صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







وتوالى تساقط النجوم
( كتبت سطوره بعد تلقي خبر وفاة العلامة الإمام الزاهد الثقة شيخنا وشيخ مشائخنا عبد الله بن عبد الرحمن الغديان قدس الله روحه)

إبراهيم بن محمد الهلالي


الحمد لله الذي جعل العلماء للأرض مثل النجوم للسماء،يهتدي بنور علمهم الجاهل،ويسلك طريقهم مريد الحق،ويعتني بمنهجهم المقتدي الموفق، موتهم مصيبة لا تبرأ،وجرح فقدهم لا يندمل،حياتهم غنيمة، وموتهم رزية ما بعدها رزية.
فضائلهم لا تُحد ، ومكارمهم لا تُعد ،منن الله عليهم كثيرة ، ونعمه عليهم وفيرة :
قال الله تعالى :{ قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}.[سورة الزمر،الآية : 9]
ويقول – سبحانه -: {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء}. [سورة فاطر ، الآية : 28 ]
ويقول- جل وعلا -:{ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}.[سورة النساء،الآية :59]
وأولو الأمر- كما يقول أهل العلم - :هم العلماء، وقال بعض المفسَّرين : أولو الأمر: الأمراء والعلماء.
ويقول الله - جل وعلا -: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير}. [ سورة المجادلة، الآية : 11 ]
وروى البخاري عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:(( من يرد الله به خيرا يفقه في الدين. ))
قال ابن المنير - كما يذكر ابن حجر - : ( من لم يفقهه الله في الدين فلم يرد به خيراً ).
وروى أبو الدرداء رضي الله عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال:(( فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ليلة البدر. العلماء هم ورثة الأنبياء . إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ، وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذ به ؛ فقد أخذ بحظ وافر )).
* ومن عقيدة أهل السنة والجماعة - كما يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - :( أنهم يدينون الله باحترام العلماء الهداة ) ، أي أن أهل السنة والجماعة ، يتقربون إلى الله – تعالى – بتوقير العلماء ، وتعظيم حُرمتهم .
قال الحسن البصري رحمه الله: ( كانوا يقولون : موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار ).
وقال سفيان الثوري: ( لو أن فقيها على رأس جبل ؛ لكان هو الجماعة ).
وحول هذه المعاني يقول الشاعر :

الناس من جهة التـمــثال أكفـاء ****** أبوهمُ آدم والأم حواء
فإن يكن لهم في أصلهـم نسـب ****** يفاخرون به فالطين والــماء
ما الفضــل إلا لأهل العلـم إنهـمُ ****** على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقــدر كل امرئ ما كـان يحسنـه ****** والجاهلون لأهل العلم أعـداء
ففز بعلم و لا تطلب به بدلا ****** فالناس موتى و أهل العلم أحياء

من هذه النصوص الكريمة ، ثم من هذه الأقوال المحفوظة ؛ تتبين لنا المكانة العظيمة ، والدرجة العالية ، التي يتمتع بها علماء الأمة ؛ ومن هنا وجب أن يوفيهم الناس حقهم من التعظيم والتقدير والإجلال وحفظ الحرمات،قال الله تعالى:{ ومن يُعَظِّم حُرٌماتِ الله فهو خيرٌ له عند ربه}.[سورة الحج،الآية:30].
ويقول- جل وعلا- :{ ومن يعظم شعائر الله فإنها من تَقْوَى القلوب }.[سورة الحج،الآية:32]
والشعيرة- كما قال العلماء - : كلُّ ما أذِنَ اللهُ وأشعَرَ بفضله وتعظيمه. فالعلماء – بلا ريب – يدخلون دخولاً أولياً فيما أذِن اللهُ وأشعر بفضله وتعظيمه ، بدلالة النصوص الكريمة السالفة الإِيراد.
ومن هؤلاء الأعلام والأئمة الهداة والعلماء الثقات شيخنا وشيخ مشائخنا الشيخ العلامة عبدالله بن عبدالرحمن الغديان قدس الله روحه وأسكنه فسيح جناته وجمعنا به في الفردوس آمين.
من أين أبدأ وماذا أقول وكيف أصف عَلَماً أمضى أكثر من ثمانية عقود بين تعلُّمٍ وتعليم وتربية صادقة جادة محفوفة بإخلاص وجرأة، حريص على أدب الطلب مع طلابه أكثر من حرصه على مجرد حفظ العلم ذاته.
إن الجوانب التي تحتاج منا أن نستلهمها من سيرة هذا الإمام أقف أمامها عاجزاً عن تبيان بعضها،فضلاً عن كلها، إن سيرة هذا الإمام تحتاج إلى لجان علمية متخصصة، وبحوث أكادمية محكمة فالرجل بحق أمُّة في شخص واحد.
إن شيخنا يُبهر العقول الناقدة عندما تستمع له وهو يؤصل كلامه على مسائل العلم الخبرية الاعتقادية والعملية تجلجل صوته في أذني وأنا في العاشرة من عمري وكنت أرى اهتمام أبي – حفظه الله وسدده - بمتابعته في برنامج نور على الدرب - ذلك البرنامج الذي هو اسمٌ على مسمى – وقد يتحراه الساعة الثالة صباحاً ويضع الراديو بجانبه ونحن على مائدة السحور في ليالي رمضان وذلك أول ما شارك شيخنا في البرنامج عام 1402هـ ، وكبر حبي له مع كبر عمري وتلذذنا بفوائده كباراً وكل يومٍ نرى منه جديداً ودروساً من التأصيل والتدقيق العلمي المنقطع النظير.
لكني لم أكن أعلم بأن أقدار الله تُرجي لي شيئاً مع هذا العَلَم الإمام، ولم يكن يدور بخلدي أني سأكون تلميذاً من تلامذته يوماً من الدهر، ويشاء الله أن نتتلمذ على يديه إبان دراستنا بالمعهد العالي للقضاء وتحديداً في عام 1417هـ ، حيث نهلنا من علمه عاماً كاملاً وهو يدرسنا مادة ((القواعد الفقهية)) ويالها من أيام ما أروعها وأحلى وقعها وأدوم أثرها لقد كانت أحلى سنيِّ العمر وأسناها رأينا من قرب جلالة العلم ، وسكينة الشيوخ ، وتدقيق العالم ، وثراء المادة ، ورقي الفكر ، وسماحة الكبار ، وثقة المؤَصَّل ، كنت أرى وأسمع درراً غالية لولا فضل الله لم نرها ولم نسمعها.

دروساً وعيتها وكنت أحتفظ بها لنفسي وأعلمها لمن أُلقي عليهم بعض دروس العلم لأني أعلم أنه لن يسمح شيخنا – رحمه الله - بنشرها وهو حيٌّ أبداً وبراً به ورجاء عدم مخالفته تركت الحديث عنها حتى جاء يومها ، وها أنا أقول ما عرفت - ومالم أعرف كثيرٌ جداً – وذلك ليعرف جيل اليوم شيئاً مما كان عليه الكبار ، فأقول تعلمت الكثير ومن ذلك:


الجدية المتناهية : فمع ارتباطات الشيخ الكثيرة ومواعيده الثقيلة الهامة إلا أنه علمنا كيف يكون احترام كل عملٍ في وقته ، فلم يتخلف عن محاضرة من محاضرات المعهد العالي للقضاء إلا نادراً مع كونها في الصباح الباكر ، وهو يأتي إلينا يشق الرياض من الجنوب إلى الشمال بروح مفعمة بالجد والنشاط والحرص مع كبر سنه وجلالة قدره.

رأينا مدققاً لمسائل العلم حريصاً على التحري ، مربياً على تأصيل العلم وتحبيره.

رأينا رجلاً عفَّ اللسان لا ينال من أحد بشخصه ، ولا يسمح لأحد بأن ينال من أحد من عامة الناس بله رجال العلم وأفاضلهم في حضرته، يحفظ لأهل العلم مكانتهم وإن رأى ما يجب إنكاره ركز على المسألة وحبرها ودققها ورجح ما يراه ولم يتعرض لشخص قائلها فما أعظمه من أدبٍ فقدناه.

رأيت رجلاً يُجلُّ مشائخه ويعرف لهم قدرهم ، وتتناهى صور العظمة في هذا الجانب حتى لا أطيق وصفها ، فلقد سألته مرة وقلت له شيخنا الجليل : أراك ترجح في بعض المسائل التي تمر بنا في قاعة الدرس غير الذي تُفتي به في ( برنامج نور على الدرب ) فلم أكن أتوقع ما أجاب به حيث قال : في قاعات الدرس ودروس المسجد أرجح ما أراه أنا وما وصل له جهدي ، وأما في نور على الدرب فذاك برنامج عام أفتي فيه بما توصلت إليه اللجنة الدائمة للإفتاء لكي لا يلتبس على المستمعين فتاوى المفتين في البرنامج.
هل رأيتم صورة أنصع وأبهى من هذه الصورة التي تؤكد حرصاً عظيماً على جمع كلمة العلماء ، ورأفة بالمكلفين والعوام أن يموجوا بين أراء المختلفين والمجتهدين ، أين هذه الصورة مما بلينا به اليوم من جرأة { مَنْ تزبَّب قبل أن يتحَصْرم } من صغار طلبة العلم الذين نراهم قد ارتقوا مرتقىً صعباً فنالوا من فتاوى علماء جهابذة كانوا يوماً من طلبتهم الكسالى وليس النابهين ، ولم يكتفوا بالرد عليها بل نالوا من قائليها وهمزوا وغمزوا حتى بلغت بهم الجرأة الفجة أن يسموهم بمالا يليق بطويلب علم فضلاً عن تلك القامات الرفيعة ولله در القائل:

لا تُعرضنَّ بذكرنا في ذكرهم **** ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد

أما إجلاله لأشخاص مشائخه فلا أروع من ذلك ألبته فلقد رأيت ورأى غيرى مشهداً يتكرر كل حين ، يعجز الواصفون عن رواية جلالته فضلاً عن حقيقته وهو أن شيخنا – رحمه الله – من المعلوم أنه إمام راتب في مسجد الافتاء بالرياض من دهور فهو أحق بإمامته ولكن مع ذلك فقد ضرب مثلاً في الأدب مع شيخه سماحة الشيخ الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله حيث كان الشيخ ابن باز يأتي للمسجد بعيد الأذان وشيخنا ابن غديان لا يأتي إلا مع وقت الإقامة ومع ذلك لا يمكن أن يتقدم الشيخ ابن غديان للإمامة حتى يضع يده على كتف الشيخ ابن باز ويطلب منه أن يتقدم وابن باز لا يفعل وإنما يطلب منه التقدم هو وذلك كل يوم مع تكرار الأيام ودورانها فهل وجدتم أدباً ، كهذا أمَّا أنا فلم أر مثله في حياتي ، فلئن كان هذا سيحصل في يوم أو أيام فذاك ، أما أن يحصل يومياً مع علمه رحمه الله أن شيخه لم ولن يتقدم لكنها لا تطاوعه نفسه الراقية، وأدبه الفذ أن يتقدم على شيخه إلا بإذنه ، الله أكبر هذه أخلاق الكبار فأين نحن منها.
أين بعض طلاب العلم ممن كُتبت أمام أسمائهم ألقابهم الأكاديمية فنسوا فضل مشائخهم وحسبوا أن ذلك مغنٍ لهم عنهم، فلا سؤال ولا تقدير بل بلغ ببعضهم أن يأتي إلى مستودع إهداء الكتب بإدارة الإفتاء ليأخذ نصيبه من كتب ألفتها تلك الجلة من العلماء ثم لا يكلف نفسه أن يسلم على علمائه ومشائخه ومشائخ مشائخه فالله المستعان.

كان معروفاً عنه - رحمه الله – أنه لا يسمح ان يُسأل في قاعة الدرس عن شئ متوقع لم يقع، ويمنع الافتراضات العلمية والمجتمعية ، وكل ذلك تربية لطلابه أن يتركوا الخوض فيما لا فائدة فيه أو ما كانت فائدته قليلة ، ويوصينا بأن نهتم بما حصل ودون من كلام ومسائل العلم وليس هذا عجزاً منه رحمه الله أن يدلي بدلوه بعلم وثقة ولكن ليعلم الطالب أن العمر قصير ، والزمن يسير ، ولا يدرك شأوه من شتت جهده وأضاع وقته.
فأين هذا من كثير من الناس الذين نصبوا أنفسهم للحكم على قيل وقالوا ، وعلى حوادث إعلامية تبين بعد الجهد واللأواء والأخذ والرد والخلاف والتماحل أن الواقعة مفترضة ولم تحدث وكان في الشغل بتحرير حكم ما وقع عنها غنى فالله المستعان وعليه التكلان.

كان شيخنا معروفاً بعدم سماحه بالكتابة والتقييد أثناء إلقائه للدرس ، ولا التسجيل بآلة التسجيل وما ذاك تعنيتاً لطلابه ولكن ليتربى الطالب كما تربى السلف في أخذهم عن علمائهم ، وتحفيزهم على الحفظ ، وتجويد مسموعاتهم العلمية ، واستثارة مكامن النبوغ والحرص فجزاه الله عنا خير الجزاء.

من أعظم ما يميز شيخنا – رحمه الله – تواضعه الجمِّ ، وزهده الظاهر ، ولا أدلَّ على ذلك من أنَّ الذي لم يلقه ويقابله فلن يعرف شخصه لعدم رضاه بالخروج في وسائل الإعلام المنظور منها والمقروء ، فعاش تقياً خفياً – نحسبه كذلك والله حسيبنا وحسيبه _ لم تغيره الحوادث الاجتماعية ، ولا المستجدات الإعلامية ، ولم تغره ببهرجها ، ولم يُر جارياً وراء دنيا زائفة مبهرجة ، بل لو سمح لها لأتته وهي راغمة ، فأباها رغبة عنها مع قدرته ، وزهداً فيها مع حظوته، وتقطعت قلوب غيره عليها وهي عنهم معرضة، عاش في زوايا لا تبلغها كاميرات الإعلام ، عاش في الإفتاء وحده – وهو أرقى هيئة علمية بالبلاد _ أكثر من أربعين عاماً لم تلتقط له صورة يتزين بها هنا أو هناك:

هؤلاء أبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جرير المجامع

إنني أقف وقفة إجلال وتقدير وإكبار أمام هذا العَلَم الشامخ في سماء العلم والعلماء ، رمزاً لأجيال حاضرة يُذكرها بغابر من سلف من أئمة الهدى والصلاح ، وإني لأقول كما كنت أقول لإخوتي وأحبابي وطلابي : إن هذا العالم لم تعرفه الدنيا بعد لغناه عنها ، ولكنني أجزم أن الأمة ستنهل عذباً صافياً ، ومورداً زلالاً من معين هذا الإمام القدوة ، وستظهر للدنيا بعد فقده ، وخروجه منها جواهر ودرر لا تخطر ببال عالم فضلاً عن طالب علم أو عاميٍّ، وإنني أعلم أنه خلَّف وراءه رجالاً من أبنائه وطلابه البررة الذين تلقى بعضهم علمه لأكثر من ثلاثين عاماً ، وأملنا في الله ثم فيهم ليخرجوا لنا تراثه وعلمه وتحقيقه ، وسترى الدنيا عامة وساحة العلم خاصة كم فقدت من ثروة عزيزة غالية ، ولولا أننا مؤمنون بقضاء الله وقدره ، مؤملون في أن ما قدم عليه شيخنا – بإذن الله –خيرٌ له مما عندنا لتقطعت النفس حسراتٍ على مثله ، ولكن لا نقول إلا ما قال قدوتنا صلى الله عليه وسلم : إن القلب ليحزن ، وإن العين لتدمع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا على فراقك ياشيخنا لمحزونون وإنا لله وإنا إليه راجعون.
هذا بعض حق شيخي عليَّ والواجب كثير ، حبرته في زمن حزن ولوعة، وخرجت كلمات حب صادق في الله ، أذكر بالشمائل لعل مقتفٍ نأخذ أجره ، ومدكرٍ نؤجر على عوده وبره، وما كان فيها من خيرٍ فذاك ما أردت،وأرجو ذخره عند الله، وما كان فيها من غير ذلك فأرجو عفوه وستره وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.


حرر 19 جمادى الآخر 1431هـ
وكتبه الفقير إلى عفو ربه القدير
إبراهيم بن محمد آل عبده الهلالي
رئيس المحكمة العامة بالقحمة - عسير

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
إبراهيم الهلالي
  • مقالات ورسائل
  • الصفحة الرئيسية