الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه
أجمعين .
قال تعالى : { يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات .. }
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه
من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس
رءوساً جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " .
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به
طريقا من طرق الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم ، وإن العالم
ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض ، والحيتان في جوف الماء ، وإن فضل
العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة
الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ
بحظ وافر " .
وقال عليه الصلاة والسلام : إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوماً ، ويضع به آخرين "
أمّا بعد :
فلقد فجعنا في هذه البلاد - والله المستعان - برحيل رمزٍ من رموز هذا الدين ،
وعلَمٍ من أعلام هذه الأمّة ، ألا وهو : الشيخ : " رامز بن علي بن سالم بني
أحمد " ، نسأل الله أن يتغمده برحمة منه وفضل .
هذا الشيخ الشاب لم يتجاوز الخامس والعشرين من عمره ، وكان من المجدِّين
المجتهدين على أنفسهم ، وكان ترتيبه الأول على الأردن في " الثانوية العامة /
شريعة " ، وقد رزقه الله همَّة عالية ، بذلها في حفظ كتاب الله تعالى وحفظ سنة
نبيه صلى الله عليه وسلم ، وحفظ المتون الفقهية والعقيدية والحديثية وغيرها .
ولم يكن ميسور الحال ، فقد كان شابّاً غير عامل ، وأول ما جاء إلى أحد شيوخه –
وهو الشيخ رمضان الجلاَّد – وقد دلَّه على سماع أشرطة الشيخ ابن عثيمين ، اعتذر
بأنه لا يملك مسجلاًّ ! .
وقد اتصل بي يريد شفاعة للوصول للشيخ يحيى اليحيى – ولم أكن أعرفه وقتذاك عن
قرب – فأعلمته بالطريقة التي يتصل بها بالشيخ .
فسافر إلى مكة المكرمة لحضور دورة حفظ الصحيحين عند الشيخ يحيى اليحيى فأتمهما
، ثم السنن الأربعة ، ثم الموطأ ، ثم مسند الإمام أحمد ، والحاكم ، والبيهقي ،
والبزار ، ومعاجم الطبراني – أظنه انتهى منها وسيسمعها في الدورة القادمة - ،
وكلها مذكرات الشيخ يحيى اليحيى .
ولم يكن بعيداً عن حفظ المتون ، فحفظ ألفية ابن مالك ، والطحاوية ، والجزرية ،
وملحة الإعراب ، والرحبية ، والسفارينية ، ونونية القحطاني ، وغيرها ... .
وسمع كثيراً من أشرطة الشيخ ابن عثيمين ، ولخصها في مذكرات خاصة به .
ولم يكن متفرغاً للطلب تاركاً العمل والدعوة ، بل كان من النشيطين في الدعوة
إلى الله تعالى ، فكان يحدِّث الناس في مآتمهم وأفراحهم واجتماعاتهم ، ويزورهم
في بيوتهم فيعلِّم الجاهل ، وينصح ، ويعظ ويُرشد بما رزقه الله تعالى من علم .
وبسببه اهتدى شباب كثر ، وخرجت الملهيات من بيت أهله ، وحفظ على يديه أكثر من (
9 ) شباب كتاب الله تعالى كاملاً ، وفي الطريق إلى حفظه ( 9 ) آخرون .
وقد كان إمام مسجد في أيامه الأخيرة ، ولم يكن متزوجاً ، فقد كان يريد العمل
ومساعدة أخيه الأكبر منه مقابل ما ساعده في الدراسة .
وقد استغل سكن المسجد في تجميع الشباب الجامعيين والطلبة الكبار لتحفيظهم كتاب
الله تعالى في العطلة الصيفية الماضية ، وقد زرتهم وزاروني فرأيت عجباً من
همتهم وجلدهم واحترامهم لشيخهم ، فقد منعهم من سماع الأخبار وقراءة الصحف –
فضلاً عن غيرهما من الملهيات – حتى يحفظ كل واحدٍ منهم ما تفرغ لأجله ، وقد
التقينا بهم عند نهاية الصيف ، فسألنا مجموعة منهم عن حفظهم في تلك الفترة فكان
أن قال واحد منهم أنه حفظ القرآن في ( 29 ) يوماً ، والباقي ضعف تلك المدة
ومنهم من زاد على الضعف ، والباقي في أواخر حفظهم .
ولما انتهت العطلة بقي مع مجموعة منهم ممن يستطيع التفرغ ، والباقي يأتيه في
نهاية الأسبوع ليراجع حفظه ويثبته ، ويتم من لم يتمه .
وكان من تلامذته المتفرغين اثنان من أبنائي حفظ واحد منهم ( 7 ) أجزاء في ( 5 )
أسابيع تقريباً ، والثاني حفِظ المذكرة الأولى من الصحيحين ، ونصف الثانية –
حوالي ( 600 ) حديثاً ، وقد مشى مع الثاني في التجويد والتلاوة .
وقد أعطى وقته كله لإخوانه ، حتى إنه لم يفطر يوماً عند أهله – كما أخبر أخوه
في المقبرة – وكان يشرف على طعامهم وشرابهم وذهابهم وإيابهم .
ومن ذلك : أنني دعوتهم مرة للإفطار صباحاً قبل رمضان فجاء حوالي ( 20 ) من خيرة
من تحب أن ترى من الشباب .
وفي المرة الأخرى قلت له : أحب أن تأتوا عندي مرة أخرى فتوقف ثم قال : طلب أم
رغبة ؟ فقلت : طبعاً رغبة ، فقال : إن كان طلباً لبَّينا وإن كانت رغبة فأعتذر
لأن الوقت يضيع بالذهاب والإياب والصيف على وشك الانتهاء وأحب أن ينتهي الشباب
من برنامجهم ، فأكبرت فيه أدبه وحرصه – رحمه الله - .
وكان كان أديباً حسن الخلُق حسن المعاشرة لإخوانه ، وإذا رأيته في مجلس قلت لا
يحفظ جزء " عم " ولا الأربعين النووية ! وبخاصة إذا كان مجلساً فيه دعاة وطلبة
علم وعلماء .
وفي يومه الأخير : دعاني للإفطار عنده في المسجد ، فلبيت الدعوة ، وأفطرنا
وصلينا التراويح في مسجده ، وقدم اثنين من تلامذته للصلاة ، وقال : أنا مرتاح ،
الشباب يصلون وأنا أصلي خلفهم .
ورجعنا إلى بيته ، فجلسنا قليلاً ثم ودعناه للرجوع إلى منزلنا ، فقال له بعض
تلامذته : إنه يريدني في موضوع خاص ، وإنه سيكلمني فيه أثناء رجوعنا إلى المنزل
، فرغب الشيخ أن يرافقنا إلى منزلنا ليرجع مع تلميذه حتى لا يرجع وحده .
وكان ذلك ولم يجلسوا إلا قليلاً ثم غادروا راجعين إلى بيت المسجد ، وكان معهم
واحد من تلامذته ليوصلوه إلى بيته ، وزار في الطريق تلميذاً له في منطقتنا .
وفي الساعة الثانية ليلاً جاء الخبر الصاعقة ، والخبر المفجع المؤلم ، خبر وفاة
الشيخ رامز نفسه ، فقمت فزعاً غير مصدِّق الخبر ، ولما ذهبت إلى المستشفى رأيت
مجموعة من تلامذته تبكي بكاء مرّاً على فقدان شيخهم فخففت عنهم وكنت أنا أحوجهم
إلى من يخفف عني ، وكذا كان معي أبنائي من تلامذته فاشترك الجميع في البكاء ،
وذهبت إلى والده لأخفف عنه ، وهو يبكي بكاء مرّاً – أيضاً – فحاولت التخفيف عنه
قدر المستطاع .
وكانت وفاته في حادث مروع في الساعة الواحدة والنصف تقريبا ليلاً ، توفي على
إثرها نتيجة كسر في الرقبة ونزيف في الدماغ .
وكانت وفاته في شهر عظيم – وهو رمضان – وفي ليلة الجمعة – 12 رمضان 1424 - ،
وكان في طاعة الله ، وفي حادث سيارة ، وقد ذكر علماء اللجنة الدائمة أنه يرجى
أن يكون من مات في حادث سيارة أن يكون من الشهداء ، وأنه يصدق عليه – إن شاء
الله – أنه " صاحب هدم " ، فهنيئا له هذه الموتة
وكانت جنازته مشهودة حضرها حوالي الألف من الناس ، وكان على رأسهم الشيخ محمد
شقرة ، وخطب في الناس خطبة بليغة ذرف وأذرف الدموع ، وبكى وأبكى الناس ، ومما
قال الشيخ – حفظه الله – " أن الملوك لا يملكون ما يملك رامز ، وأن الوزراء
والأغنياء ليس عندهم ما عند رامز " .
ومن رأى تلامذته وبكاءَهم ، والناسَ وحزنَهم ، وأهلَه وتأثرَهم علِم أي رجل كان
، وقد فقدت الأمة حافظاً من حفاظها ، وعزاؤنا أن يعوض الله الأمة مثله أو خيراً
منه .
وقد دعا له كثيرون ممن لا يعرفونه ، وتأثر بوفاته كثير ممن رأى تأثر الناس ،
وقال بعض الإخوة : لم نكرمه وهو حي فأقل ما نكرمه بعد وفاته الصلاة عليه
والدعاء له ، وقد بكى الشيخ يحيى اليحيى كثيراً عندما بلغه وفاة الشيخ رامز
رحمه الله ، ولم يستطع إكمال المكالمة فاعتذر للشيخ محمد الرويلي – وهو من
زملاء الشيخ رامز في الحفظ - عن إكمالها ، وكان يحبه ويوده كثيراً ، وبينهما
اتصالات ومحادثات كثيرة ، وتزكية الشيخ رامز عنده مقبولة .
واللهَ نسأل أن يرحم الشيخ رامزاً وأن يعفوَ عنه وأن يرفع درجته في المهديين .