الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
قال الشيخ عبد الله علوان في " تربية الأولاد في الإسلام " في (ص493) [ د-...
ضاق صدر الخديوي بذلك، فركب يوماً مع شريف باشا وهو محرج، فأراد أن يفرِّج عن
نفسه، فقال الشريف باشا: ماذا تصنع حينما تُلمُّ بك مُلمَّة تريد أن
تدفعها؟فقال: يا أفندينا، إن الله عودني إذا حاق بي شيء من هذا أن ألجأ إلى "
صحيح البخاري"! يقرؤه لي علماء أطهار الأنفاس فيفرج الله عني … فجمع له من
صلحاء العلماء جمعاً أخذوا يتلون في "البخاري" أمام القبلة القديمة في الأزهر…]
قلت:
نقل المصنِّف هذه الخرافة من غير أن يعلِّق عليها؛ مما يدل على رضاه بما فيها
مِن ضلالٍ، وبدعة التوسل بصحيح البخاري، وهي التي رَوَّج لها – في العصور
المتأخرة – الصوفيَّة الجهلة ، وقد اشتدَّ نكير أهل السُّنَّة في إنكارها، وممن
ذكرها من المتصوفة:
أ.
ابن أبي جمرة - أحد شرَّاح صحيح البخاري - حيث قال: قال لي مَن لقيتُ مِن
العارفين! عمَّن لقيه من السادة المُقَرِّ لهم بالفضل! : أنَّ " صحيح البخاري"
ما قُرئ في شدَّةٍ إلا فُرجت، ولا رُكب به في مركبٍ إلا نجت! .أ.هـ ذكرها
الحافظ ابن حجر في "مقدمة الفتح" (ص14) ولم يتعقبها بشيء! .
قلت: وفي رواية " ولا رُكب به في مركب فغرقتْ! "، وتمعن في إسناد ابن أبي جمرة
-"سلسلة المجاهيل"-: مَن لقيتُ عمَّن لقيه عمَّن لقيه.
ب.
تقي الدين السبكي حيث قال - في ترجمة البخاري -: وأمَّا "الجامع الصحيح" وكونه
ملجأً للمعضلات، ومجرَّباً لقضاء الحوائج فأمرٌ مشهورٌ! ولو اندفعنا في ذكر
تفصيل ذلك، وما اتفق فيه لطال الشرح. أ.هـ"طبقات الشافعية الكبرى" (2/234).
= وقد
ردَّ على هذه الخرافة أهلُ السُّنَّة الموحدون، الذين أكرمهم الله بالبعد عن
الخرافات، وننقل للقارئ أقوالهم:
1. قال أبو الفضل المباركفوري
(1) : ونحن نرى خلاف ذلك، نرى أنَّ
شفاء المرضى، ودفع الشدائد، ونجاة المراكب بمن فيها… ليست مِن وظائف صحيح
البخاري، ولا دواعي وجوده، أو قراءته، فإنَّ وجوده بالمراكب لا يمنعها مِن
الغرق، ووجوده في البيوت لا يمنعها مِن الحريق. . . والوقائع الدالة على ذلك لا
تحصى نقلاً ، ولا عقلاً، وإنَّه لو صحَّ ما قاله الشيخ ابن أبي جمرة لكان
"المصحف" - كتاب الله- أولى بِهذه الخصائص منه، بل بأكثر منها، ولا جدال في ذلك
وإن استعظمه المستعظمون، إنَّما الحرص على "صحيح البخاري" وموالاة قراءته
فللعمل بما فيه مِن فرائض الدين ونوافله، اتِّباعاً لنبيِّنا الكريم، وتأسِّياً
به صلوات الله عليه وسلامه...
والذي نحن به موقنون: أنَّ مَن ينجي المراكب في البرِّ والبحر، ويشفي المرضى في
الليل والنهار، ويكشف الكربات، ويغيث المضطرين… ليس إلا الله سبحانه… القريب
المجيب، بمحض فضله، ومشيئته وحده، واستجابة لمن دعاه من الصالحين، بقلبٍ سليمٍ،
ولسانٍ مبينٍ.
قضاء الحاجات، وكشف الكربات، ونجاة المراكب، ليست إذن لوجود "صحيح البخاري"، أو
سواه، في البيت، أو المركب، ولا بتعليق الحجب، والتمائم في الأعناق والآباط؛
إنما هي مقادير تجري وفق مشيئة الله سبحانه بعد الأخذ بالأسباب الصحيحة
المعلومة للنَّاس...
ولهذا نذهب - بكل الاطمئنان - إلى القول بأنَّ وجود "صحيح البخاري"، أو سواه،
في مركب لا ينجيها مِن الغرق والحريق، وأنَّ قراءته لقضاء الحاجات، ودفع
البليات، وكشف الكربات، وشفاء المرضى... الخ، ليس هو الترياق
(2) …أ.هـ"مقدمة تحفة الأحوذي" (ص 90-92).
2. كتب بعض الأزهريين - مِن أهل السنَّة -
مقالاً ساخراً سماه " بماذا دفع العلماء نازلة
الوباء ؟!" – وقد نقله برمَّته العلامة جمال الدين القاسمي في كتابه "قواعد
التحديث" وكان مما قاله فيه:
دفعوها يوم الأحد الماضي في الجامع الأزهر بقراءة متن "البخاري"، موزعاً كراريس
على العلماء، وكبار المرشحين للتدريس، في نحو ساعة، جرياً على عادتهم من إعداد
هذا المتن أو السلاح الجبري! لكشف الخطوب، وتفريج الكروب، فهو يقوم عندهم في
الحرب: مقام المدفع والصارم والأسل (3) ! وفي الحريق: مقام
المضخة والماء! وفي الهيضة (4) : مقام الحيطة الصحيحة،
وعقاقير الأطباء! وفي البيوت: مقام الخفراء والشرطة! ... وإذا كان هذا السرُّ
العجيب جاء مِن جهة أنَّ المقرر حديث نبوي، فلِمَ خُصَّ بِهذه المزية مؤلَّف
"البخاري"؟! ولِمَ لَمْ يَجُز في هذا " موطأ مالك" وهو أعلى كعباً وأعرق نسباً
وأغزر علماً ؟!…
وإذا جَرَوْا على أنَّ الأمرَ مِن وراء الأسباب؛ فلِمَ لا يقرؤُه العلماء لدفع
ألم الجوع، كما يقرؤونه لإزالة المغص، أو القيء، أو الإسهال ؟!... فإنَّا نعلم
أنَّه -أي: صحيح البخاري- قرئ للعرابيين في واقعة " التل الكبير " -وهي في مصر-
فلم يلبثوا أنْ فشلوا، ومُزِّقوا شرَّ ممزَّقٍ... أمَّا أنا فلا أزال أُلِحُّ
في طلب الجواب الشافي عن أصل دفع الوباء بقراءة الحديث، وعن منح "متن البخاري"
مزيةً لم يُمنَحْها "كتاب الله" الذي نعتقد أنَّه متعبَّد بتلاوته دون
الحديث...أ.هـ"قواعد التحديث" (ص 264-267).
الأسباب وموقف المسلم منها:
قلت:
وينبغي للمسلم أنْ يعلَم حقيقة "الأسباب" في التوحيد، وسأذكر ما تيسر مِن أقوال
أئمَّتنا في ذلك.
أ.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ولهذا قال طائفةٌ مِن العلماء، الالتفاتُ إلى
الأسباب شركٌ في التوحيد، ومحوُ الأسبابِ أنْ تكون أسباباً؛ نقصٌ في العقل،
والإعراضُ عن الأسباب بالكليَّةِ قدحٌ في الشرع، وإنَّما التوكل المأمور به: ما
اجتمع فيه مقتضى التوحيد، والعقل، والشرع.أ.هـ"مجموع الفتاوى" (10/35).
ب.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: يجب على العبد أن يعرف في الأسباب
ثلاثة أمورٍ:
الأول:
ألاَّ يجعل منها سبباً؛ إلاَّ ما ثبت أنَّه سببٌ شرعاً، أو قدراً.
الثاني:
أنْ لا يَعتمد العبدُ عليها، بل يعتمد على مسبِّبها، ومقدِّرها، مع قيامه
بالمشروع منها، وحرصه على النَّافع منها.
الثالث:
أنْ يعلم أنَّ الأسباب مهما عظمت، وقويت؛ فإنَّها مرتبطةٌ بقضاء الله وقدره لا
خروجَ لها عنه.أ.هـ"القول السديد شرح كتاب التوحيد" (ص 34).
ج.
وقال الشيخ محمد الصالح بن عثيمين حفظه الله: والنَّاس في الأسباب: طرفان ووسط.
الأول:
مَن يُنكر الأسباب، وهم كل مَن قال بنفي حكمة الله كالجبريَّة، والأشعريَّة.
الثاني:
مَن يغلو في إثبات الأسباب حتى يجعلوا ما ليس بسببٍ سبباً؛ وهؤلاء هم عامَّة
الخرافيين مِن الصوفيَّة، ونحوهم.
الثالث:
مَن يؤمن بالأسباب وتأثيراتِها، ولكنَّهم لا يثبتون مِن الأسباب إلا ما أثبته
الله سبحانه، ورسوله سبباً شرعيّاً أو كونيّاً أ.هـ "القول المفيد"
(1/159-160).
والله أعلم
======
الهوامش
(1) وهو يردُّ بذلك على ابن
أبي جمرة، وغيره، ممن ذكرهم صاحب "تحفة الأحوذي" - ولم ينكر عليهم، بل أقرهم!
(2) وكيف يكون صحيح البخاري ترياقاً وقد أصاب صاحبَه نفسَه
-أي الإمام البخاري- ما أصابه من الشدائد، والغمِّ، والهمِّ، حتى إنَّه سأل
الله أن يقبضه إليه!؟ ، ثمَّ يزعم الزاعمون أنَّ "الصحيح" يفرج الهموم ويحفظ
المراكب!
(3) الأسل: الرماح والنبل.
(4) الهيضة: المرضة بعد المرضة.