قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله :
الموالاة في الوضوء فيها ثلاثة أقوال:
أحدها:
الوجوب مطلقا كما يذكره أصحاب الإمام أحمد ظاهر مذهبه وهو القول القديم للشافعي
وهو قول في مذهب ...(بياض بالأصل).
والثاني:
عدم الوجوب مطلقا كما هو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد والقول الجديد للشافعي.
والثالث:
الوجوب إلا إذا تركها لعذر مثل عدم تمام الماء كما هو المشهور في مذهب مالك وهو
قول في مذهب …(بياض بالأصل).
قلت :
هذا القول الثالث هو الأظهر والأشبه بأصول الشريعة وبأصول مذهب أحمد وغيره،
وذلك أن أدلة الوجوب لا تتناول إلا المفرط لا تتناول العاجز عن الموالاة
فالحديث الذي هو عمدة المسألة الذي رواه أبو داود وغيره عن خالد بن معدان عن
بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " أنه رأى رجلا يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر
الدرهم لم يصبها الماء فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء والصلاة"
فهذه قضية عين والمأمور بالإعادة مفرط لأنه كان قادرا على غسل تلك اللمعة كما
هو قادر على غسل غيرها وإنما بإهمالها وعدم تعاهده لجميع الوضوء بقيت اللمعة
نظير الذين كانوا يتوضئون وأعقابهم تلوح فناداهم بأعلى صوته "ويل للأعقاب من
النار" وكذلك الحديث الذي في صحيح مسلم عن عمر أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على
قدمه فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ارجع فأحسن" وضوءك فرجع ثم صلى
رواه مسلم.
فالقدم كثيراً ما يفرط المتوضئ بترك استيعابها حتى قد اعتقد كثير من أهل الضلال
إنها لا تغسل بل فرضها مسح ظهرها عند طائفة من الشيعة والتخيير بينه وبين الغسل
عند طائفة من المعتزلة الذين لم يوجبوا الموالاة عمدتهم في الأمر حديث ابن عمر
أنه توضأ موالاة لفقد تمام الماء وأصول الشريعة تدل على ذلك قال تعالى { فاتقوا
الله ما استطعتم } وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه
ما استطعتم".
والذي لم يمكنه الموالاة لقلة الماء أو انصبابه أو اغتصابه منه بعد تحصيله أو
لكون المنبع أو المكان الذي يأخذ منه هو وغيره كالأنبوب أو البئر لم يحصل له
منه الماء إلا متفرقا تفرقا كثيرا ونحو ذلك لم يمكنه أن يفعل ما أمر به إلا
هكذا بأن يغسل ما أمكنه بالماء الحاضر وإذا فعل ذلك ثم غسل الباقي بماء حصله
فقد اتقى الله ما استطاع وفعل ما استطاع مما أمر به يبين ذلك أنه لو عجز عن غسل
الأعضاء بالكلية لعدم الماء لسقط عنه ولكان فرضه التيمم ولو قدر على غسل بعضها
فعنه ثلاثة أقوال:
قيل:
يتيمم فقط لئلا يجمع بين بدل ومبدل.
وقيل:
يستعمل ما قدر عليه ويتيمم للباقي وهو المشهور
في مذهب أحمد وغيره.
وقيل:
بل يستعمل ذلك في الغسل دون الوضوء كما يذكر عن أبي بكر وهو مبني على وجوب
الموالاة في الوضوء دون الغسل. قال صاحب هذا القول فينتفع باستعمال البعض في
الغسل دون التيمم وضعفوا ذلك بأنه يفعل المقدور عليه فعلم بذلك أن هذا عندهم
طهارة نافعة عند العجز في الوضوء كما هي نافعة في الغسل وإذا كان كذلك لم يجب
عليه عند القدرة على الماء إعادة ما غسله من أعضاء الوضوء كما لا يجب عليه ما
صلاه بالتيمم وكما لا يجب عليه إعادة ما غسل في الغسل على المشهور عند أصحاب
أحمد من الفرق بين الوضوء والغسل كما سنذكره إن شاء الله وذلك لأنه قد فعل ما
أمر به كما أمر ومن كان ممتثلا الأمر أجزأ عنه فلا إعادة عليه.
يوضح هذا:
أنه في حال العجز لم يكن مأمورا بغسل العضو الثاني وإنما يؤمر بتحصيل الطهور
الذي يتمكن به من غسله أو بتأخره إلى القدرة وهو قادر على غسل العضو الأول وهو
المستطاع من المأمور فعليه فعله كما لو قدر على غسل بعض الأعضاء أو بعض العضو
الواحد دون بعض فإن عليه غسله كالمقطوع يده من بعض الذراع.
وطرد ذلك: ما ذكرناه لو كان ببعض أعضائه ما يمنع الوجوب من جرح أو مرض أو غير
ذلك فغسل الصحيح ثم قدر أن الألم زال وقد نشف ذلك العضو فانه إذا غسل الباقي
فقد فعل المقدور عليه.
وأيضا:
فالترتيب واجب في صوم الشهرين بنص القرآن والسنة والإجماع ثم اتفق المسلمون على
أنه إذا قطع لعذر لا يمكن الاحتراز منه كالحيض فإنه لا يقطع التتابع الواجب .
ومذهب أحمد في هذا أوسع من مذهب غيره فعنده إذا قطع التتابع لعذر شرعي لا يمكن
مع إمكان الاحتراز منه مثل أن يتخلل الشهرين صوم شهر رمضان أو يوم الفطر أو يوم
النحر أو أيام منى أو مرض أو نفاس ونحو ذلك فانه لا يمنع التتابع الواجب ولو
أفطر لعذر مبيح كالسفر فعلى وجهين فالوضوء أولى إذا ترك التتابع فيه لعذر شرعي
وان أمكن الاحتراز منه.
وأيضا:
فالموالاة واجبة في قراءة الفاتحة قالوا إنه لو قرأ بعضها وسكت سكوتا طويلا
لغير عذر كان عليه إعادة قراءتها ولو كان السكوت لأجل استماع قراءة الإمام أو
لو فصل بذكر مشروع كالتأمين ونحوه لم تبطل الموالاة بل يتم قراءتها ولا يبتدئها
ومسألة الوضوء كذلك سواء فانه فرق الوضوء لعذر شرعي ومعلوم أن الموالاة في
الكلام أوكد من الموالاة في الأفعال.
وأيضا:
فالمنصوص عن أحمد في العقود كذلك فإن الموالاة بين الإيجاب والقبول واجبة بحيث
لو تأخر القبول عن الإيجاب حتى خرجا من ذلك الكلام إلى غيره أو تفرقا بأبدانهما
فلا بد من إيجاب ثان وقد نص أحمد على أنه إذا أوجب النكاح لغائب وذهب إليه
الرسول فقبل في مجلس البلاغ أنه يصح العقد فظن طائفة من أصحابه أن ذلك قول منه
ثان بأنه يصح تراخي القبول مطلقا وإن كانا في مجلس واحد بعد تفرقهما وطول الفصل
وهي الرواية التي ذكرت في مثل الهداية والمقنع والمحرر وغيرها أنه يصح في
النكاح ولو بعد المجلس.
وذلك خطأ كما نبه عليه الجدُّ فيما أظن في كتابه الكبير ولا فرق في ذلك بين
النكاح والبيع والإجارة والفرق بين الصورتين ظاهر ويذهب إلى الفرق غيره من
الفقهاء كأبي يوسف وغيره وهذا التفريق من أحسن الأقوال ويشبه أن يكون المنصوص
عنه في الوضوء كذلك لكني لم أتأمل بعدُ نصه في الوضوء فإنه كثيراً ما يحكي عنه
روايتان في مثل ذلك ويكون منصوصه التفريق بين حال وحال ويكون هو الصواب كمسألة
إخراج القيم ومسألة قتل الموصى .
وأيضا:
فالموالاة في الطواف والسعي أوكد منه في الوضوء ومع هذا فتفريق الطواف لمكتوبة
تقام أو جنازة تحضر ثم يبني على الطواف ولا يستأنف فالوضوء أولى بذلك. وعلى هذا
فلو توضأ بعد الوضوء ثم عرض أمر واجب يمنعه عن الإتمام كإنقاذ غريق أو أمر
بمعروف ونهي عن منكر فعله ثم أتم وضوءه كالطواف وأولى. وكذلك لو قدر أنه عرض له
مرض منعه من إتمام الوضوء.
وأيضا:
فإن أصول الشريعة تفرق في جميع مواردها بين القادر والعاجز والمفرط والمعتدي
ومن ليس بمفرط ولا معتد والتفريق بينهما أصل عظيم معتمد وهو الوسط الذي عليه
الأمة الوسط وبه يظهر العدل بين القولين المتباينين.
مجموع الفتاوى (21/135-141)