اطبع هذه الصفحة


إلا أئمة الحرمين

سلطان بن عثمان البصيري


إن التغنّي بالقرآن عند تلاوته مطلبٌ من المطالب الشرعيّة فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : ( ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن ) روا البزّار ، وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما أذن الله لشيء ما أذن للنبي أن يتغنّى بالقرآن ). وها هو أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يتغنّى بتلاوته فيسمعه النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيقول له : ( لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود ) متفق عليه. وكذلك لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم تلاوة سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهما وكان حسن الصوت : ( الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا ) رواه ابن ماجه. وغير هذه الوقائع التي تدلّل على أهميّة هذا المطلب كثير.

إذا تقرّر هذا فليُعلم أن التغنّي بالقرآن ليس مطلقاً بل له أصوله وأحكامه وطرائقه المعتبرة لدى أئمة التجويد وعلم القراءات ، عُرِفَت بأحكام التجويد ، وقد أخذها الخلَف بالتلقّي والمشافهة عن السلَف كما قال ابن مسعود رضي الله عنه لرجل قرأ عليه قول الله تعالى : ( إنما الصدقات للفقراء .. ) مرسلة بدون مدّ ، فقال له : ( مه ، ما هكذا أقرأنيها رسول الله ! ) فقال له : وكيف أقرأكاها يا أبا عبد الرحمن ؟ فقال : ( إنما الصدقات للفقرآء .. ) ومدّها.

وقد قال بعض أهل العلم بوجوب التلاوة بتلك الأحكام على كل قارئ ، والحق أنها واجبة على المستطيع للحديث الثابت في الصحيحين وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ( الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرؤه وهو عليه شاق له أجران ).

ولله درّ الأئمة الذين نقلوا لنا تلك الأحكام والطرائق لاسيّما البدور السبعة كما سمّاهم الشاطبي بذلك في منظومته الموسومة بحرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع ، وليس لنا عندهم إلا أن نقول كما قال أحدهم وهو أبو عمرو بن العلاء البصري : ( ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخلٍ طوالٍ ).

وأحكام التجويد معتبرة حتى داخل الصلاة ، ومما يُنبّه له أن المراد بالأقرأ في الحديث المرفوع : ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله .. الخ ) الأجود قراءةً الأفقه ، ثم الأجود قراءةً الفقيه ، ثم الأقرأ العالم فقه صلاته .. وهكذا ، قاله في عمدة الطالب.

ومما يُذكر مثالاً على عناية الفقهاء بتجويد القرآن اعتبارهم أن اللحن الجليّ في سورة الفاتحة في الصلاة أي الخطأ الذي يغيّر المعنى يُبطل الصلاة لأن قراءة الفاتحة ركن فيها فإذا بطل الركن لم يؤت بالصلاة ، وكذلك تنصيص بعض الفقهاء على أن عدد التشديدات التي لابدّ منها في قراءة سورة الفاتحة في الصلاة إحدى عشرة.

لكن المتأمل لأحكام الشريعة عموماً يجد فيها البُعد عن التكلّف ، وأحكام تلاوة القرآن من ذلك ، فالتكلّف في أداء تلاوة القرآن حتى يؤتى بها على وجه يُخرج صاحبه عن التدبر للمعاني إلى التدقيق في الأداء ليس مأموراً به شرعاً ، وفي ذلك يقول ابن كثير رحمه الله في فضائل القرآن ( ص 125 / 126 ) : ( والغرض المطلوب شرعاً إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه والخشوع والخضوع والانقياد للطاعة ) انتهى. ونقل ابن الجوزي في تلبيس إبليس على القرّاء ( ص 143 ) عن الحسن البصري رحمهما الله قوله : ( أُنزل القرآن ليُعمل به ، فاتخذ الناس تلاوته عملاً ) أي اقتصروا على التلاوة دون العمل بالقرآن ولم يجمعوا بينهما.

وقال الذهبي رحمه الله : ( فالقرّاء المجوِّدة فيهم تنطّعٌ وتحريرٌ زائد ٌيؤدي إلى أن المجوِّد القارئ يبقى مصروف الهمّة إلى مراعاة الحروف والتنطع في تجويدها ، بحيث يشغله ذلك عن تدبّر معاني كتاب الله تعالى ، ويصرفه عن الخشوع في التلاوة ، ويخلّيه قويّ النفس ، مزدرياً بحفّاظ كتاب الله تعالى ، فينظر إليهم بعين المقت ، وبأن المسلمين يَلحَنون ، وبأن القرّاء لا يحفظون إلا شواذّ القراءة ، فليت شعري أنت ماذا عرفت ! وماذا عملت ! فأما علمك فغير صالح وأما تلاوتك فثقيلة عريّة من الخشعة والحزن والخوف ، فالله تعالى يوفقك ويبصرك رشدك ويوقظك من مرقدة الجهل والرياء.

وضدّهم قرّاء النغم والتمطيط ، وهؤلاء من قرأ منهم بقلب وخوف قد ينتفع به في الجملة ، فقد رأيت منهم من يقرأ صحيحاً ويطرب ويبكي ، ورأيت منهم من إذا قرأ قسّى القلوب ، وأبرم النفوس ، وبدّل الكلام ، وأسوأهم حالاً الجنائزية.

وأمّا القراءة بالروايات وبالجمع فأبعد شيء عن الخشوع ، وأقدم شيء على التلاوة بما يخرج من القصد ، وشعارهم في تكثير وجوه حمزة وتغليظ تلك اللّامات وترقيق الرّاءات.
اقرأ يا رجل وأعفنا من التغليظ والترقيق وفرط الإمالة والمدود ووقوف حمزة فإلى كم هذا !
وآخر منهم إن حضر في ختم أو تلا في محراب جعل ديدنه إحضار غرائب الوجوه والسكت والتهوّع بالتسهيل وأتى بكل خلاف ونادى على نفسه أنا أبو اعرفوني فإني عارف بالسبع.
إيش نعمل بك ؟ لا وصبحك الله بخير ، إنك حجر منجنيق ورصاص على الأفئدة ).انتهى ، ( بيان زغل العلم والدعاة ص 4 ).

إذا تقرّر هذا فليُعلم أنه لا سبيل للعمل بالقرآن إلا بالفقه بمعانيه وفهمه وتفسيره ، ولذا يتبيّن أن مجرّد تجويد التلاوة لا يكفي للعمل الصحيح بالقرآن ، فليس للقارئ الذي لا علم عنده مَيزة على القارئ الذي جمع بين التجويد والفقه سواء في داخل الصلاة أو خارجها.

ولا يُفهم من هذا التهوينُ من شأن التجويد علم القراءات ، فالتجويد وعلم القراءات من أنبل العلوم لارتباطهما بكتاب الله لكن لابدّ لمتعلّمهما من الفقــه في دين الله.
ومع ذا فإلى الله المشتكى من حال كثير من الناس اليوم ، فهم يرون صاحب الصوت الجميل والأداء الحسن هو الأحقّ بالإمامة وإن لم يكن عالماً أو عاملاً ، وهذا من أشراط الساعة كما هو مبثوث في كتب الحديث.

ومن القوابع خروج من ينتقد بعض أئمة الحرمين في تلاوتهم ، وقد فتح بخروجه الباب لكل من لا يُعرف له في العلم أصل لكي يسوّد الصحف بنقدٍ واقتراح ! وكأنهم لم يجدوا ما يتحدثون عنه إلا أئمة الحرمين.
 

سلطان بن عثمان البصيري

 

سلطان البصيري
  • مقالات ورسائل
  • الصفحة الرئيسية