الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
الأخ الفاضل :
سكن البادية وهو " التعرُّب " – أي : الإقامة مع الأعراب - ليس فيه شيء من حيث
هو ، فقد كان يفعله بعض الناس ولا يزالون ومنهم أهل العلم لتعلم اللغة والشجاعة
والآداب ، وكان بعض الناس يسترضع ولده هناك ، وقد فعل أهل نبينا صلى الله عله
وسلم ذلك معه .
لكن :
عدَّ الشارع الرجوع إلى البادية بعد الهجرة من الكبائر ! كما في حديث الصحيحين
" ولكن البائس سعد بن خولة " الذي هاجر ورجع إلى مكة ومات فيها ؛ وذلك لأن من
ترك بلده مهاجراً إلى الله ورسوله فلا يحل له الرجوع لبلده ولو كانت " مكة " –
وفيه خلاف هل هذا الحكم خاص بأولئك الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم
أم أنه عام في الأشخاص والأزمان والأماكن ؟ والظاهر : الخصوص ، والله أعلم –
ولحديث آخر سيأتي إن شاء الله ، والأول عام في الرجوع إلى البلد المهاجَر منها
، والثاني خاص في الرجوع إلى البادية والسكنى فيها .
ولذلك كان الصحابة يعدًّون الراجع للبادية مرتداً عن هجرته ! أي : عن إسلامه ،
والمقصود أنه في حكم المرتد لا أنه كذلك حقيقة ، فعبَّر بعضهم بالردة عن الهجرة
وعبَّر آخرون بالردة عن الإسلام ؛ لأن الهجرة تعني الهجرة بالإسلام .
قال الفتوحي :
ومجموعة ما جاء منصوصا عليه في الأحاديث
من الكبائر خمس وعشرون : الشرك بالله تعالى ، وقتل النفس بغير حق ، والزنا ،
وأفحشه بحليلة الجار ، والفرار من الزحف ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال
اليتيم ، وقذف المحصنات ، والاستطالة في عرض المسلم بغير حق ، وشهادة الزور ،
واليمين الغموس ، والنميمة ، والسرقة ، وشرب الخمر ، واستحلال بيت الله الحرام
، ونكث الصفقة ، وترك السنة ، والتعرب بعد الهجرة ، واليأس من روح الله ،
والأمن من مكر الله ، ومنع ابن السبيل من فضل الماء ، وعدم التنزه من البول ،
وعقوق الوالدين ، والتسبب إلى شتمهما ، والإضرار في الوصية .
" شرح الكوكب المنير " ( 277 ، 278 ) .
عن سهل بن أبي حثمة عن أبيه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر
يقول : اجتنبوا الكبائر السبع ، فسكت الناس فلم يتكلم أحد فقال النبي صلى الله
عليه وسلم : ألا تسألوني عنهن ؟ الشرك بالله ، وقتل النفس ، والفرار من الزحف ،
وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، وقذف المحصنة ، والتعرب بعد الهجرة . رواه
الطبراني في " الكبير " ( 6 / 103 ) .
وحسَّنه شيخنا الألباني في " الصحيحة " ( 2244 ) .
وبوَّب عليه :
باب التعرُّب بعد الهجرة من الكبائر ،
ونحوه : التغرب
والحديث الذي يوهم ردة من سكن البادية
بعد الهجرة :
عن سلمة بن الأكوع أنه دخل على الحجاج
فقال : يا ابن الأكوع ارتددت على عقبيك ؟ تعربت ؟ قال : لا ، ولكن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أذن لي في البدو . رواه البخاري ( 6676 ) ومسلم ( 1826 ) .
والحديث : بوب عليه النووي :
باب تحريم رجوع المهاجر إلى استيطان
وطنه .
وبوب عليه البخاري :
باب التعرب في الفتنة .
وبوب عليه البيهقي :
باب ما جاء في الرخصة فيه – أي : التعرب
بعد الهجرة - في الفتنة وما في معناها .
وبوب النسائي :
باب المرتد أعرابيا بعد الهجرة .
قال ابن حجر :
قوله " باب التعرب في الفتنة " بالعين
المهملة والراء الثقيلة أي : السكنى مع الأعراب بفتح الألف وهو أن ينتقل
المهاجر من البلد التي هاجر منها فيسكن البدو فيرجع بعد هجرته أعرابيا ، وكان
إذ ذاك محرماً إلا إن أذن له الشارع في ذلك ، وقيَّده بالفتنة إشارة إلى ما ورد
من الإذن في ذلك عند حلول الفتن كما في ثاني حديثي الباب ، وقيل بمنعه في زمن
الفتنة لما يترتب عليه من خذلان أهل الحق ، ولكن نظر السلف اختلف في ذلك :
فمنهم من آثر السلامة واعتزل الفتن كسعد ومحمد بن مسلمة وابن عمر في طائفة ،
ومنهم من باشر القتال وهم الجمهور ، ووقع في رواية كريمة " التعزب " بالزاي ،
وبينهما عموم وخصوص ، وقال صاحب " المطالع " : وجدته بخطي في البخاري بالزاي
وأخشى أن يكون وهما فان صح فمعناه البعد والاعتزال . " فتح الباري ( 13 / 41 )
.
قلت : وثاني حديث الباب الذي أشار إليه
هو :
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم
يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن . رواه البخاري ( 6677 )
.
قلت :
وقول الحافظ " وكان إذ ذاك محرماً إلا إن أذن له الشارع في ذلك " يدل على ما
ذكرنا من أنه فاعله مرتكب لكبيرة لا أنه مرتد !
والإذن في التعرب لسلمة وغيره :
قال الحافظ :
وقد وقع لسلمة في ذلك قصة أخرى مع غير الحجاج :
فأخرج أحمد من طريق سعيد بن إياس بن سلمة أن أباه حدثه قال : قدم سلمة المدينة
فلقيه بريدة بن الحصيب فقال : ارتددتَ عن هجرتك ؟ فقال : معاذ الله إني في إذنٍ
من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سمعته يقول : ابدوا يا " أسلم " – أي :
القبيلة المشهورة التي منها سلمة وأبو برزة وبريدة المذكور – قالوا : إنا نخاف
أن يقدح ذلك في هجرتنا ، قال : أنتم مهاجرون حيث كنتم .
وله شاهد :
من رواية عمرو بن عبد الرحمن بن جرهد
قال : سمعت رجلا يقول لجابر من بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال : أنس بن مالك وسلمة بن الأكوع ، فقال رجل : أما سلمة فقد ارتد عن هجرته !
فقال : لا تقل ذلك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأسلم : ابدوا
، قالوا : إنا نخاف أن نرتد بعد هجرتنا ، قال : أنتم مهاجرون حيث كنتم .
وسند كل منهما حسن .
" فتح الباري " ( 13 / 41 ) .
والخلاصة :
1.
ليس في سكن البادية إثم من حيث السكن .
2.
من ر جع مرتداً إلى البادية فهو مرتد سواء رجع إليها أو مكث في موطن هجرته أو
ذهب لغيرهما من الديار .
3.
من رجع إلى البادية بعذر فلا شيء عليه .
4.
من رجع إليها من غير عذر فهو فاعل لكبيرة
والله أعلم