اطبع هذه الصفحة


إليك أمي قطرات من بحر حبك (3)

م. عبد اللطيف البريجاوي


القطرة الثالثة
اتَّقوا الله واعدلوا بين أولادكم


كالسيل المتصبّب من أعالي الجبال وكالنسر المنقض على فريسته من علّو هي كذلك عاطفة الأمّ, عاطفةٌ جيّاشةٌ لولاها ما صلح أمر البشريّة جمعاء.
فتحمل الأمّ همّ أولادها وهمَّ زوجها وبيتها وتكلّلهم بحنانها على حساب صحّتها ووقتها, فبعاطفتها تزول كلّ آلام الحمل والوضع عند أوّل استهلال لصغيرها.
وبعاطفتها تستيقظ ليلاً مرّات ومرّاتً لتُميطَ الأذى عن فِلْذة كبدها.
وبعاطفتها تمحو أحزان الأولاد, فتُرقّعُ لهم ما هتكَه الزمانُ, وتخيطُ لهم ما يسترُ الأبدان.

لكن هذه العاطفة التي استودعها الله في قلب الأمّ وجعلها مطيّة تحمل عليها جسدَها وكبرياءَها لتلقيهما تحت أقدام أطفالها, فينحني جسدُها, ويتضاءل كبرياؤها, لتحمل من تحت أقدام أولادها وسخ بطونهم, فكان ثوابها أن جعل الله الجنّة تحت أقدامها, فكانت صحبتها أحسن الصحبات, وبرّها أفضل القُرُبات.
فعن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ: جَاءَ رَجلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَقال: يا رَسُولَ اللَّهِ مَن أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسنِ صَحَابَتِي؟ قَال: أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَن؟: قَال: ثمَّ أمُّكَ. قَال: ثُمَّ مَن؟ قَالَ ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَن؟ قَالَ ثُمَّ أَبُوكَ.[ متفق عليه].
قال ابن حجر«قال ابن بطال: مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، قال: وكان ذلك لصعوبة الحمل ثم الوضع ثم الرضاع، فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها، ثم تشارك الأب في التربية، وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: (ووصّينا الإنسان بوالديه حملتْه أمّه وهناً على وهن وفصاله في عامين)) فسوّى بينهما في الوصاية، وخصّ الأمّ بالأمور الثلاثة، قال القرطبي: المراد أن الأم تستحق من الولد الحظِّ الأوفر من البرّ، وتُقدَّم في ذلك على حقّ الأب عند المزاحمة، وقال عياض: وذهب الجمهور إلى أنّ الأمَّ تُفَضَّل في البرّ على الأب،ونقل المحاسبي الإجماع على أنّ الأمّ مقدّمة في البرّ على الأب» [ فتح الباري كتاب الأدب- باب من أحق الناس بحسن الصحبة].
هذه العاطفة قد تشيب قبل أوانها؛ أو قد تصبو بعد بلوغها؛ فتتلاعب بها عواطف غاشّة وتكهّنات باردة؛ لتحيد بها عن طريق الصواب, فتحرف مسارها و تلقي بها في مهالك دنيويّة قبل الأخروية, فتفضل أخاً على أخ وأختاً على أخت؛ فإذا بها تظنّ نفسها قد أحسنت, فإذا بها قد أساءت ودخلت في نطاق الجور الذي لم يشهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فعنِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رضي الله عنهما قال: «سأَلتْ أُمِّي أبي بعضَ المَوهِبةِ لي من مالِه، ثمَّ بَدا لهُ فوَهَبها لي، فقالت: لا أرضى حتّى تُشهِدَ النبي صلى الله عليه وسلم. فأخَذَ بيدي وأنا غُلامٌ فأتى بيَ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ أُمَّهُ بنتَ رَواحة سأَلتْني بعضَ المَوهِبة لهذا. قال: ألكَ وَلَدٌ سواهُ ؟ قال: نعم. قال: فأراهُ قال: لا تُشهِدْني على جَور». [البخاري كتاب الشهادات- باب لا يشهد على شهادة جور].
فكم من أمّ خانتها فراستُها, فمشتْ خلف عواطفها الجيّاشة, ففرقت بين أخوين؛ فرفعت أحدهما وأبعدتِ الآخر, وكم من أمّ ظنّت نفسها حكيمةً فوهبت أحد أولادها وحرمت الآخر.
وكم من أمّ سارت في ركاب المرجفين ففرّقت بين أخوين فأشقتْ عائلةً وأسعدَتْ أخرى.
إنّ الأمّ تشقي نفسها بهذا التفاضل من حيث لا تدري, وتجعل نفسها مطيّة سهلة لانتقادات أولادها قبل أزواجهم وأولادهم.
إنّ الأمهات يجب أن يعلّمْن أنّ الابن الكبير كالابن الصغير, يحبّ كرم أمّه ودلاَلها وعطاءَها كالطفل الصغير تماماً, ويجد في قلبِه ما يجدُه الصغيرُ إن أبعدتُه والدته عنها وقرّبت غيره.
في حياتنا الاجتماعية تتربع العواطف على عقول الأمّهات فتقودهنّ إلى حوافِّ الانهيارات الأسريّة, فكم من أخ عادى أمّه وعقّ أباه لأنهما فضّلا إخوته عليه, وكم من مسرف على نفسه لأنّه لم يجد الحنان عند والديه كما وجده إخوتُه.
إنّ هذا التفاضل بين الإخوة جرّأ إخوة يوسف ليصفُوا والدهم بالضلال وهو النبي ابن النبي ابن النبي فهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام قال الله تعالى حكاية عنهم
لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ{7} إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ{8}

[يوسف7-8].
فهل ترضين هذه الجرأة من أولادك عليك؟
وهل ترضين أن تكوني في خانة الاتهام؟ إني أخاف عليك فأنت أمّي.


 

م. البريجاوي
  • عبير الإسلام
  • إليك أخي ...
  • فقه الأسرة المسلمة
  • تدبرات قرآنية
  • في رحاب النبوة
  • كتب
  • أطياف الهداية