قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
قوله {هل أتاك حديث الغاشية وجوه يومئذ خاشعة
عاملة ناصبة تصلى نارا حامية تسقى من عين آنية} فيها قولان:
أحدهما:
أن المعنى و جوه في الدنيا خاشعة عاملة ناصبة تصلى يوم القيامة ناراً حامية و
يعنى بها عباد الكفار كالرهبان و عباد البدو وربما تؤولت في أهل البدع
كالخوارج.
القول الثاني:
أن المعنى أنها يوم القيامة تخشع أي: تذل و
تعمل و تنصب .
قلت: هذا هو الحق لوجوه :
أحدها:
أنه على هذا التقدير يتعلق الظرف بما يليه أي و جوه يوم الغاشية خاشعة عاملة
ناصبة صالية. و على الأول :لا يتعلق إلا بقوله {تصلى}. ويكون قوله {خاشعة} صفة
للوجوه قد فصل بين الصفة و الموصوف بأجنبي متعلق بصفة أخرى متأخرة و التقدير و
جوه خاشعة عاملة ناصبة يومئذ تصلى نارا حامية . و التقديم و التأخير على خلاف
الأصل. فالأصل إقرار الكلام على نظمه و ترتيبه لا تغيير ترتيبه .
ثم إنما يجوز فيه التقديم و التأخير مع القرينة أما مع اللبس فلا يجوز لأنه
يلتبس على المخاطب و معلوم أنه ليس هنا قرينة تدل على التقديم و التأخير بل
القرينة تدل على خلاف ذلك فإرادة التقديم و التأخير بمثل هذا الخطاب خلاف
البيان و أمر المخاطب بفهمه تكليف لما لا يطاق.
الوجه الثاني:
أن الله قد ذكر و جوه الأشقياء و وجوه السعداء في السورة فقال بعد ذلك و جوه
يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية. و معلوم أنه إنما وصفها بالنعمة يوم
القيامة لا في الدنيا إذ هذا ليس بمدح ، فالواجب تشابه الكلام و تناظر القسمين
لا اختلافهما و حينئذ فيكون الأشقياء و صفت وجوههم بحالها في الآخرة .
الثالث:
أن نظير هذا التقسيم قوله { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة
تظن أن يفعل بها فاقرة} و قوله {وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة و وجوه يومئذ
عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة } .و هذا كله و صف للوجوه
لحالها في الآخرة لا في الدنيا.
الرابع:
أن و صف الوجوه بالأعمال ليس في القرآن و إنما في القرآن ذكر العلامة كقوله {سيماهم
في وجوههم} و قوله {و لو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم} و قوله {تعرف في و
جوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا}، و ذلك لأن
العمل و النصب ليس قائما بالوجوه فقط بخلاف السيما و العلامة.
الخامس:
أن قوله "خاشعة" "عاملة" "ناصبة" لو جعل صفة لهم في الدنيا لم يكن في هذا اللفظ
ذم فإن هذا إلى المدح أقرب و غايته أنه و صف مشترك بين عباد المؤمنين و عباد
الكفار و الذم لا يكون بالوصف المشترك و لو أريد المختص لقيل :خاشعة للأوثان
مثلا عاملة لغير الله ناصبة في طاعة الشيطان و ليس في الكلام ما يقتضي كون هذا
الوصف مختصا بالكفار و لا كونه مذموما و ليس في القرآن ذم لهذا الوصف مطلقا و
لا و عيد عليه، فحمْله على هذا المعنى خروج عن الخطاب المعروف في القرآن.
السادس:
أن هذا الوصف مختص ببعض الكفار و لا موجب للتخصيص فإن الذين لا يتعبدون من
الكفار أكثر و عقوبة فساقهم في دينهم أشد في الدنيا والآخرة فإن من كف منهم عن
المحرمات المتفق عليها و أدى الواجبات المتفق عليها لم تكن عقوبته كعقوبة الذين
يدعون مع الله إلها آخر و يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق و يزنون فإذا
كان الكفر و العذاب على هذا التقدير في القسم المتروك أكثر و أكبر كان هذا
التخصيص عكس الواجب.
السابع:
أن هذا الخطاب فيه تنفير عن العبادة والنسك ابتداء ثم إذا قيد ذلك بعبادة
الكفار و المبتدعة و ليس في الخطاب تقييد كان هذا سعيا في إصلاح الخطاب بما لم
يذكر فيه.
"مجموع الفتاوى" (16/217-220)