اطبع هذه الصفحة


نقض الأحكام القضائية

سلطان بن عثمان البصيري

 
نقض الأحكام القضائية بعد الحكم للحكم مرة أخرى قبل تنفيذها سنّة ماضية لتصحيح الحكم متى ما كان خطأ، ولا تبرأ الذمّة إلا به ، سواء كان من قاضِ آخر أو رجوعاً من نفس القاضي الذي أصدر الحكم أولاً ، ومن أدلّة مشروعيّة النقض ما يلي :

1 –
نقضُ سليمان لحكم داود عليهما السلام قبل تنفيذه وحكمُ سليمان بحكم آخر ، وقد أقرّ الله ذلك في كتابه فقــــال : ( وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)) الأنبياء. قال ابن حجر في ( فتح الباري 13/148 ) : ( وأخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن مسروق قال : كان حرثهم عنباً نفشت فيه الغنم ، أي رعت ليلاً ، فقضى داود بالغنم لهم ، فمرّوا على سليمان فأخبروه الخبر ، فقال : لا ، ولكن أقضي بينهم أن يأخذوا الغنم فيكون لهم لبنها وصوفها ومنفعتها ، ويقوم هؤلاء على حرثهم حتى إذا عاد كما كان ردّوا عليهم غنمهم ) وقال : ( وأخرجه ابن مردويه والبيهقي من وجه آخر عن ابن مسعود ، وسنده حسن ). وقال ابن العربي عند تفسيره للآية الوارد فيها نقض سليمان لحكم داود عليهما السلام في ( أحكام القرآن 3/266 ) : ( في هذه الآية دليل على رجوع القاضي عمّا حكم به إذا تبيّن أنّ الحقَّ في غيره ).

2 –
قصّة الزُبْيَة – وهي الحفرة التي تُغطّى ليُصاد بها الأسد - ، فعن علي رضي الله عنه قال : (لَمَّا بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْيَمَنِ حَفَرَ قَوْمٌ زُبْيَةً لِلْأَسَدِ ، فَوَقَعَ فِيهَا الْأَسَدُ ، وَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَى الزُّبْيَةِ فَوَقَعَ فِيهَا رَجُلٌ وَتَعَلَّقَ بِآخَرَ ، وَتَعَلَّقَ الْآخَرُ بِآخَرَ ، حَتَّى صَارُوا أَرْبَعَةً ، فَجَرَحَهُمُ الْأَسَدُ فِيهَا فَهَلَكُوا ، وَحَمَلَ الْقَوْمُ السِّلَاحَ وَكَادَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ ، قَالَ فَأَتَيْتُهُمْ فَقُلْتُ : أَتَقْتُلُونَ مِائَتَيْ رَجُلٍ مِنْ أَجْلِ أَرْبَعَةِ إِنَاسٍ! تَعَالَوْا أَقْضِ بَيْنَكُمْ بِقَضَاءٍ ، فَإِنْ رَضِيتُمُوهُ فَهُوَ قَضَاءٌ بَيْنَكُمْ ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ رَفَعْتُمْ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ . فَجَعَلَ لِلْأَوَّلِ رُبُعَ الدِّيَةِ، وَجَعَلَ لِلثَّانِي ثُلُثَ الدِّيَةِ ، وَجَعَلَ لِلثَّالِثِ نِصْفَ الدِّيَةِ ، وَجَعَلَ لِلرَّابِعِ الدِّيَةَ ، وَجَعَلَ الدِّيَاتِ عَلَى مَنْ حَفَرَ الزُّبْيَةَ عَلَى قَبَائِلِ الْأَرْبَعَةِ ، فَسَخِطَ بَعْضُهُمْ وَرَضِيَ بَعْضُهُمْ ، ثُمَّ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَصُّوا عَلَيْهِ الْقِصَّةَ ، فَقَالَ : أَنَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ ، فَقَالَ قَائِلٌ : إِنَّ عَلِيًّا قَدْ قَضَى بَيْنَنَا . فَأَخْبَرُوهُ بِمَا قَضَى عَلِيٌّ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : الْقَضَاءُ كَمَا قَضَى عَلِيٌّ . فِي رِوَايَةٍ : فَأَمْضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَاءَ عَلِيٍّ ). روا أحمد وغيره ، وصحّحه أحمد شاكر برقم 573 ، وساق الحديث محتجاً به ابن القيّم كما في ( زاد المعاد 5/13، وإعلام الموقعين 2/58) ، والمجد كما في المنتقى (2/699).

3 –
كتاب عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما ، وفيه : ( لا يَمْنَعْكُ قَضَاءٌ قَضَيْتَهُ بِالأَمْسِ رَاجَعْتَ فِيهِ نَفْسَكَ وَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ أَنْ تُرَاجِعَ الْحَقَّ ، فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ وَمُرَاجَعَةَ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ ,.. الخ ) ، قال شيخ الإسلام رحمه الله في ( منهاج السنة 6/71 ) : ( ورسالة عمر المشهورة في القضاء ، إلى أبى موسى الأشعري ) ، وساق ابن القيّم كتاب عمر كما في ( إعلام الموقعين 1/85 ).

ويحسنُ بنا أن ندرك تحريراً لمحل النزاع أن الأحكام القضائية أمام النقض لا تخرج عن الأحوال التالية :


1 –
أن يكون الحكم موافقاً للنص القطعي ثبوتاً ودلالةً ، فهذا لا يجوز نقضه بحال ، لأن الأصل ألّا يُتقدم على النصّ. قال ابن القيم في ( إعلام الموقعين 1/155) : ( وَقَدْ أَقَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا عَلَى اجْتِهَادِ رَأْيِهِ فِيمَا لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، فَقَالَ شُعْبَةُ : حَدَّثَنِي أَبُو عَوْنٍ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ قَالَ : كَيْفَ تَصْنَعُ إنْ عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ ؟ قَالَ : أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؟ قَالَ : فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : أَجْتَهِدُ رَأْيِي لَا آلُو ، قَالَ : فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدْرِي ثُمَّ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ).

2 –
أن يكون الحكم على خلاف النص ، فهذا يجب نقضه ، ولا يجوز تأييده وإمضاؤه بحال ، وقد حكى الإجماع عليه ابن عبد البر في ( التمهيد 9/91 ) ، وقال العيني في ( عمدة القاري 24/261 ) : ( وهذا لا نعلم فيه خلافاً بين أهل العلم ).انتهى.

3 –
أن يكون الحكم عن اجتهاد سواء أكان في فهم النص وتطبيقه أم في القياس ، وهذا لا يجوز نقضه ، لأنه يؤدي إلى عدم استقرار الأحكام ، كما قرّره الزركشي في ( المنثور 1/39) والسيوطي في ( الأشباه والنظائر ص 101 ) ، كما إن النقض لو كان من قاضٍ آخــر كان محتوياً للاحتكام إلى اجتهاد آخر على خلاف ما أمر الله به ، وهو الاحتكام لكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)59 النساء. وقد حكى الإجماع على ذلك الخطيب البغدادي كما في ( الفقيه والمتفقه 2/65 ) والآمدي كما في ( الإحكام 4/203 ) والقرافي كما في ( الإحكام ص66-67 ).

ويشهد لذلك ما أورده ابن عبد البر في ( جامع بيان العلم وفضله 2/59) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لقي رجلاً فقال : ما صنعت ؟ ، فقال قضى عليٌّ وزيدٌ بكذا. فقال : لو كنت أنا لقضيتُ بكذا. فقال : فما يمنعك والأمــر إليك ؟ قال : لو كنت أردّك إلى كتاب الله أو إلى سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم لفعلتُ ، ولكني أردّك إلى رأيي والرأي مشترَك. انتهى ، قال ابن عبد البر : فلم ينقض ما قال عليٌّ وزيدٌ ، وهذا كثير لا يُحصى. انتهى.

كما تحسن الإشارة إلى أن من القواعد الفقهية أن الاجتهاد لا ينقض بمثله ، أو بالاجتهاد ، وحول القاعدة يقول الإمام الكرخي في ( تأسيس النظر ص 118 ) : ( الأصل أنه إذا مضى بالاجتهاد لا يُفسخ باجتهاد مثله ، ويُفســـــخ بالنص ). انتهى. ويُستثنى من الأحكام الاجتهادية الأحكام البيّن خطؤها ، كما لو كان الحكم لا دليل عليه ، أو يُخالف أصلاً عامّاً وقاعدة شرعيّة ، أو بخلاف شرط الواقف أو الموصي ، أو في سببه أو طريقه خطأ ، فهذا يُنقض لبطلانه ، كما قرّره غير واحد من أهل العلم ، منهم السيوطي كما في ( الأشباه والنظائر ص 105 ) وابن نجيم كما في ( الأشباه والنظائر ص 108 ).

ومحلّ النقض ما لم يتم تنفيذه من الأحكام ، أما ما نُفّذ فلا يُنقض ، ويشهد له قول عمر بن الخطاب رضي الله عــــــــنه : ( تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا يَوْمئِذٍ ، وَهَذِهِ عَلَى مَا قَضَيْنَا الْيَوْمَ ) والقصّة بتمامها عن الحكم بن مسعود الثقفي قال : قَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي امْرَأَةٍ تُوُفِّيَتْ وَتَرَكَتْ زَوْجَهَا وَأُمَّهَا وَأُخُوَّتَهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا وَأَخَوَيْهَا لِأُمِّهَا ، فَأَشْرَكَ عُمَرُ بَيْنَ الْأُخُوَّةِ لِلْأُمِّ وَالْأَبِ وَالْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ فِي الثُّلُثِ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : إنَّك لَمْ تُشْرِكْ بَيْنَهُمْ عَامَ كَذَا وَكَذَا ، قَالَ عُمَرُ : تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا يَوْمئِذٍ ، وَهَذِهِ عَلَى مَا قَضَيْنَا الْيَوْمَ ; فَأَخَذَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي كِلَا الِاجْتِهَادَيْنِ بِمَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ الْحَقُّ ) ، قال ابن القيّم تعليقاً على قول عمر رضي الله عنه كما في ( إعلام الموقعين 1/88 ) : (ولم يمنعه القضاء الأول من الرجوع إلى الثاني ، ولم ينقض الأول بالثاني ، فجرى أئمة الإسلام بعده على هذين الأصلين ).انتهى.

ولقد سارت بلاد المسلمين على تخصيص محاكم لتدقيق الأحكام كما أشار لشيء من تاريخ ذلك الشيخ عبد الله بن خنين في ( الكاشف 2/190 ) وقال الشيخ مصطفى الزرقا في ( المدخل الفقهي العام 1/108 ، والاستصلاح 37-52 ) : ( وفي تدقيق الأحكام ومراجعتها ، ومن ثم إمضاؤها إن كانت صواباً أو نقضها إذا خالفت ذلك ، وجعْل محكمة مخــتصّة بذلك ، حفظٌ للحقوق ، وتلافٍ للخطأ في الأحكام ، فمصلحته ظاهرة ، فناسب شرعيّته ). انتهى.
وبالله التوفيق.


سلطان بن عثمان البصيري
المدينة المنورة
12/8/1433هـ

 

سلطان البصيري
  • مقالات ورسائل
  • الصفحة الرئيسية