اطبع هذه الصفحة


قاعدة: "مَن كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر مِن صوابه" في الميزان النقدي

السعيد صبحي العيسوي
@esawi_said

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،
فلا ينكرُ دورُ الشيخِ المعلم في عمليةِ طلبِ العلم, وصار الحضُّ عليها متواتراً من أعلامِ السلف, لكن هذه العبارة قد انتشرت وسرت بين طلاب العلم, وهي: "مَن كان شيخُه كتابَه كان خطؤُه أكثرَ مِن صوابِه", والناظرُ فيها يجد أنه قد يفهم منها نوع تعدٍّ وتجاوز.
لذا فإن التوجيه الصحيح لفهمها أن تنزَّل على:

1.المبتدئ في الطَّلب:

وإلا, فإنَّ اعتماد الكتب الأصلية والشُّروح المعتبرة بعد التصور الإجمالي لأبواب الفنِّ ومصطلحاته جادة مسلوكة لنيل العلم والتمكن منه, فإذا وفَّر الطَّالب زمانه على الانشغال بها لها بعد حصول التأسيس فهو مأمون الخطأ في الجملة, وإذا طالعت شروح العلماء وقارنتها بالشُّروح الأصلية والحواشي التي سطرها الشُّرَّاح علمت اعتماد المتأخر عليها, ودورانه في فلكها, ويندر الخروج عنها والإضافة عليها, وهذا مشاهد وظاهر.

2.العلوم المفتقرة إلى ضبطٍ ومجالسة وسماع:

كالقراءات وغيرها, وأما ما احتاج إلى حفظٍ وعنايةٍ وفهم فلا يقال فيه ذلك, إذا المعتمد فيه ذهن الطَّالب, وتكرار العلم وإعادة تذكاره ليرسُخ في الفهم.
وإذا كان مفتاح العلم بأيدي علماء الفنِّ, فإن المؤمل حينئذٍ من المتعلم أن يلج ليشارك بجهده وفهمه وحفظه, لا أن يظل زمانه في تحصيل المفاتيح لا ليَعْبُرَ أبواب العلم, أو يستفتح بها فضل الله الواسع من الفهم والاستفادة والزيادة.

3.ما كان قبل عصر الطباعة:

حيث كانت الكتابة بخط اليد لا آلات الطباعة, وتحتاج إلى ضبط النُّسَخ, وقد اشتهر التصحيف وتصرف النُّسَّاخ, مما احتيج معه إلى ضبط الكتب والنسخ.
وعلى هذه التأويلات وغيرها تتنزل عبارات أهل العلم, كقول الإمام الشافعي رحمه الله: (من تفقه من الكتب ضيع الأحكام"[1].
وكذلك ما حكاه النووي رحمه الله عن بعض العلماء أنهم (قالوا: ولا تأخذ العلم ممن كان أخذه له من بطون الكتب من غير قراءةٍ على شيوخ, أو شيخٍ حاذقٍ, فمن لم يأخذه إلا من الكتبِ يقع في التَّصحيف, ويكثرُ منه الغلط والتَّحريف)[2].
وقد سُئل سماحة الشَّيخ ابن باز رحمه الله عن رأيه في مثل هذه العبارة فقال:
(هذا صحيح، إنَّ من لم يدرس على أهل العلم، ولم يأخذ منهم، ولا عرف الطرق التي سلكوها في طلب العلم فإنه يخطئ كثيراً، ويلتبس عليه الحقُّ بالباطل؛ لعدم معرفته بالأدلة الشرعية والأحوال المرعية التي درج عليها أهل العلم، وحقَّقوها وعملوا بها.
أما كون خطئه أكثر فهذا محلُّ نظر، لكن على كل حال أخطاؤه كثيرة؛ لكونه لم يدرس على أهل العلم، ولم يستفد منهم، ولم يعرف الأصول التي ساروا عليها؛ فهو يخطئ كثيراً، ولا يميز بين الخطأ والصواب في الكتب المخطوطة والمطبوعة, وقد يقع الخطأ في الكتاب ولكن ليست عنده الدراية والتمييز فيظنه صواباً، فيفتي بتحليل ما حرّم الله، أو تحريم ما أحل الله؛ لعدم بصيرته؛ لأنه قد وقع له خطأ في كتاب مثلاً: لا يجوز كذا وكذا، بينما الصواب أنه يجوز كذا وكذا، فجاءت لا زائدة, أو عكسه: يجوز كذا وكذا، والصواب: ولا يجوز، فسقطت "لا" في الطبع أو الخط، فهذا خطأ عظيم.

وكذا قد يجد عبارة: "ويصح كذا وكذا"، والصواب: "ولا يصح كذا وكذا"، فيختلط الأمر عليه لعدم بصيرته، ولعدم علمه، فلا يعرف الخطأ الذي وقع في الكتاب، وما أشبه ذلك)[3].
وقال الشَّيخ محمد العثيمين رحمه الله عن عبارة "مَنْ كان شيخه كتابه فخطؤه أكثر مِنْ صوابه":
(هذا ليس صحيحاً على إطلاقه، ولا فاسداً على إطلاقه، أما الإنسان الذي يأخذ العلم من أي كتاب يراه فلا شك أنه يخطئ كثيراً ، وأما الذي يعتمد في تعلمه على كتب من رجال معروفين بالثقة والأمانة والعلم فإن هذا لا يكثر خطؤه, بل قد يكون مصيباً في أكثر ما يقول)[4].
فللكتب إذن دورها في مَدَارج الطَّلب, إذ بها يعلو مقام الناظر فيها, المتفهم لمعانيها ومراميها, على قدر أصالتها في الفنِّ, وتميُّزها في بابها, وتركيزها على حقائق العلم.

-----------------------------------
[1] المجموع للنووي (1/69).
[2] المجموع (1/66).
[3] مجموع فتاوى ابن باز (7/ 239).
[4] العلم, (ضمن مجموع فتاوى ورسائل الشيخ رحمه الله) (26/ 197).


 

السعيد العيسوي
  • قولٌ في العلم وطلابه
  • الأبحاث العلمية
  • التعريف بالكتب المطبوعة
  • منتقى التغريدات
  • الصفحة الرئيسية