صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







وقفات مع آيات النصر في كتاب الله
( الحلقة الأولى )

إبراهيم بن محمد الهلالي

 
الحمد لله الذي وعد فصدق ، وأعطى فأغدق ، رحمته واسعة ، وفضائله يانعة ، وصلى الله على محمد بن عبد الله النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم ثم أما بعد :
إن الذي ينظر بعين البصيرة لأحوال المؤمنين في أصقاع المعمورة ، وما أصابهم من الذلة والمسكنة ، وضياع حقوقهم ، وتسلط أعدائهم ، واستباحة بيضتهم ، لترجع به الذاكرة إلى احوال المستضعفين من المؤمنين إبَّان إظهار رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته في العهد المكي ، وأقصد بالمشابهة في الظروف المحيطة وإلا ففرق بين ما كان يعيشه أولئك الصحب الكرام رضي الله عنهم من الإيمان واليقين وصالح العمل مما خفف عنهم المصاب ، وثبتهم أمام الفتن ، بخلاف ما يحدث من المسلمين اليوم من تفريط في دينهم ، ونسيانٍ لتراثهم ، وتنكرٍ لهويتهم ، مما زاد في مصيبتهم وأحلهم دار البوار الدنيوية ونسأل الله العلي القدير أن يجيرنا والمسلمين من دار البوار الأخروية بمنِّه وكرمه إنه جوادٌ كريم.
ولذا كان علينا أن نستلهم العبرة ، ونكرر النظرة في أحوالهم وبم خاطبهم ربهم سبحانه ، ووجههم نبيهم صلى الله عليه وسلم لنعلم المخرج مما نحن فيه من التيه والتخبط ، فأردت أن أذكر نفسي وإخواني بما ييسره الله من تدبرٍ لآيات النصر في كتاب الله سبحانه لتعلو الهمم ، وتنقشع سحب الهزيمة ، وننظر لواقعنا نظرة المتفائل الذي يعلم ليعمل ، ويترقى في سبل المعالي والعزة ، ولا يقعد به اليأس ليراوح يديه على خديه يندب حظه ، ويمقت عمره ونفسه ، فالكون سائر بمن فيه فمن تقدم معه وإلا خلفه وراءه مع الخالفين وسيقال لهم كما قيل لمن قبلهم ﴿ إنكم رضيتم بالقعود أول مرةٍ فاقعدوا مع الخالفين ﴾ [ التوبة 83] ، وسيكون حديثي بإذن الله عن آيات النصر حسب التسلسل في السور وليس في النزول ولا الحوادث ، إلا ما تدعو الضرورة لربطه من الآيات ببعضها والله نسأل أن يسدد القول والنية إنه جوادٌ كريم.
وهذه أولى الوقفات مع آية من سورة البقرة يقول فيها الله عز وجلَّ : ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) ﴾
قال الإمام ابن كثير في تفسيره :
يقول تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ } قبل أن تُبتَلُوا وتختبروا وتمتحنوا، كما فعل بالذين من قبلكم من الأمم؛ ولهذا قال: { وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ } وهي: الأمراض؛ والأسقام، والآلام، والمصائب والنوائب.
قال ابن مسعود، وابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، وسعيد بن جبير، ومُرّة الهَمْداني، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع، والسّدي، ومقاتل بن حَيّان: { الْبَأْسَاءُ } الفقر. وقال ابن عباس: { وَالضَّرَّاءُ } السّقَم.
{ وَزُلْزِلُوا } خَوْفًا من الأعداء زلْزالا شديدًا، وامتحنوا امتحانًا عظيمًا، كما جاء في الحديث الصحيح عن خَبَّاب بن الأرَتّ قال: قلنا: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ فقال: "إنّ من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفْرَق رأسه فيخلص إلى قدميه، لا يَصْرفه ذلك عن دينه، ويُمْشَطُ بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، لا يصرفه ذلك عن دينه". ثم قال: "والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون".
وقال الله تعالى: { الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [العنكبوت: 1 -3] .
وقد حصل من هذا جانب عظيم للصحابة رضي الله عنهم في يوم الأحزاب، كما قال الله تعالى: { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا* وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا } [ الأحزاب 10و11 ]
ولما سأل هرقلُ أبا سفيان: هل قاتلتموه؟ قال: نعم. قال: فكيف كان الحرب بينكم؟ قال: سِجَالا يدال علينا ونُدَال عليه. قال: كذلك الرسل تُبْتَلى، ثم تكون لها العاقبة.
وقوله: { مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ } أي: سنتهم. كما قال تعالى: { فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ } [الزخرف: 8] .
وقوله: { وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ } أي: يستفتحون على أعدائهم، ويَدْعون بقُرْب الفرج والمخرج، عند ضيق الحال والشدة. قال الله تعالى: { أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } كما قال: { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } [ الشرح: 5، 6].
وكما تكون الشدة ينزل من النصر مثلُها؛ ولهذا قال تعالى: { أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } وفي حديث أبي رَزين: "عَجب ربّك من قُنُوط عباده، وقُرْب غيثه فينظر إليهم قَنطين، فيظل يضحك، يعلم أنّ فرجهم قريب" الحديث.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي _ رحمه الله _ في تفسيره على هذه الآية كلاما نفيساً يجدر بنا تفهمه وتعقله أنقله بنصه أيضاً حيث يقول : (( يخبر تبارك وتعالى أنه لا بد أن يمتحن عباده بالسراء والضراء والمشقة كما فعل بمن قبلهم، فهي سنته الجارية، التي لا تتغير ولا تتبدل، أن من قام بدينه وشرعه، لا بد أن يبتليه، فإن صبر على أمر الله، ولم يبال بالمكاره الواقفة في سبيله، فهو الصادق الذي قد نال من السعادة كمالها، ومن السيادة آلتها.
ومن جعل فتنة الناس كعذاب الله، بأن صدته المكاره عما هو بصدده، وثنته المحن عن مقصده، فهو الكاذب في دعوى الإيمان، فإنه ليس الإيمان بالتحلي والتمني، ومجرد الدعاوى، حتى تصدقه الأعمال أو تكذبه.
فقد جرى على الأمم الأقدمين ما ذكر الله عنهم { مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ } أي: الفقر { وَالضَّرَّاءُ } أي: الأمراض في أبدانهم { وَزُلْزِلُوا } بأنواع المخاوف من التهديد بالقتل، والنفي، وأخذ الأموال، وقتل الأحبة، وأنواع المضار حتى وصلت بهم الحال، وآل بهم الزلزال، إلى أن استبطأوا نصر الله مع يقينهم به.
ولكن لشدة الأمر وضيقه قال { الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ } .
فلما كان الفرج عند الشدة، وكلما ضاق الأمر اتسع، قال تعالى: { أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } فهكذا كل من قام بالحق فإنه يمتحن.
فكلما اشتدت عليه وصعبت، إذا صابر وثابر على ما هو عليه انقلبت المحنة في حقه منحة، والمشقات راحات، وأعقبه ذلك، الانتصار على الأعداء وشفاء ما في قلبه من الداء، وهذه الآية نظير قوله تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } )) اهـ
فهل يعي المسلمون اليوم الدرس ويصابروا عدوهم ويواجهوا يأسهم ، ويمتثلوا أمر الله لنبيه ومن معه بالصبر وانتظار أحسن العواقب حيث يقول عزَّ من قائلٍ عليماً وآمرٍ حكيماً ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ هود 49].
ما أجملها من وقفات إيمانية مع آية واحدة من كتاب الله فحسب ، فكيف بمن تدبر كل آيات النصر في كتابه ، لامتلأ من الثقة ، وحُسْنَ الظنِّ بالله ما يجعله يسير إلى الله لا يلوي على شئ ، المكاره عنده أمارة صدق النية ، وعلامة صحة الطريق على حدِّ قول أحد السلف رحمة الله عليه حين قال (( لو لم نُبْتلى لشكَكْنا في الطريق )) وليس قصده تمني الفتنة ، ولا التعرض لها ولكن تسلية لنفسه عند نزول البلاء ، وحلول المصائب.
هذا ما تيسر إيراده ، ونتمنى من الله العلي القدير أن ييسر لنا الوقوف مع آية نصر ثانية في اللقاء القادم إن شاء الله والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

حرر في 14/11/1429هـ بمدينة الرياض

رابط المقال الأصلي : http://qkalbirk.org.sa/vb/showthread.php?p=3361#post3361

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
إبراهيم الهلالي
  • مقالات ورسائل
  • الصفحة الرئيسية