اطبع هذه الصفحة


إليك أخي

جواهرَ الهداية

م. عبد اللطيف البريجاوي

 
الجوهرة الثامنة عشرة
جســـور مقطوعة..
 

كما يفصل بين المناطق والبلدات أودية وهوَّات وذلك بسب اختلاف طبيعة الأرض فمنها السهل ومنها الصعب ومنها الصخر.. كذلك تفصل بين الناس أودية متنوِّعة وهوَّات مختلفة.
وقد حلَّ الناس مشكلة الفصل بين المناطق والبلدات؛ فمدُّوا جسوراً فوق هذه الأودية وحفروا أنفاقاً في الجبال... كل ذلك حتى يصلوا إلى بعضهم ويحقّقوا جزءاً من قوله تعالى ] يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [ (الحجرات13)
وتقاربت المدن و البلدات والأقطار والقارّات.
ونجح الناس في بناء هذه الجسور.. جسور الإسمنت والحديد فأقاموها وشيَّدوها وأمكنوها حتى ابتلعت المسافات وهضمت الأوقات...
لكنّهم فشلوا في مدِّ الجسور بين الأشخاص والأفراد...
فمع كلّ هذا التقدُّم الذي نراه ما زلنا نرى الجفوة والقسوة والأودية البشريَّة التي تنأى بكلّ واحد عن الآخر..
لا نرى جسوراً حقيقيَّة بين الأفراد والأشخاص..
إنّ الجسور بين الناس لا تبنى بالإسمنت أو الحديد وإنَّما تبنى بالتعارف والتآلف والتسامح والتراحم...
وقد يكون الفرد بقرب أخيه لكنّه أبعد الناس عنه...
وقد يكون الابن بقرب أبيه لكنّه أبعد الناس عنه...
إنّ هذه الجسور لا تتعلَّق بالمسافات ولا تتعلَّق بالأودية السحيقة ولا بالجبال الشاهقات، وإنَّما تتعلَّق بنفس رضيَّة ترضى بالآخر وتحبّه وتحترمه وتشاركه إنسانيَّته.
إنَّها تتعلَّق بالتفاعل الحضاري والتعارف الحضاري "لتعارفوا".
ولا يمكن لهذا التعارف أن يقوم إلاَّ على جسور أساسيَّة نصَبَ أعمدتها الإسلام وأحكم قواعدها الإيمان..
نحن نحتاج إلى هذه الجسور بين النفوس حتى تنتقل عليها الخبرات والمعارف، وحتى يأخذ كلّ إنسان أفضل ما عند غيره ليضيفه إلى أفضل شيء عنده...
إن الجسور مقطوعة ولذلك ترى أنَّ الإنسان قليل الخبرة قليل المعارف متحجِّر الفكر، متقوقع الشخصيَّة، فكره أصلب من الصوان، وعلمه محدود القواعد والبنيان.
ليس عنده جسور يمدُّها مع الناس فيستفيد منهم وليس عنده جسور غيرها للناس حتى يفيدهم..
الإسلام أحكم الجسور وأقام البنيان.. فهل من قائم عليها يحفظ عليها نضارتها وجودتها وقوّتها؟..!..
هل أدُلّك أخي على جسور إن أنت أقمتها وأحكمتها.. مُدَّت لك جسور الإنسانية لتزداد من معارف الآخرين ولتعيش بطمأنينة بين الناس ويعيش الناس معك بطمأنينة؟!!..

أربعة جسور نصبها الإسلام لتحقق التواصل بين البشر، وتمتدّ بينهم ناقلة الخبرات والمعارف وهذه الجسور الأربعة:

أولاً-الابتسامة:
فـ"تبسمك في وجه أخيك صدقة" أرأيت أعظم من دين يعطيك صدقة فقط لأنّك تبتسم في وجه أخيك.
إنّ الإسلام لا يوزّع الأجور هكذا دون أن يكون لهذا الفعل أو ذاك أثره في حياة الفرد والأمّة فما هي فوائد الإبتسامة في وجه الأخ والصديق...؟
إن الابتسامة تبني أربعة جسور إنسانيّة كلّها في غاية الأهميّة:
1- جسرٌ يدلُّ على أنك تتحكَّم بنفسك فإن كنت غاضباً فأنت مضطر إلى أن تبتسم.. فهو جسر التحكُّم بالذات وهو من أهمِّ الجسور التي يرتضيها الناس فيمن يحبّون أن يتعاملوا معه..
2- جسرٌ إلى الطرف المقابل، إنه ليس بينك وبينه إلا المودَّة، فهي أسرع الجسور بين القلوب.
3- جسرُ الإيجابيِّة والتفاؤل؛ وهو جسر يحبّه الناس فأغلب الناس يحبّون الإنسان المتفائل والإيجابي.
4- جسرٌ إلى الأطراف المراقبة (المراقب الخارجي) إنّه ليس بينك وبين أخيك أيَّة شحناء أو بغضاء..
فهل علمت لماذا يعطي الإسلام صدقة على الابتسامة إنّها تقيم الجسور بين البشر ليتعارفوا ويتلاقوا وينقلوا معارفهم..
وكما أنَّ الإسلام يعطي الصدقة على الابتسامة فإنه يعطي الإثم على ابتسامة السخرية ذلك لأنّها تهدم كل الجسور السابقة وتحوِّلها إلى خراب ودمار. ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [ (الحجرات11)

ثانياً -السلام:
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ »(مسلم/81/)
جسرٌ آخر.. من جسور الإنسانيّة التي تنتقل عليه المعارف والخبرات...
لقد أعطى الإسلام ثواباً عظيماً لمن يسلِّم ولمن يردُّ السلام..
فأعطى عشر حسنات على من قال السلام عليكم وعشرين حسنة لمن زاد فقال السلام عليكم ورحمة الله؛ وثلاثين حسنة على من قال وبركاته...
فعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَشْرٌ» ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«عِشْرُونَ» ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثُونَ» (الترمذي)
بل إنّ القرآن طلب أن يرد الإنسان بتحيّة أفضل من التحيّة التي أُلقيت عليه: ]وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً [ (النساء86)
فإذا لم تكن هناك تحيَّة أحسن فالواجب الردُّ بالمثل..
وقد أفرد البخاريّ باباً أسماه بَاب إِفْشَاء السَّلامِ مِنْ الإِسْلامِ. وَقَالَ عَمَّارٌ ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالَمِ وَالْإِنْفَاقُ مِنْ الْإِقْتَارِ
وقال ابن حجر في فتح الباري وهو يشرح هذا الخبر: "وبَذْلُ السلام يتضمّن مكارم الأخلاق والتواضع وعدم الاحتقار ويحصل به التآلف والتحابب".

إن هذا الثواب العظيم الذي منحه الله لمن يسلِّم ولمن يردّ السلام إنَّما هو تأكيد على أنّ هذا السلام وردّه له فوائده العظيمة فهو أيضاً يبني جسوراً إنسانيّة تنتقل عليها المعارف والخبرات... ومن هذه الجسور:
1- جسر السلام والإيمان... فمعنى السلام الإيمان... وإذا تحقّق الأمان والسلم من الأطراف كلّها بُنِيَ جسر الإنسانيّة الأوّل والأهم.
2- جسر المحبّة.. فالسلام يحقّق المحبّة بين الأطراف.. ويزيل العداوة ويمسح القلوب..
3- جسر إلى الأطراف المقابلة وإلى المراقب الخارجي بأنّه لا يوجد عداوة ولا شحناء..
أَعَلِمْتَ لماذا أعطى الله سبحانه الثواب العظيم على من يسلِّم وعلى من يردّ السلام؟!...
إنّ السلام يبني جسور الأمن وجسور المحبة التي تنتقل عليها المعارف والخبرات..

ثالثاً -قولوا للناس حسناً: جسر مهمٌّ للعلاقات الإنسانيّة فالكلمة الطيّبة صدقة.
إن الكلمات الطيّبات جسور لا تُهدم، وَصِلاتٌ لا تُقطع..
ما أعطى الله سبحانه تعالى ثواب الصدقة على الكلمة الطيّبة إلاَّ لأنَّ هذه الكلمة تشكِّل جسور المحبَّة والتعاون والتآلف... والكلمة السيِّئة تهدم هذه الجسور: ]وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً[ (الإسراء53)
فكلَّما أحسن المسلم في كلامه بنى جسوراً إنسانيَّة متينة تنقل عليها الخبرات والمعارف.

رابعاً -ادفع بالتي هي أحسن... وهي وسيلة صيانة هذه الجسور الإنسانيّة فقد يبدو من الأطراف الأخرى ما لا تطيقه وما لا تحتمله، وقد تُبدي لك الأطراف الآخرى أساليب لهدم هذه الجسور...
فما ينبغي لك أن تنظر إليهم وهم يهدمون الجسور بينك وبينهم بل لا بدّ أن تحمي هذه الجسور مبادلاً الإساءة بالإحسان.. فإنِّها والله نِعِمّا الصيانة لهذه الجسور ]فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه وليٌّ حميم[...
هذه هي الجسور والدعائم الأساسيّة لعلاقات إنسانيّة راقية...فهل نحن ممَّن يبني هذه الجسور.
إننا إن بنينا هذه الجسور أخذنا الثواب العظيم وقاربنا بين القلوب وحقَّقنا التعارف الذي جعله الله غاية في حدِّ ذاته.


 

م. البريجاوي
  • عبير الإسلام
  • إليك أخي ...
  • فقه الأسرة المسلمة
  • تدبرات قرآنية
  • في رحاب النبوة
  • كتب
  • أطياف الهداية