اطبع هذه الصفحة


محــاولات في الـفـهـم
1- المواريث

م. عبد اللطيف البريجاوي

 
الحمد لله والصلاة على رسول لله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد :
الهدف الأسمى , والطريق الأسرع , والقناعة الكبرى , هذه هي ذرى الهرم الثلاثة للفهم , فالفهم هو هدف بحد ذاته, وهو طريق سريع للتطبيق , ويوصل الإنسان إلى قناعات ثابتة مبينة على مقدمات صحيحة , وقد مرت على الأمة أزمنة عديدة وتداخلت الفهوم مع بعضها وحلت فهوم بعيدة عن المنهج العام مما جعل الناس بعيدين عن الطريق الصحيح والتطبيق السليم

لماذا هذه السلسلة ؟
1- إن للفهم مكانة عالية في الإسلام ومرتبة رفيعة, وكعب الفهم عال جدا ذلك أن الله سبحانه وتعالى كان عاب على الذين لا يفهمون " فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا" يفقهون أي يفهمون
حيث إنه من المسلمات عند المتبصرين من المسلمين أن كلمة الفقه لا تعني بشكل أو بآخر التعريف الجزئي للفقه وهو معرفة فروع الأحكام وإنما الفقه هو الفهم يقول النبي صلى الله عليه وسلم : من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " متفق عليه يقول في الفتح :" يفقهه أي يفهمه وفقه بضم القاف إذا صار الفهم له سجية وفقه بفتح القاف إذا سبق غيره للفهم ونكر خيرا ليشمل القليل والكثير "

2- إن ضرورة الفهم تأتي من كون الإنسان الذي يفهم يتبنى والذي يتبنى يلتزم وهو الهدف الأسمى والمطلب المقصود من العبادات , لذلك كان الفهم هو الحلقة الأولى في سلسلة الوصول إلى الالتزام والتطبيق , ولقد كان الصحابة رضوان الله عليه أكثر الناس فهما وبالتالي كانوا أكثر الناس تبنيا للإسلام مما جعلهم بعد ذلك أشد الناس التزاما به

3- إن من يفهم المقاصد العامة والأهداف الكبرى لكل فعل في الإسلام يكون أقرب إلى عدم الوقوع في الأخطاء الفكرية و الانحيازات العاطفية ويكون بذلك قريب أشد القرب من واقعية الإسلام وموضوعيته

4- كثرة الفهوم الخاطئة في أذهان المسلمين عن كثير من القضايا الإسلامية والموضوعات التي ينبغي ألا تغيب على المسلم المتبصر , وللأسف نلاحظ في كل قطعة من هذا الأمة الممزقة فهوم غريبة عجيبة قد بنى الناس عليها حياتهم وكثيرا من أمورهم ولكنها في حقيقتها بعيدة عن الإسلام ومراميه , نائية عن الدين الحنيف ومقاصده العظيمة

5- قد يكون من أسباب هذه السلسة التي أسأل الله حسن تمامها وحسن قبولها سيطرة الفهم في اتجاه واحد وطريق واحد , حيث يغلق بعض المسلمين الطريق أمام فهومات جديدة وعديدة مقبولة شرعا مأصلة منهجا فيحرمون الكثير من الفوائد المستودعة في هذا الدين الحنيف والتي لم يشأ الله حتى الآن له أن ترى النور , وقد كان المتبصرون السابقون من هذه الأمة قد وصلوا لتعدد الفهوم في المسألة الواحدة عندما كانوا يقولون " إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب "

كيف نفهم المواريث ؟؟
علم المواريث أو كما يسمى علم الفرائض من العلوم المهمة في ديننا الحنيف له مكانته العالية ومرتبته الرفيعة , ونحن إذ نتكلم في هذا الجانب فإننا لن نتكلم من ناحية كيفية توزيع الإرث ولن نتكلم عن أصحاب الفروض أو أصحاب العصبات ,أو الوارثين من الرجال والنساء , أو عن أسباب الإرث وموانع الميراث فهذا مكانه وتفصيلاته في كتب الفقه, ولكننا سنتكلم عن جوانب تضيء هذا العلم الهام , وتجعل الناس أكثر فهما له وأكثر تمسكا به فلا حرمان لأحد ولا تلاعب يجعل الأنثى نائية عن حقها بالميراث , ذلك أن كل واحد منا يتعرض لأحواله المختلفة فهو إما وارث أو مورث

فكيف نفهم إذا علم الفرائض أو المواريث ؟؟

1- لو قرأنا الأيات التي تتكلم عن المواريث في القرآن الكريم والتي هي أربع آيات في سورة النساء , ودققنا في هذه الآيات لوجدنا ملاحظة مهمة جدا هي أن الله سبحانه وتعالى توكل بذاته العلية تفصيل الإرث فلم يتركه للنبي صلى الله عليه وسلم ليبينه في سنته الغراء كما فعل في كثير من الأوامر الأخرى كالصلاة والزكاة والحج وغيرهم , فنحن عندما نقرأ القرآن نجد قوله تعالى : " وأقيموا الصلاة " ولكننا لا نجد في كتاب الله كم هي هذه الصلوات ولا عدد ركعاتها وكذلك نجد قوله تعالى : " وآتوا الزكاة " وكذلك لا نجد كم هو نصاب الزكاة وكم هو مقدارها وغير ذلك ممن تولت السنة المباركة تبيانه وتوضيحه
ولكننا نجد في آيات المواريث تفصيلا دقيقا للفروض والمقادير حيث قال تعالى:
" يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك
وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد
فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما " النساء 11
فعلام يدل هذا التفصيل الدقيق والشرح المحكم لهذا الجانب من العلوم الشرعية ؟
إن هذا التفصيل والتوضيح في هذه الآيات يدل على أهمية الموضوع بالنسبة للبشر , فالمال محبوب بالنسبة لهم , تهفو إليه نفوسهم وترنو إليه أبصارهم وقد وصف الله ذلك في نفوس البشر حيث قال " وتحبون المال حبا جما " وقال " المال والبنون زينة الحياة الدنيا .." فهذا التفصيل في مسائل الإرث يوقف زحف الطامعين ويأخذ حق المستضعفين ويحقن الدماء , حيث يعرف كل واحد أن الله سبحانه وتعالى هو الذي قرر كيفية توزيع الإرث لا أحد غيره , فلا يطمع في مال أخيه أو أخته أو مال أبيه أو ابنه ولكن له حقه ونصيبه الذي قرره الله سبحانه وتعالى . فيرضى عن ذلك قلبا وسلوكا, فإذا لم يرض عن ذلك قلبا فإن القاضي يلزمه به سلوكا

2- بعض الناس للأسف الشديد يلجؤون للتلاعب في هذا الجانب من أمور الدين فيحرم الفتيات وينحل الصبيان , ويحاول ألا يصل شيء من ماله إلى أختانه, وقد يحاول أن يحرم أحد أبنائه ويعطي الآخر بحجة أن هذا الابن عاق لا يستحق ميراث والده وأن الآخر بار مطيع لكن المولى عز وجل أجاب عن هذه لهواجس التي تجتاح نفس ابن آدم بقوله تعالى : " آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا " فلا يعلم الإنسان من هو أكثر نفعا من الآخر الأب أم الابن أم الأخ أم غيرهم , ذلك أن الإنسان يتغير ويتأثر وخاصة في حالات الموت إذ يكون الولد عاق جدا فلما يرى والده مسجى أو والدته قد التحقت بالرفيق الأعلى ربما يكون ذلك دافعا لتحوله إلى حالة أفضل والتزام أكثر فلا يدري الإنسان من أي لحظة يتحقق الصلح مع الله عز وجل , وكم من أخ كان شديد الخصام مع أخيه فلما توفي أخوه كان ذلك بمثابة الصاعقة على قلبه فأرد أن يكفر عن تقصيره فأصبح أبر الناس بأولاد أخيه , وهذا يجعلنا نؤكد قوله تعالى " آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا " لذلك ينبغي أن يسلم الإنسان بهذا الأمر ويترك أمر الميراث كما أراده الله عز وجل فإن النفع كل النفع فيه .

3- يجب أن نفهم أن الإرث يقع تحت باب القاعدة الفقهية " الغنم بالغرم " ومعنى هذا الكلام أن الذي يأخذ الإرث الشرعي فله حق في ذلك , ولكن بالمقابل عليه واجبات فالأخ الذي يرث أخاه الذي لا ذكور عنده فإن هذا الإرث حقه وميراثه ولكن مقابل هذا الحق هناك واجبات عليه من الرعاية لأولاد أخيه وربما الولاية وحتى الإنفاق فليس معنى أن نأخذ حقوقنا من الإرث أن الأمر انتهى عند هذا الأمر إنما أعطاك الله حق الإرث مقابل ما يجب أن تقدمه من رعاية وولاية وتربية , وصرف بعض الأوقات لتوجيه والعناية بمن تركهم المتوفى , وهذا جانب يغفل عنه كثير من الناس فينسون حق الرعاية باتجاه من حولهم

4- يجب أن نفهم أن الإرث هو من حدود الله التي يجب ألا يتجاوزها الإنسان المسلم , لان لها من المخاطر الكثيرة حيث تبقى عداوة حرمان الميراث إلى الأحفاد ولا يزال الناس في عداوة بسب تلاعب أحد الأجداد بميراثه , حيث يقول الله تعالى بعد أن انتهى من أيات الميراث في سورة النساء : " تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين * النساء

فإذا فهم المسلم آيات الميراث بهذا الشكل , كان أجدر به ألا يلعب بميراث ويكون أقرب إلى العدالة والانصياع لأوامر الله ويبتعد عن الجور الذي يلحقه من خلال هذا الأمر حيث إن النبي عليه لسلام قل لمن أراد أن ينحل ولدا دون الآخر " فلا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور " البخاري ومسلم
والحمد لله رب العالممين
 

م. البريجاوي
  • عبير الإسلام
  • إليك أخي ...
  • فقه الأسرة المسلمة
  • تدبرات قرآنية
  • في رحاب النبوة
  • كتب
  • أطياف الهداية