اطبع هذه الصفحة


إليك أخي

جواهرَ الهداية

م. عبد اللطيف البريجاوي

 
الجوهرة العشرون
فن الضياع الجديد
 

لكلّ إنسان دائرتان في محيط حياته...
دائرة التأثير ودائرة الاهتمام..
فأمَّا دائرة الاهتمام فهي كبيرة جدّاً؛ فالمسلم يهتمّ بأوضاع الأمّة كلّها.. يهتمّ بالمستضعفين والفقراء والتائهين... ويهتمّ بالمسلمين في فلسطين والعراق وفي كلّ المناطق الساخنة في العالم...
يؤلمه ما يعانون من قسوة ودمار وقتل وحصاد..
ويغيظه تمادي الكفّار على المسلمين، وتطاول المنافقين على المؤمنين..
فهو يطبّق الأثر : ((مَن لم يهتمَّ بأمر المسلمين فليس منهم)).
وهناك دائرة أُخرى هي دائرة التأثير..
وهي الدائرة التي يستطيع المسلم أن يؤثِّر فيها ويترك أثره فيها..
وتكبر هذ الدائرة أو تصغر حسب قدرة الإنسان وطاقته وعلمه وهمّته...
وهذه الدائرة مهمّة جدّاً لو أنّ الإنسان فعَّلها تفعيلاً جيّداً..
فما من مسلمٍ إلاّ وله دائرةُ تأثير، إن كان في بيته أو بين أصدقائه أو في معمله أو في متجره... وقلّما تجد إنساناً ليس له أيّ دائرة... ولو أنّ كلّ إنسانٍ فعَّل هذه الدائرة تفعيلاً جيّداً لتداخلت الدوائر، ولظهر الأثر وبان.
لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم مهتمِّين بما يجري حولهم في العالم يعرفون أخباره ويتتبعون مجرياته، ولكن هذا الاهتمام لم يثنهم عن دائرة تأثيرهم؛ فقد كان أبو بكر رضي الله عنه يعرف مجريات الأحداث في العالم من حوله , حتّى إنّه اهتمَّ واغتمَّ لخسارة الروم أمام الفرس وهو باهتمامه هذا لايؤثِّر في خسارةِ أو فوز الروم...
روى الترمذيّ عَنْ نِيَارِ بْنِ مُكْرَمٍ الأَسْلَمِيِّ قَالَ لَمَّا نَزَلَت {الم غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} فَكَانَت فَارِسُ يَومَ نَزَلَت هَذِهِ الْآيَةُ قَاهِرِينَ لِلرُّومِ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ ظُهُورَ الرُّومِ عَلَيهِم لأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ أَهلُ كِتَابٍ وَفِي ذَلِكَ قَولُ اللَّهِ تَعَالَى {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} وَكَانَت قُرَيشٌ تُحِبُّ ظُهُورَ فَارِسَ لأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُم لَيسُوا بِأَهلِ كِتَابٍ وَلا إِيمَانٍ..... فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ خَرَجَ أَبُو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ يَصِيحُ فِي نَوَاحِي مَكَّةَ {الم غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} قَالَ نَاسٌ مِن قُرَيْشٍ لأَبِي بَكْرٍ: فَذَلِكَ بَينَنَا وَبَينَكُم زَعَمَ صَاحِبُكَ أَنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ فَارِسَ فِي بِضعِ سِنِينَ أَفَلا نُرَاهِنُكَ عَلَى ذَلِكَ قَالَ : بَلَى - وَذَلِكَ قَبلَ تَحرِيمِ الرِّهَانِ - فَارتهَنَ أَبُو بَكْرٍ وَالْمُشرِكُونَ وَتَوَاضَعُوا الرِّهَانَ وَقَالُوا لأَبِي بَكْرٍ : كَمْ تَجْعَلُ ؟ البِضْعُ ثَلَاثُ سِنِينَ إِلَى تِسعِ سِنِينَ فَسَمِّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ وَسَطًا تَنْتَهِي إِلَيهِ قَالَ: فَسَمَّوْا بَيْنَهُمْ سِتَّ سِنِينَ قَالَ: فَمَضَتْ السِّتُّ سِنِينَ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرُوا فَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ رَهْنَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمَّا دَخَلَتْ السَّنَةُ السَّابِعَةُ ظَهَرَتْ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ فَعَابَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْمِيَةَ سِتِّ سِنِينَ لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي بِضْعِ سِنِينَ وَأَسْلَمَ عِنْدَ ذَلِكَ نَاسٌ كَثِيرٌ (الترمذي ) إنّ اهتمام أبي بكر رضي الله عنه بالحوادث المحيطة بالجزيرة العربية لم يمنعه من أن يُفعّل دائرة تأثيره فهو الذي كان يدعو الناس إلى الإسلام وكان يتصدَّق وكان يعتق ويساند الدعوة و يفعل غير ذلك من الأفعال التي تقع في دائرة تأثيره.
لقد أدرك أعداء المسلمين خطورة هذه الدائرة، ففكّروا وفكّروا حتّى لا تستيقظ هذه الهمّة عند المسلمين، فوجدوا ما يسمى بـ فنّ الضياع الجديد وهو: أن يبدّد المسلم دائرة تأثيره ويضيّعها في دائرة اهتمامه.. ومن ثمَّ لن يكون له أثر أبداً، إنّما هي مجرّد اهتمامات..

وبتوضيح آخر..
كثيرٌ من المسلمين يهتمّون بما يجري من أحداث للمسلمين في العراق وفي فلسطين، وهو صادق في ذلك، يتمنّى أن يكون معهم، فيقاتل فيُقتل في سبيل الله، ولكنّه لا يستطيع أن يصل إلى أرض المعركة... ولكن اهتمامه هذا يأخذ لبَّه ويسيطر على عقله، ولكنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً، فترى كلَّ جهده وكلّ اجتهاده ينصبُّ حول متابعة الأخبار والتحليلات وغيرها... ومن ثمَّ يضيّع دائرة تأثيره التي يمكن أن يبني فيها ويعمّر وينهض بأُمّته.
وتتداخل عندئذ الدائرتان (دائرة الاهتمام ودائرة التأثير) فهو مهتمٌّ بالمسلمين، ولكن ليس له أيّ أثرٍ في بناء مَن حوله.
لقد تفطّن الأعداء لهذا الأمر؛ فهاهم يزيدوننا أخباراً وتحليلاتٍ وغير ذلك، فتزيد دائرة الاهتمام وتقلّ دائرة التأثير.
إنّ أغلب المسلمين مسمّرون حول شاشات التلفاز يُشبعون دائرة اهتمامهم... إنّه فنّ الضياع الجديد الذي يلغي دائرة التأثير عند الفرد فيْمَن حوله على حساب دائرة اهتماماته؛ لذلك ترى المسلمين يتجادلون ويتناقشون في أمور كثيرة وكبيرة.. لكنّهم لا يتناقشون في دائرة تأثيرهم...
ماذا يفعلون بجارٍ لهم يشرب الخمر لينقذوه منها، أو آكل رباً لينصحوه، أو زوج شارد فيردُّوه، أو زوجة ناشزة فيصلحوها...
إنّ هذا الضياع الجديد هو من الأخطار الخفيّة والجميلة في آنٍ واحد؛ فهو يشبع اهتمامك ولكنّه يسليك عن دائرة تأثيرك، فتفقد مفعولك على أرض الواقع.

اسأل نفسك أخي..
هل أنا مع هذا الضياع الجديد والخبيث؟!..
أم أنا أهتمّ بالمسلمين، ولكنّي أفعل في دائرة تاثيري ما يجب أن أفعله؟!..
الإسلام يقول لا بدَّ أن تهتمّ..
ولكن على ألاّ يلهيك هذا الاهتمام عن دائرة تأثيرك..
أقل دائرة التأثير أن تبلّغ ولو آية..
عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً....» (البخاري / 3202/) اسأل نفسك.. ما دائرة اهتمامك؟ وما دائرة تأثيرك؟ حاول أن تعمل في دائرة تأثيرك.. والحمد لله، فقد توسّعت دائرة التأثير كثيراً بعد استخدام التقنيَّات الحديثة...
أقلّ دائرة التأثير «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» فأنت تستطيع أن تؤثّر في التجمّعات المختلفة التي تنتشر هنا وهناك.
رأيتُ بعض الناس يناقش مسألة الجهاد في المناطق المحتلّة من أرض الأُمّة.. وجارٌ له بقربه لا يرشده إلى وجوب صلاة الجمعة..
فالأُولى دائرة اهتمام، وهي مطلوبة.. لكن الثانية دائرة تأثير...
وهي أشدُّ طلباً من الأولى...
وفن الضياع الجديد هو أن تطغى دائرة الاهتمام على دائرة التأثير، ومن ثمّ يكثر الكلام والجدل، ويقلّ البناء والعمل.
فحاذر أن تشارك في هذه الجريمة الجديدة..
وحاذر أن تطغى دائرة اهتمامك على دائرة تأثيرك... ومن ثمَّ لا تجني ثماراً ولا تحصد عملاً...
إنَّه كلّما طغت دائرة الاهتمام على حساب دائرة التأثير صار الإنسان أقرب إلى الجدل منه إلى العمل، وأقرب إلى التنطُّع منه إلى المنطقيّة وأقرب إلى التنظير منه إلى الواقعيّة.

 

م. البريجاوي
  • عبير الإسلام
  • إليك أخي ...
  • فقه الأسرة المسلمة
  • تدبرات قرآنية
  • في رحاب النبوة
  • كتب
  • أطياف الهداية