تعلم منازل القمر: ولم يرخص ابن عيينه فيه ذكره حرب عنهما. وقال طاووس رب ناظر في النجوم ومتعلم حروف أبي جاد ليس له عند الله خلاق خرجه حرب. وخرجه حميد بن زنجويه من رواية طاووس عن ابن عباس).

ثم ذكر المصنف رحمه الله في سياق العلوم المذمومة علم النجوم وذكر فيه أثرا عن عمر رضي الله عنه يفيد أن المرء يرشد إلى أن يتعلم من هذا العلم ما يقيم به معاشه ومصالحه ثم يمسك عن تعلم الباقي والتوسع فيه وقد روي نحوه مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم في مساوئ الأخلاق للخرائطي ولا يصح. ثم ذكر المصنف أثرا آخر عن عمر يؤيد معناه وهذا المعنى صحيح لا إشكال فيه يتوافق مع القاعدة الشرعية في باب اكتساب العلوم على حسب نفعها وغايتها فما كان نافعا كله صرف فيه الوقت وما كان بعضه نافعا واتخذ وسيلة لإصلاح الدين والدنيا أخذ المهم منه وترك الباقي وما كان ضارا أو غير نافع ترك بالكلية. وعلم التنجيم المراد منه معرفة أسماء النجوم ومطالعها
وحركتها وقد اختلف السلف في حكم تعلم هذا العلم على ثلاثة أقوال فرخص فيه إبراهيم النخعي بقوله: (لا بأس أن تتعلم من النجوم والقمر ما تهتدي به). رواه ابن أبي شيبة. وهو من أئمة الكوفة من أتباع مدرسة الصحابي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فيحتمل أن يكون هذا رأيا لابن مسعود رضي الله عنه ورخص فيه أيضا الإمامان أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وكثيرا ما يتوافقان في المذهب لتوافق أصولهما في الجملة فهؤلاء رخصوا في تعلمه على قدر ما يحصل به منفعة من استدلال في الطريق وجهة القبلة ومعرفة مواسم الزروع والثمار ونحو ذلك من المصالح والمنافع. وذهب قتادة السدوسي البصري المفسر إلى كراهة تعلم هذا العلم لأنه قد يفضي إلى مفسدة وقتادة رحمه الله له كلام كثير حسن في التفسير والحديث والفقه لكنه قد يتفرد في المسائل بغرائب عن الأئمة ومنع من تعلمه سفيان بن عيينة الهلالي المكي. واختلاف الأئمة فيه يرجع إلى تقدير المفسدة والمصلحة في هذا العلم فمن غلب المفسدة فيه منعه ومن غلب ولاحظ وجود المصلحة رخص فيه مع اتفاقهم على تحريم ومنع ما استعمل في الكهانة والسحر والخرافة. واختلاف السلف هذا يصلح أن يكون أنموذجا في بعض العلوم العصرية التي تختلف أنظار العلماء في حكمه ويكون مشتملا على مفسدة ومصلحة. ثم ذكر المصنف أثرا روي عن ابن عباس رضي الله عنه وعن تلميذه طاووس يفيد تحريم النظر في النجوم وحساب الحروف وأن فاعل ذلك ليس له نصيب في الآخرة لأنه فعل ما ينافي الإيمان وهذا محمول على من يستعمل ذلك في الكهانة والعرافة وادعاء الغيب وهو أمر متفق عليه بين العلماء.

(وهذا محمول على علم التأثير لا
علم التسيير فان علم التأثير باطل محرم وفيه ورد الحديث المرفوع (ومن اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر). خرجه أبو داود من حديث ابن عباس مرفوعا وخرج أيضاً من حديث قبيصة مرفوعاً (العيافة والطِيَرة والطرق من الجبت..) والعيافة زجر الطير: والطرق الخط في الأرض. فعلم تأثير النجوم باطل محرم. والعمل بمقتضاه كالتقرب إلى النجوم وتقريب القرابين لها كفر).

بين المصنف رحمه الله أن ما ورد من الذم والزجر والوعيد المقصود منه علم التأثير وهو الاستدلال بحركة واختلاف الكواكب الفلكية على حدوث الأمور الأرضية من فقر وغنى ونصر وهزيمة وموت وميلاد وغير ذلك مما يستأثر الله بعلمها ويخفيها عن عباده وقد حرمه الشرع لأن حقيقته إدعاء للغيب فالمنجم يدعي معرفة المستقبل عن طريق الاستدلال بالنجوم ولذلك أورد فيه المصنف حديث ابن عباس رضي الله عنه المخرج في سنن أبي داود ومعناه أن من تعلم طرفا من علم النجوم كان كمن تعلم طرفا من علم السحر لأن كليهما فيه ادعاء للغيب وعبادة للشيطان وخفاء على الناس وهذا يفيد الوعيد الشديد في تعلم التنجيم. وذكر حديث قبيصة رضي الله عنه الدال على أن العرافة عن طريق اختلاف حركة الطير عند زجره والعرافة عن طريق الخطوط في الأرض والتشاؤم بالأشياء المستكرهة كل هذه الخصال الثلاثة داخلة في معنى السحر لخفائها ومناقضتها لتفرد الله بالربوبية وخلق الأسباب المؤثرة بإذنه والاستدلال بالنجوم من جنس الاستدلال بغيرها في معرفة الأمور المستقبلية وورد في الصحيحين من حديث زيد الجهني رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فمن قال مطرنا بفضل الله ورحمته فهو مؤمن بي كافر بالكوكب ومن قال مطرنا بنوء كذا وكذا فهو كافر بي مؤمن بالكوكب). وقد بين المصنف أن التنجيم محرم وباطل وهو لا يخلو من حالتين:

1-أن يعتقد الإنسان أن الفاعل هو الله ولكن للنجوم تأثير فهذا من شرك الأسباب وهو شرك أصغر لأنه اعتقد أنها مؤثرة بالسببية.
2-أن يعتقد الإنسان أن لها تأثيرا مستقلا أو يتقرب لها بأنواع القرابين فهذا شرك أكبر مخرج من الملة والعياذ بالله لأنه اعتقد أنها تخلق الخير والشر وتؤثر استقلالا.

والحق أن النجوم وسائر الكواكب الفلكية لا علاقة بها بما يحدث في المستقبل من حوادث مهمة وأحوال متقلبة في الأرض ألبتة ولذلك لما كسفت الشمس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قال الناس عنها كسفت لموت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم جربا على اعتقاد أهل الجاهلية فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وقال
: (الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله فإذا رأيتموهما فصلوا). منفق عليه.

وأما علم التسيير فإذا تعلم منه ما يحتاج إليه
للاهتداء ومعرفة القبلة والطرق كان جائزاً عند الجمهور وما زاد عليه فلا حاجة إليه وهو يشغل عما هو أهم منه).

ذكر المصنف هنا العلم المباح من علم التنجيم وهو التسيير والمراد به ما يتوقف على علمه تمييز الجهات ومعرفة الطرق وتعيين القبلة وغير ذلك من مصالح الدنيا الظاهرة فهذا رخص فيه جمهور أهل العلم وهو الصواب لأن فيه فائدة ولا مضرة فيه بوجه من الوجوه وظاهر القرآن يدل على إباحته كما قال تعالى: (وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ). وقال قتادة: (خلق الله هذه النجوم لثلاث زينة للسماء ورجوما للشياطين وعلامات يهتدي بها فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به). ذكره البخاري. ثم نبه المصنف على أن تعلم ما زاد على ذلك مما لا فائدة فيه الأولى تركه لأنه يشغل ويصرف المسلم عن الأهم وهذا ضابط مهم في هذا الباب إذا أُحسن استعماله من قبل فقيه. والقول بجواز هذا النوع هو مذهب الجمهور وجرى عليه العمل منذ زمن بعيد والخلاف في هذه المسألة قد اندثر في الصدر الأول وترك الناس مذهب التحريم من حيث العمل والواقع. وهناك جملة من المسائل المشهورة قد حُكي فيها اختلاف السلف في الصدر الأول ثم اندثر القول بالمنع وجرى العمل على إباحتها أو العكس وربما انعقد الإجماع على أحد المذهبين كمسألة الخروج على إمام الجور ونكاح المتعة والسماع وسبب الخلاف في هذه المسائل وقوع الاشتباه فيها وتفرق الأحاديث في الأمصار وخفائها على بعض الصحابة والأئمة ثم لما دُوِّن العلم وكثرت الرحلة واستقر وضُبط الحديث عند أئمة الحديث زال الاشتباه واتضحت الرؤية وثبتت النصوص وبطل التعليل والقياس المعارض للنصوص عند محققي الفقهاء.
 

 

خالد البليهد
  • النصيحة
  • فقه المنهج
  • شرح السنة
  • عمدة الأحكام
  • فقه العبادات
  • تزكية النفس
  • فقه الأسرة
  • كشف الشبهات
  • بوح الخاطر
  • شروح الكتب العلمية
  • الفتاوى
  • كتب
  • الصفحة الرئيسية