الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من
لا نبي بعده
فقد كنتُ علَّقت على مواضع من فتاوى الشيخ الألباني رحمه الله في مجلة "
الأصالة " في أوائل نشوئها ، ولم تنشر هذه التعليقات في وقتها لأسباب قد ظهرت
في الآونة الأخيرة ما كان ليصدقها أحد لو سمع بها ! وقد يسَّر الله سبحانه
وتعالى أن أطلعت الشيخ الألباني – رحمه الله – عليها فطلب رحمه الله أن ينظر في
السؤال والجواب ، وأخبرني أنه لا علم له بما يُنشر في المجلة باسمه !! وأن هذا
عبارة عن تفريغ لبعض أشرطته القديمة ، ويظهر " التجار " !! للناشئة أن الأجوبة
من جديد الشيخ ، ويبعث أولئك بأسئلتهم ليتابعوا شراء المجلة !!
والتجارة باسم الشيخ ليس جديداً على من رقَّ دينه وقلَّ ورعه ، فهو قديم مستمر
، والأمثلة عليه كثيرة كُشف أمرها للقريب من " التجار " قبل البعيد .
هذا ويوجد مواضع أخرى تحتاج لتعقب
وتوضيح ، فهي إما وهم من الشيخ وإما خطأ من الناقل .
وبهذه المناسبة أبين أمراً مهما وهو
ضرورة التحذير من كل ما سيصدر لشيخنا الألباني – رحمه الله – من فتاوى المجالس
والأشرطة ، حيث أن الشيخ لم يكن يأذن بذلك في حياته وقد عتب على من فعل ذلك
فأصدر كتبا فيها نقل من أشرطته ، وقد أخبرني من كان يعمل في نسخ أشرطته في
حياته وأنه عرض العمل على الشيخ الألباني فرفض العمل ولم يأذن به .
وقد أخبرني من يعمل في نسخها مع بعض "
التجار " أنه أُذن لهم بالتصرف كما يشاؤون في كلام الشيخ الألباني رحمه الله !
وقال لي : أنا – مثلاً – رأيت له كلاما في ذم بعض الناس وآخر في مدحهم فحذفت
الكلام في ذمهم وجعلت ما في مدحهم هو الذي يُنشر !!
وحدَّثني بعض طلبة العلم أنه عرض على
شيخنا الألباني كلام له قديم في " العقيدة " يتعلق بـ " كلام الله " فأنكره ،
فقيل له : هو من كلامك ! فأصرَّ على النفي حتى أسمعوه إياه على الهاتف ، فشدَّد
الشيخ على ضرورة عدم نشر أي شيء إلا بعد أن ينظر فيه بنفسه .
وقد استأذنته في نشر شرحه على " الأدب
المفرد " فقال : لا بدَّ من أراه فالعلم يتجدد ، وقد أكون تراجعت عن شيء قلته
قديما ، وتغير رأيي فيه .
تنبيه :
فقدت هذه الأوراق بعد كتابتها بفترة ،
ثم وجدتها حديثاً بعد رحيلي لمنزل آخر .
والله المستعان
1. الموضع الأول : ( في العدد الثاني :
التاريخ 15/جمادى الآخرة/1413هـ” .
السؤال الموجه لشيخنا حول "تحديد النسل"
الجواب
فيه قوله – حفظه الله – “ .. وهو القدَر الذي يتصرف بالإنسان كيف يشاء لا كيف
شاءوا هم “ أ.هـ
التعقيب :
"القدَر" أمر معنوي ، أو هو من أفعال الله عز وجل لا يوصف بمشيئة ولا بإرادة .
وقد ذكر الله عز وجل في كتابه الكريم الإرادة والمشيئة لمن كان قابلا لهما حتى
لو كان ذلك من الجمادات ، فمن ذلك مثلا
في "الإرادة" :
أ -
{يريد الله ليبين لكم } و {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} .
ب -
{منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة} .
ت -
{من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف … } .
ث -
{فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض} .
وفي "المشيئة" :
أ -
{ولو شاء الله ما اقتتلوا} .
ب -
{فأذن لمن شئت منهم} .
ت -
{قال لو شئت لاتخذت عليه أمراً} .
ث -
{وما تشاءون إلا أن يشاء الله} .قال
الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله - :
وقد وقع في سؤالك كلمة يجب التنبيه
عليها وهي قولك " شاءت الأقدار " ، والأقدار لا مشيئة لها ، والصواب أن يقال "
شاء الله وحده " أو " شاء الله سبحانه " ونحو ذلك . " فتاوى إسلامية " ( 4 /
155 ) .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
“ لا يصح أن نقول " شاءت قدرة الله " ؛ لأن المشيئة إرادة ، والقدرة معنى ،
والمعنى لا إرادة له ، وإنما الإرادة للمريد والمشيئة للشيء ، ولكننا نقول :
اقتضت حكمة الله كذا …. ومثل ذلك قولهم " شاء القدر كذا وكذا" ، وهذا لا يجوز
لأن القدر والقدرة أمران معنويات ولا مشيئة لهما، وإنما المشيئة لمن هو قادر
ولمن هو مقدر ، والله أعلم .”
" مجموع فتاوى ابن عثيمين " ( 1/128 ) .
2. وأما الموضع الثاني فهو في العدد 15
، 16 التاريخ 15/ ذو القعدة/1415هـ
السؤال الموجه لشيخنا رحمه الله:
“ امرأة حامل أفطرت النصف الأول في رمضان وبنية أنه ليس عليها قضاء، وإنما
الفدية فقط حسب فتوى ابن عباس رضي الله عنه ثم نفست النصف الثاني من رمضان …
فهل يجب عليها قضاء أيام النفاس التي أفطرتها ؟ وإذا كانت اعتبرت نفسها مرضعا
أثناء فترة النفاس، فهل يسقط عنها وجوب القضاء بناء على الحديث السابق - أي :
"إن الله وضع الصوم عن الحامل والمرضع" – ؟ أ.هـ
وكان جواب شيخنا رحمه الله:
“ إذا وافق أنها صارت بنفاسها مرضعاً : فالجواب كما كان وضعها وهي حامل ، ليس
عليها قضاء !! وإنما عليها الفدية.” أ.هـ
التعقيب:
إن الشريعة حرَّمت على هذه النفساء
وأختها الحائض أن تصوما ، قال صلى الله عليه وسلم - كما في البخاري من حديث أبي
سعيد - “ أليست إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ فذلك نقصان دينها “.
إذن ؛ لا ينبغي أن نجعل حال هذه المرأة
وهي نفساء في النصف الثاني من رمضان—حتى لو كانت مرضعا – كحالها في أوله وهي
طاهر يجب في حقها الصيام، لكن الصيام رُفع - كما رجحه شيخنا رحمه الله - لوجود
المشقة لا لوجود مانع شرعي وبينهما فرق عظيم.
وإن الذين أفتوا للمرضع أن تفدي من غير
قضاء كابن عباس وابن عمر – رضي الله عنهم - لم يجعلوا ذلك - قطعا بلا ريب -
للنفساء المرضع ، بل للمرضع فقط وللحامل فقط – لأنه قد يطرأ حيض على الحامل
ونفاس على المرضع -.
ولنتأمل في فتياهم كما نقلها عنهم شيخنا
في " إرواء الغليل" 4/18-19 مصححا ذلك عنهما:
أ .
قال ابن عباس " إذا خافت الحامل على نفسها،
والمرضع على ولدها في رمضان قال: يفطران ويطعمان مكان كل يوم مسكينا ولا يقضيان
صوما."
ب .
وقال ابن عمر " الحامل والمرضع تفطر ولا تقضي " .
فالملاحظ في هذه الآثار أن فتوى " الإفطار" و " الإطعام " توجهت للحامل والمرضع
اللتين وجب عليهما الصيام - والمعلوم أن الحيض والنفاس مانع للوجوب - لا
لغيرهما كالحائض والنفساء ، فإنه لم يترتب في حقهما صيام حتى يتوجه إليهما "
جواز إفطار وإطعام أو عدمه"!!
قال الشيخ الألباني رحمه الله :
“ ويزيده تأييداً أن ابن عباس أثبت هذا الحكم للحبلى والمرضع إذا خافتا، ومن
الظاهر جدّاً أنهما ليستا كالشيخ والشيخة في عدم الاستطاعة بل إنهما
مستطيعتان!! ولذلك قال لأم ولد له مرضع!! : أنت بمنزلة الذي لا يطيق “ أ.هـ
" الإرواء " ( 4/24” .
فقوله
" مستطيعتان " يدل على الوجوب والقدرة ، لذا كان الصواب – ولله أعلم – عدم جواز
قياس حال المرضع – وهي نفساء على الحامل – وهي طاهر – لظهور الفرق البين بينهما!!.
وعليه فيقال لهذه النفساء - التي حرم عليها الصوم بمجرد وضعها لجنينها وقبل
وجود اللبن في ثدييها، بل وقبل إفاقتها ! إنه ترتب في ذمتك صوم النصف الثاني من
رمضان وعليك القضاء.
والعجيب أنه جاء في سؤال للشيخ رحمه قبل
ذلك سؤال يشبهه جدّاً، واختلفت الإجابة عما سبق :
السؤال “
امرأة عليها قضاء أيام من رمضان الماضي بسبب الحيض!! والآن هي حامل!! ورمضان
وشيك القدوم، ولا تستطيع أن تقضي إلا بعد انقضاء شهر رمضان القادم، فكيف تتصرف؟
“.
وكان جواب شيخنا – رحمه الله –
“ إذا كان بإمكانها قضاء أيام رمضان المترتبة عليها بعد رمضان فتفطر!! وتقضيهما
فيما بعد، بمعنى : وجوب القضاء على التراخي ، المهم تبرئ ذمتها من هذه الفريضة
… أما إذا لم تكن حاملا ولا مرضعا وفاتها أيام من رمضان بسبب الحيض : فيعليهما
القضاء ، وإذا اتصل معها الحمل والرضاع فيجوز أن تفطر ثم تقضي!! بدون فدية ولا
كفارة” أ.هـ
قلت:
وما هاهنا هو الذي لا ينبغي غيره .
فأي فرق بين هذه المرأة التي أوجب عليها الشيخ القضاء لأنها كانت حائضا في
رمضان وتلك التي أوجب عليها الفدية وهي نفساء في رمضان!!؟ اللهم لا فرق ولعل في
جواب الشيخ خطأ من الناقل أو الناسخ أو الطابع ، والله أعلم.
3. الموضع الثالث: عدد 6 ، التاريخ
15/صفر/1414هـ
السؤال “ إذا بلغت الفتاة سن الزواج،
فهل لوليها أن يجبرها على الزواج؟” أ.هـ
وكان جواب شيخنا رحمه الله :
“ لا يجوز لولي أمر الفتاة أن يجبر البنت على الزواج ، فلو كانت غير بالغة
وأجبرت على الزواج لها أن تطلب الفسخ بعد أن تعقل وتبلغ ؛ لأن فتاة زوجت رغم
أنفها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعد الزواج جاءت إلى الرسول صلى
الله عليه وسلم ، وقالت له : يا رسول الله ، إن والدي زوجني برجل أكرهه ليرفع
به خسيسته!! ( أي ليرفع جاهه ومنزلته بصهره “ فرد الرسول صلى الله عليه وسلم
نكاحها.
فلذلك لا يجوز لولي البنت أن يكره بنته على الزواج سواء كانت بالغة سن الرشد أم
مطلقة أم تزوجت ثم تأيمت وإنما عليه أن يدلها على ما هو أنفع لها في دنياها
وآخرتها ، قال صلى الله عليه وسلم: " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل " ، وقال : "
لا تكرهوا نساءكم ، ولكن استأذنوهن " ، وقال : " إذنها صماتها " …” أ.هـ
التعقيب:
1. أما أنه لا يجوز للولي أن يجبر ابنته
غير البالغة على الزواج : ففيه نظر، ومثله – وهو له تابع – أنه يحق لها طلب فسخ
النكاح بعد أن تعقل وتبلغ!!
وهاكم التفصيل:
أ .
قال الله عز وجل { واللائي يئسن من المحيض من
نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } .
والملاحظ في هذه الآية
: أن الله تعالى جعل للتي لم تحض – بسبب صغرها
وعدم بلوغها – عدة لطلاقها وهي ثلاثة أشهر وهذا أبلغ دليل على أن الله تعالى
جعله زواجا معتدا به.
- قال الطبري رحمه الله:
“ تأويل الآية: { واللائي يئسن من المحيض… فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن}
يقول: وكذلك عدة اللائي لم يحضن من الجواري لصغرهن إذا طلقهن أزواجهن بعد
الدخول “ .
( 14/142 ) ومثله قال ابن كثير ( 4/402}، والقرطبي ( 18/165 ) وغيرهما.
- قال شيخ الإسلام
المرأة لا ينبغي لأحد إن يزوجها إلا بإذنها كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم
فإن كرهت ذلك لم تجبر على النكاح إلا الصغيرة البكر ، فإن أباها يزوجها ولا إذن
لها ، وأما البالغ الثيب فلا يجوز تزويجها بغير إذنها لا للأب ولا لغيره بإجماع
المسلمين ، وكذلك البكر البالغ ، ليس لغير الأب والجد تزويجها بدون إذنها
بإجماع المسلمين” أ.هـ
" مجموع الفتاوى " ( 32/39-40 ) .
ب .
“ تزوج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وهي بنت ست سنين وبنى بها وهي بنت تسع
سنين “ رواه البخاري ومسلم وعنده "سبع سنين" .
قال النووي :
“ كان لها ست وكسر، ففي رواية اقتصرت
على السنين وفي رواية عدت السنة التي دخلت فيها “ .
" شرح مسلم " ( 9/207 ) .
قال ابن عبد البر :
“ أجمع العلماء على أن للأب أن يزوج
ابنته الصغيرة ولا يشاورها، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة بنت
أبي بكر وهي صغيرة بنت ست سنين أو سبع سنين أنكحه إياها أبوها “ أ.هـ
" الاستذكار " ( 16/49-50 ) .
قلت:
وقد جمع الإمام البخاري رحمه الله بين الدليلين
فقال: ( باب إنكاح الرجل ولده الصغار لقوله تعالى : { واللائي لم يحضن } ، فجعل
عدتهما ثلاثة أشهر قبل البلوغ ) ، ثم روى حديث تزويج النبي صلى الله عليه وسلم
عائشة وهي بنت ست سنين!!
قال ابن بطال :
“ وفيه - أي : حديث عائشة – أن النهي عن
إنكاح البكر حتى تستأذن مخصوص بالبالغ حتى يتصور منها الإذن ، وأما الصغيرة فلا
إذن لها “ أ.هـ
" فتح الباري " ( 9/238 ) ط العلمية.
قال ابن حجر :
“ والبكر الصغيرة يزوجها أبوها اتفاقاً
إلا من شذ “ .
" الفتح " ( 9/239 ) .
وقوله " من شذ " يشير به إلى " ابن شرمة " الذي عدَّ ذلك من خصائصه صلَّى الله
عليه وسلم ، والرد عليه :
بقوله تعالى { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } - كما قال ابن حزم في "
المحلى " ( 9/40 ) .
وبـ " أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة " .
وبـ " أن الأصل في أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم التشريع العام للأمة لا
الخصوصية إلا بدليل ، قال ابن القيم : “ دعوى الخصوصية لا تسمع إلا بدليل “ .
وبـ " أن هذا هو فعل الصحابة من بعده صلى الله عليه وسلم ونقل فيه الإجماع كما
تقدم ويأتي .
وقال ابن حزم :
وللأب أن يزوج ابنته الصغيرة البكر - ما
لم تبلغ – بغير إذنها ، ولا خيار لها إذا بلغت ، فإن كانت ثيباً من زوج مات
عنها أو طلَّقها : لم يجز للأب ولا لغيره أن يزوجها حتى تبلغ ، ولا إذن لها قبل
أن تبلغ … " .
" المحلى " ( 9 / 38 ) ط العلمية .
وقال الشوكاني :
والمراد بالبكر التي أمر الشارع
باستئذانها أنها هي البالغة ، إذ لا معنى لاستئذان الصغيرة فإنها لا تدري ما
الإذن " .
" نيل الأوطار " ( 6 / 122 ) .
ج.
زوَّج الزبير بن العوام ابنته لـ " قدامة بن مظعون " حين نفست بها أمها ، كما
رواه سعيد بن منصور ( 1/175 ) وابن أبي شيبة في " مصنفه " ( 4/345 ) عن هشام بن
عروة عن أبيه.
د.
نُقل الإجماع على جواز تزويج الأب البكر الصغيرة - على الأقل إجماع الصحابة -
وممن نقل الإجماع : الإمام أحمد في " المسائل " - رواية صالح – ( 3/129 )
والمروزي في " اختلاف العلماء " ( ص 125 ) ، وابن المنذر في " الإجماع " ( ص91
) وابن عبد البر في " التمهيد "، والبغوي في " شرح السنة "( 9/37 ) والنووي في
" شرح مسلم " ( 9/206 ) وابن حجر في" الفتح " ( 12/27 ) ، والباجي في " المنتقى
" ( 3 / 272 ) ، وابن العربي في " عارضة الأحوذي " ( 5 / 25 ) ، والشنقيطي في "
مواهب الجليل " ( 3 / 27 ) .
والخلاف في هذا شاذ لا يعتد به كما قال الحافظ ابن حجر.
ملاحظة:
نقلت هذا كله – أي : نقطة " د " - عن مقال للدكتور عبد الله بن عبد العزبز
الجبرين في مقال له حول هذا الموضع في " مجلة البحوث الإسلامية " ( عدد 33 ، ص
251 ) ، واستفدت منه فيما سبق بيانه.
2.
أما قول الشيخ رحمه الله : “ فلها أن تطلب الفسخ بعد أن تعقل وتبلغ “، فيرد
عليه : بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخيِّر عائشة رضي الله عنها لما بلغت ،
كما خيَّر نساءه لما نزلت آية التخيير ، ولأن الأصل في عقد النكاح عدم الخيار.
3.
أما الحديث الذي استدل به الشيخ رحمه الله فليس فيه دلالة لما ذهب إليه ، لأنه
ليس في الحديث أنها " زوجت صغيرة " فلما بلغت " طلبت الفسخ " البتة ، وقد ورد
ما يؤيد أن طلب الفسخ إنما يكون لمن تزوجت مكرهة إذا كانت بكراً أو ثيِّباً.
أ.
روى البخاري: أن خنساء بنت خدام زوَّجها أبوها وهي كارهة ، وكانت ثيبا!! فأتت
رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها . وبوَّب عليه البخاري بقوله : ( باب
إذا زوَّج الرجل ابنته وهي كارهة فنكاحه مردود ) .
قال الحافظ :
” هكذا أطلق فشمل البكر والثيب ، لكن
حديث الباب مصرَّح فيه بالثيوبة ، فكأنه أشار إلى ما ورد في بعض طرقه كما
سأبينه ، ورد النكاح إذا كانت ثيبا فزوجت بغير رضاها : إجماع إلا ما نقل عن
الحسن أنه أجاز إجبار الأب للثيب ولو كرهت “ .
" الفتح " ( 9/243 ) .
قلت:
دفاع الحافظ عن كونها ليست بكراً ليس ذا فائدة، لأننا نثبت أن للثيب والبكر
والرشيدة حق الفسخ إذا زوجت بالإكراه ، وقد ورد ما يدل على ذلك وهو :
ب.
حديث ابن عباس: أن جارية بكراً أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له أن أباها
زوَّجها وهي كارهة، فخيَّرها النبي صلى الله عليه وسلم .
رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد وصححه ابن القيم في " تهذيب السنن " ( 3/40 ) .
قال ابن القيم :
“ وهذه غير خنساء ، فهما قضيتان قضى في
إحداهما بتخيير الثيب وقضى في الأخرى بتخيير البكر “ .
" الزاد " ( 5/95 ) .
وقال ابن تيمية :
“ والصحيح : أن مناط الإجبار هو الصغر ،
وأن البالغ لا يجبرها أحد على النكاح … وأيضاً : فإن الأب ليس له أن يتصرف في
مالها إذا كانت رشيدة إلا بإذنها وبضعها أعظم من مالها ، فكيف يجوز أن يتصرف في
بضعها مع كرامتها ورشدها ، وأيضاً : فإن الصغر سبب للحجر بالنص والإجماع ، وأما
جعل البكارة موجبة للحجر فهذا مخالف لأصول الإسلام… “ .
" مجموع الفتاوى " ( 3/23 ) .
4.
وأما ما ذكره الشيخ رحمه الله من الأحاديث فهي: إما للبكر البالغة أو للثيب.
أ.
قال صلى الله عليه وسلم: “ لا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا يا رسول الله وكيف
إذنها؟ قال: أن تسكت “ متفق عليه .
قال ابن حزم :
“ الاستئذان لا يكون إلا للبالغ العاقل
للأثر الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم:" رفع القلم عن ثلاث؛ – فذكر فيهم
الصغير حتى يبلغ – " . " المحلى " ( 9/40 ) .
ب.
وفي صحيح مسلم " البكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها " .
ج.
وفي مسلم أيضا: " الأيم أحق بنفسها من وليها ، والبكر يستأذنها أبوها " .
وفي البخاري ومسلم " لا تُنكح المرأة حتى تستأمر ولا تُنكح البكر حتى تستأذن "
.
ومعنى قوله : " الأيم .. " : أي " أنه – أي : وليُّها - لا ينفذ عليها أمره
بغير إذنها ولا يجبرها فإذا أرادت أن تتزوج لم يجز لها إلا بإذن وليها “ قاله
الحافظ في " الفتح " ( 9/243 ) .
ومعنى " تستأمر " : أي : " لا يعقد عليها حتى يطلب الأمر منها " ، قاله
الشوكاني في " النيل " ( 6/122)
والله أعلم بالصواب.
(( فائدة متممة )) :
ولا يلزم من تزوج الصغيرة جواز وطئها ،
بل لا توطأ إلا إن صارت مؤهلة لذلك ؛ ولذلك تأخر دخول النبي صلى الله عليه وسلم
على عائشة رضي الله عنها .
قال النووي :
وأما وقت زفاف الصغيرة المزوجة والدخول
بها : فإن اتفق الزوج والولي على شيء لا ضرر فيه على الصغيرة : عُمل به ، وإن
اختلفا : فقال أحمد وأبو عبيد : تجبر على ذلك بنت تسع سنين دون غيرها ، وقال
مالك والشافعي وأبو حنيفة : حدُّ ذلك أن تطيق الجماع ، ويختلف ذلك باختلافهن ،
ولا يضبط بسنٍّ ، وهذا هو الصحيح ، وليس في حديث عائشة تحديد ولا المنع من ذلك
فيمن أطاقته قبل تسع ولا الإذن فيمن لم تطقه وقد بلغت تسعا ، قال الداودي :
وكانت عائشة قد شبَّت شباباً حسناً رضى الله عنها . " شرح مسلم " ( 9 / 206 ) .
والمستحب أن لا يزوج الوليُّ ابنته وهي صغيرة إلا إذا كانت هناك مصلحة من ذلك .
قال النووي :
واعلم أن الشافعي وأصحابه قالوا : يستحب
أن لا يزوِّج الأب والجد البكر حتى تبلغ ويستأذنها لئلا يوقعها في أسر الزوج
وهي كارهة ، وهذا الذي قالوه لا يخالف حديث عائشة ؛ لأن مرادهم أنه لا يزوجها
قبل البلوغ إذا لم تكن مصلحة ظاهرة يخاف فوتها بالتأخير كحديث عائشة ، فيستحب
تحصيل ذلك الزوج لأن الأب مأمور بمصلحة ولده فلا يفوتها ، والله أعلم . " شرح
مسلم " ( 9 / 206 ) .