الحمد لله
كتب بعض إخواننا الأفاضل مقالا ذكر فيه المنع من هذه المقولة ، واستدلوا بأثر
في " صحيح الأدب المفرد " ( ص 286 ) .
وهو ليس حديثاً نبويّاً ، بل وليس أثراً عن صحابي .
إنما هو عن أبي رجاء العطاردي ، وهو من التابعين .
ونصه :
عن أبي الحارث الكرماني قال : سمعت رجلا قال
لأبي رجاء : أقرأ عليك السلام وأسأل الله أن يجمع بيني وبينك في مستقر رحمته .
قال : وهل يستطيع أحد ذلك ؟ قال : فما مستقر رحمته ؟ قال : الجنة . قال : لم
تُصِب . قال : فما مستقر رحمته ؟ قال : رب العالمين . انتهى
لكن الصواب :
هو الجواز ، وقد أحببت أن أفرد لها مقالاً ، إذ لعله لا يقرأ ردي هناك .
وهو قول النووي ، وابن القيم ، ورجحه من المعاصرين الشيخ ابن عثيمين والشيخ بكر
أبو زيد .
والله الموفق .
قال ابن القيم رحمه الله :
اعلم أن الرحمة المضافة إلى الله تعالى نوعان :
أحدهما :
مضاف إليه إضافة مفعول إلى فاعله .
والثاني :
مضاف إليه إضافة صفة إلى الموصوف بها .
فمن الأول : قوله في الحديث الصحيح " احتجت الجنة والنار .. - فذكر الحديث -
وفيه : فقال للجنة : "إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء" .
رواه مسلم وأحمد .
فهذه رحمة مخلوقة مضافة إليه إضافة المخلوق بالرحمة إلى الخالق تعالى وسماها
رحمة لأنها خلقت بالرحمة وللرحمة ، وخص بها أهل الرحمة ، وإنما يدخلها الرحماء.
ومنه : قوله صلى الله عليه وسلم "خلق الله الرحمة يوم خلقها مائة رحمة كل رحمة
منها طباق ما بين السماء والأرض" .
رواه مسلم والحاكم وروى البخاري نحوه .
ومنه قوله تعالى { ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة } هود 9
،ومنه تسميته تعالى للمطر رحمة بقوله { وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي
رحمته } الأعراف 57
وعلى هذا فلا يمتنع الدعاء المشهور بين الناس قديما وحديثا وهو قول الداعي
"اللهم اجمعنا في مستقر رحمتك" ، وذكره البخاري في كتاب الأدب المفرد له عن بعض
السلف ، وحكى فيه الكراهة ، قال : إن مستقر رحمته ذاته !
وهذا بناء على أن الرحمة صفة وليس مراد الداعي ذلك بل مراده الرحمة المخلوقة
التي هي الجنة.
ولكن الذين كرهوا ذلك لهم نظر دقيق جدّاً وهو أنه إذا كان المراد بالرحمة الجنة
نفسها : لم يحسن إضافة المستقر إليها ، ولهذا لا يحسن أن يقال اجمعنا في مستقر
جنتك فإن الجنة نفسها هي دار القرار وهي المستقر نفسه كما قال { حسنت مستقرا
ومقاما } ، فكيف يضاف المستقر إليها والمستقر هو المكان الذي يستقر فيه الشيء ؟
ولا يصح أن يطلب الداعي الجمع في المكان الذي تستقر فيه الجنة فتأمله ، ولهذا
قال : مستقر رحمته ذاته .
والصواب :
أن هذا لا يمتنع حتى ولو قال صريحا "اجمعنا في مستقر جنتك" لم يمتنع ، وذلك أن
المستقر أعم من أن يكون رحمة أو عذابا فإذا أضيف إلى أحد أنواعه أضيف إلى ما
يبينه ويميزه من غيره كأنه قيل في المستقر الذي هو رحمتك لا في المستقر الآخر .
ونظير هذا أن يقال :
اجلس في مستقر المسجد ، أي المستقر الذي هو المسجد والإضافة في مثل ذلك غير
ممتنعة ولا مستكرهة .
وأيضا :
فإن الجنة وإن سميت رحمة لم يمتنع أن يسمى ما فيها من أنواع النعيم رحمة ، ولا
ريب أن مستقر ذلك النعيم هو الجنة فالداعي يطلب أن يجمعه الله ومن يحب في
المكان الذي تستقر فيه تلك الرحمة المخلوقة في الجنة وهذا ظاهر جدا فلا يمتنع
الدعاء بوجه والله أعلم. أ.هـ
" بدائع الفوائد " ( 2 / 408 ، 409 ) ط الباز .
قلت :
وانظر : " الأذكار " للنووي ص 330 ، ومعجم المناهي اللفظية لبكر أبي زيد ص 599
و 604
والله أعلم .