الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
وبعد
فهذه فوائد منتقاة من كتب الإمام العلم الجهبذ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله، وستكون –إن شاء الله- في حلقات ، وفي مواضيع هادفة متفرقة . وأسأل الله
أن ينفع بها.
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
* وكذلك
الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا يجب على كلِّ أحدٍ بعينه بل هو على الكفاية
كما دل عليه القرآن ، ولما كان الجهاد مِن تمام ذلك كان الجهاد أيضا كذلك فإذا
لم يقم به مَن يقوم بواجبه أثم كلُّ قادرٍ بحسب قدرته إذ هو واجبٌ على كلِّ
إنسانٍ بحسب قدرته كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم "من رأى منكم منكرا
فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".
* وإذا
كان كذلك فمعلوم أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإتمامه بالجهاد هو مِن
أعظم المعروف الذي أمرنا به ولهذا قيل : "ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر
غير منكر" ، وإذا كان هو مِن أعظم الواجبات والمستحبات فالواجبات والمستحبات
لابد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة إذ بهذا بُعثت الرسل ونَزلت الكتب
{والله لا يحب الفساد} بل كل ما أمر الله به فهو صلاحٌ . وقد أثنى الله على
الصلاح والمصلحين والذين آمنوا وعملوا الصالحات وذم المفسدين في غير موضع فحيث
كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم تكن مما أمر الله به وإن كان قد ترك
واجب وفعل محرم إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباده وليس عليه هداهم.
وهذا معنى قوله تعالى {يا أيها الذين أمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم مَن ضل إذا
اهتديتم}، والاهتداء إنما يتم بأداء الواجب فإذا قام المسلم بما يجب عليه مِن
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره مِن الواجبات لم يضرَّه ضلال
الضُلاَّل
* وذلك
يكون تارة بالقلب وتارة باللسان وتارة باليد فأما القلب فيجب بكل حالٍ إذ لا
ضرر في فعله ومَن لم يفعله فليس هو بمؤمن كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم
"وذلك أدنى -أو- أضعف الإيمان" وقال "ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" وقيل
لابن مسعود: مِن ميتُ الأحياء ؟ فقال: الذي لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً
وهذا هو المفتون الموصوف في حديث حذيفة بن اليمان.
* وهنا
يغلط فريقان مِن النَّاس فريقٌ يترك ما يجب مِن الأمر والنهي تأويلاً لهذه
الآية كما قال أبو بكر الصديق رضى الله عنه في خطبته "إنكم تقرؤون هذه الآية
{عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} وإنكم تضعونها في غير موضعها وإني
سمعت النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول "إن النَّاس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه
أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه".
والفريق الثاني مَن يريد أن يأمر وينهى إما بلسانه وإما بيده مطلقا مِن غير
فقهٍ وحلمٍ وصبرٍ ونظرٍ فيما يصلح مِن ذلك ومالا يصلح ، وما يَقدر عليه ومالا
يَقدر كما في حديث أبى ثعلبة الخشني سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال "بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيتَ شحًّا مطاعاً وهوى
متبعاً ودنيا مؤثَرةً وإعجابَ كلِّ ذي رأيٍ برأيه ورأيتَ أمراً لا يدان لك به
فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام فإن مِن ورائك أيام الصبر فيهن على مثل قبض على
الجمر للعامل فيهن كأجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله" ، فيأتي بالأمر والنهي
معتقداً أنه مطيعٌ في ذلك لله ورسوله وهو معتدٍ في حدوده كما انتصب كثيرٌ مِن
أهل البدع والأهواء كالخوارج والمعتزلة والرافضة وغيرهم ممن غلط فيما أتاه من
الأمر والنهى والجهاد على ذلك وكان فسادُه أعظمَ مِن صلاحه ولهذا أمر النَّبيّ
صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة
وقال "أدوا إليهم حقوقهم وسلوا الله حقوقكم" وقد بسطنا القول في ذلك في غير هذا
الموضع.
ولهذا كان مِن أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة وترك قتال الأئمة وترك
القتال في الفتنة ، وأما أهل الأهواء كالمعتزلة فيروْن القتال للأئمة مِن أصول
دينهم ويجعل المعتزلة أصول دينهم خمسة (التوحيد) الذي هو سلب الصفات و (العدل)
الذي هو التكذيب بالقدر و (المنزلة بين المنزلتين) و (إنفاذ الوعيد) و (الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر) الذي منه قتال الأئمة.
وقد تكلمتُ على قتال الأئمة في غير هذا الموضع وجماع ذلك داخل في القاعدة
العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت فإنه يجب
ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت والمصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد
فإن الأمر والنهى وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحةٍ ودفع مفسدةٍ فينظر في المعارض
له فإن كان الذي يفوت مِن المصالح أو يحصل مِن المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به
بل يكون محرَّما إذا كانت مفسدته أكثر مِن مصلحته لكن اعتبار مقادير والمصالح
والمفاسد هو بميزان الشريعة فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها
وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر وقلَّ أن تعوز النصوص مَن يكون
خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام.
وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروفٍ ومنكرٍ بحيث لا يفرقون
بينهما بل إما أن يفعلوهما جميعاً أو يتركوهما جميعاً لم يجز أن يَأمروا
بمعروفٍ ولا أن يَنهوا عن منكرٍ بل ينظر فإن كان المعروف أكثر أَمر به وإن
استلزم ما هو دونه مِن المنكر ولم يَنه عن منكرٍ يستلزم تفويتَ معروفٍ أعظمَ
منه بل يكون النهي حينئذ مِن باب الصدِّ عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته
وطاعة رسوله وزوال فعل الحسنات . وإن كان المنكر أغلب نهى عنه وإن استلزم فوات
ما هو دونه مِن المعروف ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه
أمراً بمنكرٍ وسعياً في معصية الله ورسوله وإن تكافأ المعروف والمنكر
المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما.
فتارةً يصلح الأمر وتارةً يصلح النهي وتارةً لا يصلح لا أمرٌ ولا نهي حيث كان
المعروف والمنكر متلازمين وذلك في الأمور المعينة الواقعة .
وأما مِن جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقاً وينهى عن المنكر مطلقاً وفي الفاعل
الواحد والطائفة الواحدة يؤمر بمعروفها وينهى عن منكرها ويحمد محمودها ويذم
مذمومها بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات أكثر منه أو حصول منكر فوقه ولا يتضمن
النهى عن المنكر حصول أنكر منه أو فوات معروف أرجح منه .
وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق فلا يقدم على الطاعة إلا
بعلمٍ ونيةٍ وإذا تركها كان عاصياً فترك الأمر الواجب معصية وفعل ما نهى عنه من
الأمر معصية وهذا باب واسع ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومِن هذا الباب إقرار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبى وأمثاله
مِن أئمة النفاق والفجور لما لهم مِن أعوانٍ فإزالةُ منكره بنوعٍ مِن عقابه
مستلزمةٌ إزالة معروفٍ أكثر مِن ذلك بغضب قومه وحميتهم وبنفور الناس إذا سمعوا
أن محمداً يقتل أصحابه ولهذا لما خاطب النَّاس في قصة الإفك بما خاطبهم به
واعتذر منه وقال له سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه حمى له سعد بن عبادة مع حسن
إيمانه.
* وأصل
هذا أن تكون محبة الإنسان للمعروف وبغضه للمنكر وإرادته لهذا وكراهته لهذا
موافقة لحب الله وبغضه وإرادته وكراهته الشرعيين وأن يكون فعله للمحبوب ودفعه
للمكروه بحسب قوته وقدرته فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وقد قال {فاتقوا
الله ما استطعتم} فأما حب القلب وبغضه وإرادته كراهيته فينبغي أن تكون كاملةً
جازمةً لا يوجب نقص ذلك إلا نقص الإيمان.
وأما فعل البدن فهو بحسب قدرته ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة تامة وفعل
العبد معها بحسب قدرته فانه يعطى ثواب الفاعل الكامل كما قد بيناه في غير هذا
الموضع .
"مجموع الفتاوى"(28/127-132)