اطبع هذه الصفحة


استعجال القِطاف

إبراهيم بن محمد الهلالي

 
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي محمد الكريم وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً أما بعد :
إن العمل في ميادين الدعوة إلى الله عملٌ شريف ، عالي القدر ، عظيم المكانة ، يانع الثمار ، كيف لا يكون كذلك والعامل المتتبِّع للسنن يستشعر سيره على آثار الأنياء عليهم السلام ، ويقف مواقف البطولة والتضحيات ، إن ذلك لشرفٌ عظيم بعظمة المهمة ، وكريم بكرامة الرفاق على الطريق وأكرِم بهم من رفقة ، لكن ذلكم الطريق ليس مفروشاً بالرياحين ، ولا مرصعاً باليواقيت ، وإنما فيه من المشقة ما صرف عنه الكسالى ، وفيه من الفتن ما صرف عنه المؤثرون للسلامة ، ومع هذا كله فقد أذاق الله برد رحمته للباذلين له أوقاتهم ، وأعطاهم خيراً مما تنعَّم به المتنعمون في الراحة والكسل فضلاً من الله ونعمة.
ولما للطريق من آفات تؤجل المرجوَّ ، وقد تغير المسار وتحرف الوجهة ، وقد تؤدي إلى النكوص على الأعقاب وتضييع المكاسب ، كان حقاً على المؤمنين التناصح والتآمر والتواصي قال الله تعالى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} التوبة: ٧١
فوصفهم سبحانه بتولِّي بعضهم بعضاً نصرة وتظافراً وتعاوناً ثمَّ بيَّن سبحانه ماهيَّة ذلك التولِّي ومادة تلك النصرة إنه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطاعة الله ورسوله ثمَّ أشار إليهم إشارة البعد لعلوِّ مكانتهم ، ورفعة قدرهم لديه ووعدهم بالرحمة منه المؤكدة بالسين الداخلة على الفعل ( يرحمهم ) ، ثم ختم الآية الكريمة بوصف نفسه العلية بالعزة أي قوي قادر على كل شيء لا يمتنع عليه ما يريده { حَكِيمٌ } يضع الأشياء مواضعها ومن ذلك النعمة والنقمة ، وكما جاء في الصحيح: "المؤمن للمؤمن كالبنان يشد بعضه بعضا" وشبك بين أصابعه وفي الصحيح أيضا: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".
ومن هذا المنطلق أحببت أن أقف وقفة تأمل ومناصحة وتقويم لنفسي وأحبابي المؤمنين تحذيراً من آفة على طريق الدعوة إلى الله كم قوضت من جهود ، وأقامت من فتن ، وضيَّعت من فرص ألا وهي آفة (( الاستعجال )) .
لقد نهى الله تعالى رسوله عن الاستعجال حتى ولو كان المطلوب أعظم مطلوب فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول أمر الوحي يحرص ألا يفوته شئ منه ، ويخشى نسيانه وكذلك من حبه إياه يحرك بالوحي شفتيه ولسانه ولمَّا يقض جبريل تلاوة ما نزل به فأنزل عليه نهيه عن ذلك قال الله تعالى { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} القيامة: ١٦ - ١٩ فإذا نُهي رسول الله عن العجلة بحفظ القرآن فكيف بما سواه .
ولقد ثبَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في أحلك الظروف بالصبر ونهاهم عن الضجر واستعجال النتائج فقد جاءه خباب بن الأرتِّ وأصحابه رضي الله عنهم وهو متوسدٌ بردة في ظلِّ الكعبة في وقتٍ اشتدَّ أذى قريش للزمرة المؤمنة وتعدى الاستهزاء والغمز واللمز إلى التعذيب الجسدي وإزهاق الأرواح المؤمنة فجاءوا مستنصرين ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا ألا ترى ما نحن فيه فقال صلى الله عليه وسلم مذكِّراً لهم بما لاقاه اتباع الحق والرسل عليهم السلام قبلهم : { لقد كان فيمن كان قبلكم يؤتى بالرجل فيمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصرفه ذلك عن دينه } ثم قال بكل ثقة : { والله ليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قومٌ تستعجلون } وهكذا يؤسس النبي صلى الله عليه وسلم في قلوب الأتباع منذ الأيام الأولى لدعوته وفي ظروفٍ جدُّ قاسيةٍ على الصبر وعدم الاستعجال وهكذا كانوا رضي الله عنهم .
إن تربية الأجيال على الفضائل ، وتقويم السلوك الإنساني تحتاج لأناة المربين ، وحنكة السائسين وعدم عجلتهم وهذه سياسة لا يُحسنها إلا العظماء الذين سددهم الله.
إنها وقفة أذكر فيها نفسي وإخواني الدعاة وفقهم الله بأن يسيروا على وفق سنن الله تعالى فالله تعالى قادر ولا شك أن ينصر رسوله صلى الله عليه وسلم منذ أن كلفه بالرسالة وأن يؤيده بكل طريق ولم يحدث ذلك بل لاقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته الدعوية والعملية مالاقاه _ بأبي هو وأمي ونفسي _ فلقد ركبه من الهمِّ على هدايتهم حتى كاد يقتل نفسه حرصاً عليهم قال الله تعالى { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} الكهف: ٦ ، وتآمروا على طرده من بلده ودياره قال الله تعالى { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً}الإسراء: ٧٦ ، أو يفرضوا عليه ما يسمى بالإقامة الجبرية أو القتل أو النفي قال الله تعالى {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} الأنفال: ٣٠ ولقي الاستهزاء الغمز واللمز منهم وهو يدافع عن حياضهم ويخرج يقاتل من أجلهم كما حدث من المنافقين في غزوة تبوك قال الله تعالى {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}التوبة: ٦٥ ، وغمزوه في قسمة الصدقات قال الله تعالى {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}التوبة: ٥٨ واتهموه زوراً وبهتاناً أنه سمَّاعٌ لكل ما يقال له دون تمييز ويصدق كل ما قيل له قال تعالى { وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}التوبة: ٦١ .
هذا غيض من فيض ولو ذهبنا نستقصي ذلك من حياته صلى الله عليه وسلم لطال بنا المقام فحياته صبرٌ ومصابرة وجهدٌ ومجاهدة منذ أن أنزل الله عليه {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} المدثر: ١ – ٢ كان كما وصفه الشيخ سيِّد قطب رحمه الله حيث قال : ((وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم { قم } . . فقام . وظل قائماً بعدها أكثر من عشرين عاماً! لم يسترح . ولم يسكن . ولم يعش لنفسه ولا لأهله . قام وظل قائماً على دعوة الله . يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به . عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض . عبء البشرية كلها ، وعبء العقيدة كلها ، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى .
حمل عبء الكفاح والجهاد في ميدان الضمير البشري الغارق في أوهام الجاهلية وتصوراتها ، المثقل بأثقال الأرض وجواذبها ، المكبل بأوهاق الشهوات وأغلالها . . حتى إذا خلص هذا الضمير في بعض صحابته مما يثقله من ركام الجاهلية والحياة الأرضية بدأ معركة أخرى في ميدان آخر . . بل معارك متلاحقة . . مع أعداء دعوة الله المتألبين عليها وعلى المؤمنين بها ، الحريصين على قتل هذه الغرسة الزكية في منبتها ، قبل أن تنمو وتمد جذورها في التربة وفروعها في الفضاء ، وتظلل مساحات أخرى . . ولم يكد يفرغ من معارك الجزيرة العربية حتى كانت الروم تعدّ لهذه الأمة الجديدة وتتهيأ للبطش بها على تخومها الشمالية .
وفي أثناء هذا كله لم تكن المعركة الأولى معركة الضمير قد انتهت . فهي معركة خالدة ، الشيطان صاحبها؛ وهو لا يني لحظة عن مزاولة نشاطه في أعماق الضمير الإنساني . . ومحمد صلى الله عليه وسلم قائم على دعوة الله هناك . وعلى المعركة الدائبة في ميادينها المتفرقة . في شظف من العيش والدنيا مقبلة عليه . وفي جهد وكد والمؤمنون يستروحون من حوله ظلال الأمن والراحة . وفي نصب دائم لا ينقطع . . وفي صبر جميل على هذا كله . وفي قيام الليل . وفي عبادة لربه ، وترتيل لقرآنه وتبتل إليه ، كما أمره أن يفعل وهو يناديه {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ{1} قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً{2} نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً{3} أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً{4} إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً{5} إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءاً وَأَقْوَمُ قِيلاً{6} إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً{7} وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً}المزمل: ١ – ٨ وهكذا قام محمد صلى الله عليه وسلم وهكذا عاش في المعركة الدائبة المستمرة أكثر من عشرين عاماً . لا يلهيه شأن عن شأن في خلال هذا الأمد . منذ أن سمع النداء العلوي الجليل وتلقى منه التكليف الرهيب . . جزاه الله عنا وعن البشرية كلها خير الجزاء )) اهـ من تفسير ظلال القرآن .
ومع هذا التعب والنصب والأذى لم يملَّ أو يكلَّ أو يضجر أو يستعجل بل كان ديدنه في أحلك الظروف وأصعب المواقف أن يقول (( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون )) ولم يستعجل عليهم فهل نعي درس الصبر والمصابرة ورحمة المدعوين والثقة في الله بنصر الحق وأهله ونتعامل مع أخطاء الناس ، وجهلهم وصدودهم عن الحق فعل النبي الأمي الكريم صلى الله عليه وسلم أرجو ذلك والله المستعان.


قاله وكتبه راجي عفو ربه القدير
إبراهيم بن محمد الهلالي

 

إبراهيم الهلالي
  • مقالات ورسائل
  • الصفحة الرئيسية