اطبع هذه الصفحة


إليك أمي قطرات من بحر حبك (7)

م. عبد اللطيف البريجاوي


القطرة السابعة
اشغلي أولادَك بالخير قبل أن يشغلهم غيرك بالشرّ


قلبُ الطفل لا يقبل الفراغ, وعقله لا يستوعب أن يكون خالياً من فكرٍ أو نشاطٍ أو حركة, لذلك تراه يخْترع لنفسه ما يشغله, فيلعب بأثمن الأشياء كما يلعب بأتفهها, ليس للثمين عنده قيمة, وليس للتافه عنده ازدراء, فتراه يلعب بالثمين ويزدريه؛ ويلعب بالتّافه فيقتنيه, فهو يرى كل شيء في هذه الحياة قابلاً للعب.
وعلى العكس تماماً فإن أغلب الأمّهات يرين في لعب أولادهن داءً عُضالاً, وشغباً دائماً, وإزعاجا لأهل البيت وإقلاقاً لراحتهم.

لكنّ الطفل يرى الحياة لعباً, ولم لا وهو لا تكليف يحبسه ولا جناح يمنعه وهو الذي لا إثم منه.
لكنّني أعجب من أمًّ تنهال توبيخاً لطفلها لأنّه أفسد بلعبه بعض المقتنيات, وربّما أوجعتْهُ ضرباً لأنّه كسر صحناً أو أوقع ملعقة..
بينما يقول الإسلام للوالدَين: إنّ الضرب لا يستعمل إلا بعد سنّ التمييز ولأمور عظيمة ومهمّة كترك الصلاة, وهو أعلى العقوبات وأشدها فعن عَمرِو بنِ شُعَيْبٍ عن أَبِيهِ عن جَدَّهِ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: « مُرُوا أَوْلاَدَكُم بالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبنَاءُ سَبع سِنِينَ وَاضرِبُوهُمْ عَلَيهَا وَهُم أَبنَاءُ عَشرٍ، وَفَرِّقُوا بَينَهُم في المَضَاجِعِ»[ أبو داود كتاب الصلاة - باب متى يؤمر الغلام بالصلاة].
فمرحلة الطفولة مرحلة توجيهيّة وصدق عليّ رضي الله عنه قال:« لاعِب وَلَدك سبعاً وأدّبه سبعاً واصْحبْه سبعاً».

التربية باللعب:

تعتبر نظرية التربية باللعب من أحدث النظريّات التربويّة إذ يمكن من خلالها توجيه الطفل بشكل غير مباشر إلى أمور عديدة, بالإضافة إلى تعبئة فراغه وتفريغ طاقته.
وقد كان صلّى الله عليه وسلّم يداعب الأطفال ويشاركهم, ويسمح لهم باللّعب فكان يجعل نفسه جملاً للحسن والحسين رضي الله عنهما, بل إنّه كان يمازحهم في طريقة لعبهم فعن أنس قال: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناس خُلقاً، وكان لي أخٌ يقال له أبو عُمَير ـ قال أحسِبُهُ فطيماً ـ وكان إذا جاء قال: يا أبا عمير، ما فعلَ النُّغَير؟ نُغَرٌ كان يلعَبُ به، فرُبما حضرَ الصلاة وهو في بَيتِنا، فيأمر بالبساطِ الذي تحتهُ فيُكنَسُ وينضح، ثم يقوم ونقوم خَلفَه فيُصلِّي بنا».
فدل هذا الحديث على اللعب مع الصبيان وممازحتهم وتكنيتهم وغير ذلك..

إضاءة:

قال ابن حجر:
« إنّ بعض الناس عاب على أهل الحديث أنهم يَرْوُون أشياءَ لا فائدة فيها، مثل ذلك حديث أبي عمير وما درووا أنّ في هذا الحديث من وجوه الفقه وفنون الأدب والفائدة ستّين وجهاً، فلخصتها مستوفياً مقاصدها, ففي هذا الحديث:
استحباب التأنّي في المشي، وزيارة الإخوان، وتخصيص الإمام بعض الرعيّة بالزيارة، ومخالطة بعض الرعيّة دون بعض، ومشي الحاكم وحده، وأنّ كثرة الزيارة لا تنقص المودّة، وأن قوله « زر غباً تزدد حباً »مخصوص بمن يزور لطمع، وأنّ النّهي عن كثرة مخالطة الناس مخصوص بمن يخشى الفتنة أو الضرر، وفيه مشروعيّة المصافحة لقول أنس فيه « ما مسستُ كفاً ألينَ من كفِّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم » وتخصيص ذلك بالرجل دون المرأة، وأنّ الذي مضى في صفته صلّى الله عليه وسلّم أنه « كان خشن الكفين » خاصّ بعَبَالَة الجسم لا بخشونة اللّمس، وفيه استحباب صلاة الزائر في بيت المزُور ولا سيّما إن كان الزائر ممن يتبرك به، وجواز الصّلاة على الحصير، وترك التقزز لأنّه علم أنّ في البيت صغيراً وصلّى مع ذلك في البيت وجلس فيه، وفيه أنّ الأشياء على يقين الطهارة لأنّ نضحَهم البساط إنما كان للتّنظيف، وفيه أن ّالاختيار للمصلي أن يقوم على أروح الأحوال وأمكنها، خلافاً لمن استحب من المشددين في العبادة أن يقوم على أجهدها، وفيه جواز حمل العالم علمه إلى من يستفيده منه، وفضيلة لآل أبي طلحة ولبيته إذ صار في بيتهم قبلة يقطع بصحتها، وفيه جواز الممازحة وتكرير المزح, وأنها إباحةُ سنّة لا رُخصة، وأنّ ممازحة الصبيّ الذي لم يميز جائزة، وتكريرُ زيارة الممزوح معه، وفيه ترك التكبّر والترفّع، والفرق بين كون الكبير في الطريق فيَتَوَاقَرُ أو في البيت فَيَمزَح، وأنّ الذي ورد في صفة المنافق أنّ سرّه يخالف علانيته ليس على عمومه، وفيه الحكم على ما يظهر من الأمارات في الوجه, من حزن أو غيره، وفيه جواز الاستدلال بالعين على حال صاحبها، إذ استدلّ صلّى الله عليه وسلّم بالحزن الظاهر على الحزن الكامن حتى حكم بأنه حزين, فسأل أمه عن حزنه، وفيه التلطّف بالصديق صغيراً كان أو كبيراً، والسؤال عن حاله، وفيه قبول خبرِ الواحد لأنّ الذي أجاب عن سبب حزن أبي عمير كان كذلك، وفيه جواز تكنية من لم يولد له، وجواز لعب الصغير بالطير، وجواز ترك الأبوين ولدهما الصغير يلعب بما أبيح اللعب به، وجواز إنفاق المال فيما يتلهّى به الصغير من المباحات، وجواز إمساك الطير في القفص ونحوه، وقص جناح الطير إذ لا يخلو حال طير أبي عمير من واحد منهما وأيُّهما كان الواقع التحق به الآخر في الحكم، وفيه جواز إدخال الصيد من الحلّ إلى الحرم وإمساكه بعد إدخاله، خلافاً لمن منع من إمساكه وقاسه على من صاد ثم أحرم فإنّه يجب عليه الإرسال، وفيه جواز تصغير الاسم ولو كان لحيوان، وجواز مواجهة الصغير بالخطاب, خلافاً لمن قال: \"الحكيم لا يواجه بالخطاب إلا من يعقل ويفهم\"، والصواب الجواز حيث لا يكون هناك طلب جواب، ومن ثم لم يخاطبه في السؤال عن حاله بل سأل غيره، وفيه معاشرة الناس على قدر عقولهم، وفيه جواز قيلولة الشخص في بيتٍ غير بيت زوجته ولو لم تكن فيه زوجتُه، ومشروعية القيلولة، وجواز قيلولة الحاكم في بيت بعض رعيّته ولو كانت امرأة، وفيه إكرام الزائر وأنّ التنعّم الخفيف لا ينافي السنّة، وأنّ تشييع المزور الزائر ليس على الوجوب، وفيه أنّ الكبير إذا زار قوماً واسى بينهم، فإنّه صلّى الله عليه وسلّم صافح أنساً، ومازح أبا عُمير، ونام على فراش أمِّ سليم، وصلّى بهم في بيتهم حتى نالوا كلّهم من بركته انتهى »[ فتح الباري كتاب الأدب - باب من دعا صاحبه فنقص منه حرفاً].
واليوم إذا لم نشغل أولادنا باللعب المفيد والموجه فإنّ الكثيرَ الكثير جاهزون ليشغلوهم؛ والكثير الكثير من وسائل اللعب صارت في متناول الجميع لكن قسماً كبيراً منها لا يصلح للأطفال ولا يتناسب مع أعمارهم؛ ودور الأمّ في ذلك كبير جداً فبعلمها وصبرها تستطيع أن تستغل كل وقت الطفل بما ينفع ويفيد.

المرجع : كتاب إليك أمي قطرات من بحر حبك للمؤلف عبد اللطيف محمد سعد الله البريجاوي


 

م. البريجاوي
  • عبير الإسلام
  • إليك أخي ...
  • فقه الأسرة المسلمة
  • تدبرات قرآنية
  • في رحاب النبوة
  • كتب
  • أطياف الهداية