صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







رؤية الهلال .. والبلبلة المتجددة

إبراهيم بن محمد الهلالي



الحمد لله الذي جعلنا بالشرع محكومين ، وله مذعنين ، وصلى الله على الهادي لكل خير ، والمبلغ عن ربه كل بر والمحذِّر من كل شر وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد:
في كل عام يطل علينا هلال شهر رمضان المبارك وهلال شوال وهلال ذي الحجة المحرم ترى وتسمع ما يعمي العين ويصم الآذان من اختلاف حول رؤية الهلال بين الرؤية الشرعية بالعين المجردة أو بالتلسكوبات والمناظير من جهة وبين الرؤية الفلكية بالحساب الفلكي لحركة الشمس والقمر.

ولا ينقضي عجبي من البلبلة التي تثار من جهة الجمعيات الفلكية والمواقع الالكترونية الخاصة بها ، والجزم غير المسبوق بما يُثبت الواقع خلافه أكثر من مرة ، مع يقينهم أن حسابهم قابل للخطأ ولو بنسبة ضئيلة ويصادمون به واقعاً مشاهداً. ولي مع ذلك وقفات أرجو أن ينفع الله بها فأقول مستعيناً بالله:


أولاً : الترائي للهلال سنة ماضية وشريعة قائمة:

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) رواه البخاري ومسلم، وفي لفظ: (صوموا لرؤيته فإن غمي عليكم فعدوا ثلاثين) رواه أحمد، وفي لفظ: (إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فافطروا فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما) رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والنسائي، وفي لفظ: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين ثم أفطروا) رواه أحمد والترمذي، وفي لفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال: (لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غمّ عليكم فاقدروا له) رواه البخاري.

فهذه الأحاديث تدل على تعليق الصوم والفطر على رؤية هلال رمضان وشوال رؤية عينية، ومما يقطع بهذا الفهم وينفي اعتماد الحساب الفلكي أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على استبعاد الحساب. فعن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إِنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسِب الشهر هكذا وهكذا) رواه البخاري ومسلم ، يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين.

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ، ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة)، فهذه الأحاديث وغيرها في هذا المعنى كثيرة، وهي تدل على أن المعتبر في ذلك هو الرؤية أو إكمال العدة، أما الحساب فلا يعول عليه، وهذا هو الحق، وهو إجماع من أهل العلم المعتد بهم.

وما كان بهذه المثابة من الأهمية والمترتب عليه صحة العبادة من عدمها لا يمكن أن يعلقه الشرع بما ليس في مقدور الشخص العادي وأن يكون في متناول جميع المسلمين في أصقاع فقيرة وإمكانات محدودة على تعاقب الدهور.

ثانياً : إعتماد الرؤية للهلال والإعلان عنها من واجبات الإمام الأعظم :

لا شك أن الدولة الإسلامية قد ضربت المثال لدول الدنيا _ وشهد بذلك حتى الكفار والمخالفين في الملة _ في ترتيب أمورها المتعلقة بالديانة لعموم المكلفين فلم تدع هذه الأمور العامة نهباً لمن أرادها بل علقتها بالإمام الأعظم الذي صحت له البيعة الشرعية ، لكي لا تكون مجالاً للخلاف في الدين ، أو الشك في العبادة ، ومن هذه الأمور ثبوت دخول الشهر الصيام رمضان والفطر منه وفريضة الحج ، ولتعلقها بركنين عظيمين في الدين ألا وهما الصيام والحج ، فهل يعقل أن يموج الناس بالخلاف في أركان الدين؟! اللهم لا.

ومن فضل الله على بلاد الحرمين الشريفين _ المملكة العربية السعودية _ تمسكها بالمنهج الإسلامي الأصيل واتباعها للسنة المطهرة ومن مآثرها إعتماد الرؤية الشرعية للأهلة وعدم الاكتراث بمخالفة الحساب الفلكي، وكان هذا موضع فخرٍ واعتزازٍ للمسلمين ، وموطن اطمئنان لدى طوائف من المسلمين في بلاد إسلامية وأخرى كثيرة غير إسلامية في أصقاع الدنيا حيث أنهم يصومون ويفطرون على الإعلان الرسمي للمملكة.

والسؤال الذي يطرح نفسه ما الذي ميَّزنا عن غيرنا ؟ فالحساب الفلكي متيسر في كل بقاع الدنيا مسلمها وكافرها وبأدق أجهزة الرصد الفلكية المعاصرة ، ومع ذلك كان مصدر الاطمئنان للرؤية السعودية هو إعتمادها المنهج النبوي الذي لا زالت تفاخر به الدنيا، ونسأل الله أن تبقى عليه ، وقد أثبتت الأيام والحوادث غير المحدودة صدق ودقة المنهج النبوي الكريم ، وتخلف الحساب الفلكي في أكثر من حادثة ويأبى الله تعالى إلا تصديق رسوله صلى الله عليه وسلم في عصر الفلك والفلكيين.

كم هي السنوات والمناسبات الإسلامية صوماً وفطراً وحجاً التي يجزم فيها الفلكيون بأن الهلال يستحيل رؤيته، وموعد الحقيقة الغروب فما أن تغرب الشمس حتى يُرى الهلال في أكثر من موضع من البلاد متفرقة يستحيل تواطؤهم على الرؤية، مع أني ألفت الانتباه أن مواضع الرصد والترائي ومحاضر الرؤية معدة من لجان وليس أفراد ويشارك من الفلكيين في هذه اللجان ويثبتون ما نفاه معلموهم.

ولا أعجب من الفلكيين ومحادة بعضهم الشديدة لمبدأ الرؤية البصرية المباشرة ولكني أعجب من طلبة العلم الشرعي بل من أحد العلماء المحسوبين في الساحة _ في عامٍ من الأعوام القريبة _ وهو يؤكد على حتمية الأخذ بالحساب الفلكي الذي خطؤه جزء من المليون كما يقول وعدم الاعتماد على الرؤية البصرية وأرعد وأزبد في الإعلام الرسمي المكتوب والمنظور واستعدى خادم الحرمين الشريفين _ حفظه الله بنفسه _ على الشهود والمترائين، وما أن غربت الشمس حتى شهد سبعة عشر نفساً في ست محافظات متفرقة في البلاد بالرؤية الواضحة للهلال وأعتمدت الرؤية في محاكم شرعية وصدر الإعلان الرسمي بها، وكنت أقول في نفسي ماذا سيكون قوله لو تكلم بعد الذي رأى وسمع؟ وما هي إلا أيام ويتصل به بعض الإعلاميين الذين همهم الإثارة والسبق الصحفي ولو بتشكيك الناس فما كان منه إلا أن ردَّ رداً تمنيت أنه لم يقله فقد قال: ((أرى أن من الواجب على المحكمة العليا أن ترد هذه الشهادة ولو شهد بها من شهد لمخالفتها للواقع وتعزير هؤلاء الشهود الكذبة)) قلت سبحان الله هو قاض سابق ولا تبرأ ذمته لا ظاهراً ولا باطناً إلا باعتماد شهادة الشهود المعدلين شرعاً والمعروفين واقعاً عند كل لجنة ترائي ولو أنه لازال على مقعد القضاء لم يُجز لنفسه غيره ، ولو حكم بغيره فقد حكم بغير كتاب الله، إلا أن يعلم خلاف ما شهدت به البينة عند ذلك يجب عليه التنحي، ومن حكم بثبوت الشهادة لم يعلم خلافها فوجب عليه الأخذ بمضمونها وإثباته.

بعد هذا لا نستغرب من أحد الفلكيين في مقابلة أجرتها معه جريدة الحياة يطلق على الأشخاص الذين يتراءون الهلال ويثبتونه بأنهم عصابات _ والعياذ بالله _ ويدعي أن في السعودية _ ويقصد بهم العلماء _ من يعارض علم الفلك ويعتبره من التنجيم _ سبحانك هذا بهتانٌ عظيم _ فعلماؤنا أنضج وأعلى من أن يعارضوا علماً ينفع ويدل على عظمة الله ، لكنهم يعارضون ما يعارض النص الشرعي الثابت مهما كان من علم.

ولكن كأني بهذا المتقوِّل يرى في إثبات الرؤية بالبصر هدم للعلم الذي تعلمه في أميريكا فهو يناضل عنه نضال محارب يطلب بقاءه هداه الله للصواب.
وهل يُعقل ممن يشهد أن لا إله إلا الله وأن الموعد القيامة في يوم تخرس فيه الألسن أن يتجرأ على تصويم أو تفطير سبعة وعشرين مليوناً في البلاد ومثلهم خارجها؟!!

ثالثاً : من هو المخول بإثبات رؤية الهلال في السعودية:

نتفق ولا نختلف أن الجهة المخولة لإثبات الأهلة في المملكة العربية السعودية هي المحكمة العليا في المملكة العربية السعودية حتى الجمعيات الفلكية لم يسعهم إلا التصريح بذلك لكن على استحياء من بعضهم حيث يوجد في أحد المواقع الفلكية ما نصه :(توضيح هام جدا : توكد الجمعية بان الجهه المخولة في اثبات الاشهر القمرية في المملكة العربية السعودية هي " المحكمة العليا " وما ينشر هو للفائدة العامة ) وما يأتي تحت هذا التوضيح يخالف تماماً مضمونه حيث يتم الجزم القاطع بعدم الرؤية _ كما هو هلال شهر شوال هذا العام 1432هـ من هذه الجمعية _ وهذا قبل ترائي الهلال أصلاً وأثبتت المحكمة العلياً رؤيته، والتي يقول الموقع أنها الأصل فهل هذا للعلم أم للبلبلة والتشكيك؟! وهذا مثل الذي يقول لأحد الناس صدِّق هذا لكنه ليس بصادق فهل سيصدقه؟ قطعاً سيحصل الشك والريب والتردد ، وكان يجب على الجمعيات الفلكية للمصلحة الشرعية وموافقة سياسة الدولة العامة أن تكون هذه المعلومات تُدلى إلى المحكمة العليا بطريقة رسمية وليس للعموم، والمحكمة العليا بدورها تبلغها للمحاكم الشرعية التي غالباً يوجد بها لجان الترائي ويكون ذلك يوقت كافٍ وتتم دراستها من القضاة والأخذ بعين الاعتبار لما أشارت إليه أثناء سماع الشهادة وبهذا نجمع في النظر الشرعي بين العلم والمشاهدة وتختفي محاذير الإعلان العام.

إن من المحاذير الشرعية للإعلان العام في مواقع الجمعيات الفلكية ما أشرنا إليه من التشكيك والبلبلة والأخذ والعطاء من دهماء الناس وعامتهم ممن لم يَكِل الشرع لهم هذه الأمور وإنما وُكلت لجهات شرعية مؤهلة وسياسة عليا للدولة من مصلحة الدين والدنيا التزامها.

ومما حصل من هذه المحاذير تصرفُ أحد الأغرار الجهلة عندما وجد الجزم في الموقع الالكتروني لإحدى الجمعيات الفلكية باستحالة الرؤية ليلة التاسع والعشرين وأن اليوم التالي سَيُرى القمر للجميع فكتب خبراً في الشريط المتحرك لأخبار إحدى القنوات الفضائية العربية واسعة الانتشار وأن الجمعية الفلكية في مدينة كذا بالسعودية تؤكد الخطأ في الرؤية المعلنة وأن العيد هو يوم الأربعاء وليس الثلاثاء وبدأت البلبلة العارمة والشك في الفطر وانهالت على أصحاب الفضيلة الأسئلة هل نقضي هذا اليوم؟ وهل صيامي لأول أيام الست الأربعاء صحيحاً؟ وهل وهل ..الخ.

والسؤال من المسؤول عن هذا كله؟ أليس الذي جزم بعدم إمكان الرؤية ولم يُجد نفعاً قوله أن الجهة المخولة هي المحكمة العليا فقد نسي الناس كل ذلك. وانساق الدهماء وعامة الناس لما جدَّ من خبر وهم لم يعلموا أن هذه المعلومة كتبت في موقع الجمعية الفلكية قبل إعلان الرؤية بفترة كبيرة للعلم زعموا !!!
وأيضاً من المحاذير فقد ثقة عامة الناس بالجهات الشرعية والرسمية، وهذا لا يجني من ورائه العباد والبلاد إلا الشك والريب في عباداتهم وأمورهم وسينجرُّ ذلك الشك إلى أمورٍ أخرى تتولاها تلك الجهات الشرعية فالخلل إذا بدأ نفخ فيه الشيطان لتحقيق مآرب أعظم والله المستعان.

والخلاصة أن ما يحدث من هذه الأمور لا يُرضي الله ولا رسوله ولا ولاة الأمر ويجب أن نصل إلى حلٍّ عاجل من أهل الحلِّ والعقد _ وما أكثرهم ولله الحمد _ يبدد الشكوك ويدفع الريب ويحقق المأمول في هذه المسألة الشرعية التي تمس عموم المسلمين في هذه البلاد وفي غيرها ممن يعتمد رؤيتها ولعل المقترح أعلاه مشاركة مني في ذلك وخلاصته :( عدم الإعلان العام من الجمعيات الفلكية وأشخاص الفلكيين والاكتفاء بمخاطبة المحكمة العليا به أو الجهات المسؤولة الأخرى).

والله نسأل أن يسدد المسيرة ويبارك في الجهود وأن يبعد عنا أسباب الخلاف والشقاق إنه خير مسؤول وأقرب مأمول وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. حرر في 4/10/1432هـ
 

وكتبه الفقير إلى عفو ربه إبراهيم بن محمد الهلالي
رئيس المحكمة العامة بالقحمة
ورئيس المكتب التعاوني للدعوة والإرشاد وتوعية الجاليات بالبرك.


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
إبراهيم الهلالي
  • مقالات ورسائل
  • الصفحة الرئيسية