اطبع هذه الصفحة


المسلك الشخصي

د.عيسى عبدالله السعدي

 
بسم الله الرحمن الرحيم


استدل علماء السلف على النبوة بأدلة كثيرة يرجع كثير منها إما إلى المسلك الشخصي أو إلى المسلك النوعي . وسنتحدث قليلا عن المسلك الشخصي الذي هو عبارة عن الاستدلال بذات النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وأخباره ، وصفاته وأحواله على صدقه وصحّة دينه ؛ أي أنَّهُ يدور على ثلاثة محاور كبرى ؛

أحدها : الاستدلال بذات النبيِّ صلى الله عليه وسلم على صدقه ؛ كاستدلال سلمان الفارسي رضي الله عنه بخاتم النبوّة على صدق النَّبيِّ صلى الله عليه وسلموكاستدلال عبد اللّه بن سلام رضي الله عنه بهيئة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على صدقه ؛ كما يدلّ لذلك قوله : (( فَلَمَّا اسْتَبَنْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ )) وهذا المعنى ما قصده حسّان بن ثابت رضي الله عنه في قوله : ـ
لو لم تكن فيه آيات مبينةُ ...... كانت بداهته تنبيك بالخبر

أي أنَّ بداهته صلى الله عليه وسلم تدلّ على صدقه ؛ وهي أوّل ما يظهر للنّاظر من وجههصلى الله عليه وسلم ، ومنظره ، ونوره ، وبهائه .

والثّاني :
الاستدلال بأخبار الأنبياء على صدقهم ؛ فإنّ خاصّة النبوّة الإنباء الصادق عن الغيب ؛ كإخبار النَّبيّ صلى الله عليه وسلم عن فتح بلاد فارس والروم ، وعما سيحصل لأصحابه ، وأمّته من الفتن ، ثُمَّ جاء الواقع مطابقًا لخبره ، فدلّ يقينًا على صدقه ، وصحّة نبوّته . ومن هذا الباب الاستدلال بما تحقّق من وعد الأنبياء ووعيدهم على صدقهم ؛ فالأنبياء وعدوا أتباعهم بالنصر والتمكين ، وأوعدوا أعداءهم بحلول العذاب ، فأنجز اللّه عداتهم ، وصدق أخبارهم ، كما قال تعالى : {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)} [الأنبياء : 9]؛ فكان ذلك الصدق في أخبارهم أكبر برهان على نبوّتهم ، وصحّة دينهم .
والإخبار عن الغيب لا يختصّ بالغيوب الآتية ، وإنّما يشمل الإخبار عن الغيوب الماضية ؛ ولهذا كان إخبار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عمَّا حلّ بالأمم السّابقة من أنواع العقاب إخبار من شاهدها وحضرها برهانًا ظاهرًا على نبوّته ، وبخاصّة أنَّهُ أمي نشأ في أمّة أميّة لا تعلم شيئًا يذكر عن الأمم الغابرة ، قال تعالى : {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا } [هود : 49] ، وقال : {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)} [العنكبوت : 48]، وقال : { فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)} [يونس : 16] ؛ فدلّ على أنَّ إخباره الصادق عن الغيب لم يكن عن تعلّم أو تطلّع وإنّما كان بوحي أوحاه إليه علاّم الغيوب .

والثّالث :
الاستدلال بخصائص الأنبياء وصفاتهم على صدقهم ؛ كما استدلّ هرقل بصفات النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على صدقه ، روى البخاريّ بسنده عن ابن عَبَّاسٍ ـ رضي اللّه عنهما ـ قال : (( حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ مِنْ فِيهِ إِلَى فِيَّ ، قَالَ : انْطَلَقْتُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : فَبَيْنَا أَنَا بِالشَّأْمِ إِذْ جِيءَ بِكِتَابٍ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى هِرَقْلَ ... ، فَقَالَ هِرَقْلُ : هَلْ هَهُنَا أَحَدٌ مِنْ قَوْمِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ ؟ فَقَالُوا : نَعَمْ . قَالَ : فَدُعِيتُ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَدَخَلْنَا عَلَى هِرَقْلَ ، فَأُجْلِسْنَا بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَقَالَ : أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ : أَنَا . فَأَجْلَسُونِي بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَأَجْلَسُوا أَصْحَابِي خَلْفِي ، ثُمَّ دَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ : قُلْ لَهُمْ : إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ . قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : وَايْمُ اللَّهِ لَوْلاَ أَنْ يُؤْثِرُوا عَلَيَّ الْكَذِبَ لَكَذَبْتُ ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ : سَلْهُ كَيْفَ حَسَبُهُ فِيكُمْ ؟ قُلْتُ : هُوَ فِينَا ذُو حَسَبٍ ، قَالَ فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ ؟ قُلْتُ : لاَ ، قَالَ : فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ ؟ قُلْتُ : لاَ ، قَالَ ، أَيَتَّبِعُهُ أَشْرَافُ النَّاسِ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ ؟ قُلْتُ : بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ ، قَالَ : يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ ؟ قُلْتُ : لاَ بَلْ يَزِيدُونَ ، قَالَ : هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ سَخْطَةً لَهُ ؟ قُلْتُ : لاَ ، قَالَ فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ ؟ قُلْتُ : تَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالاً يُصِيبُ مِنَّا وَنُصِيبُ مِنْهُ قَالَ فَهَلْ يَغْدِرُ قُلْتُ : لاَ ، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ لاَ نَدْرِي مَا هُوَ صَانِعٌ فِيهَا ، قَالَ : وَاللَّهِ مَا أَمْكَنَنِي مِنْ كَلِمَةٍ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرَ هَذِهِ قَالَ : فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ ؟ قُلْتُ : لاَ ، ثُمَّ قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ : قُلْ لَهُ إِنِّي سَأَلْتُكَ عَنْ حَسَبِهِ فِيكُمْ ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو حَسَبٍ ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي أَحْسَابِ قَوْمِهَا ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مَلِكٌ ؟ فَزَعَمْتَ : أَنْ لاَ فَقُلْتُ : لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ ، وَسَأَلْتُكَ عَنْ أَتْبَاعِهِ ، أَضُعَفَاؤُهُمْ أَمْ أَشْرَافُهُمْ ؟ فَقُلْتَ : بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ ؛ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ ثُمَّ يَذْهَبَ فَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ سَخْطَةً لَهُ ، فَزَعَمْتَ : أَنْ لا ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ إِذَا خَالَطَ بَشَاشَةَ الْقُلُوبِ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ ، فَزَعَمْتَ : أَنَّهُمْ يُزِيدُونَ ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ ، فَزَعَمْتَ أَنَّكُمْ قَاتَلْتُمُوهُ ، فَتَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سِجَالاً ؛ يَنَالُ مِنْكُمْ وَتَنَالُونَ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ لاَ يَغْدِرُ ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لاَ تَغْدِرُ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ ، فَقُلْتُ : لَوْ كَانَ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ قُلْتُ رَجُلٌ ائْتَمَّ بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ . قَالَ ثُمَّ قَالَ : بِمَ يَأْمُرُكُمْ ؟ قَالَ قُلْتُ : يَأْمُرُنَا بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّلَةِ وَالْعَفَافِ ، قَالَ : إِنْ يَكُ مَا تَقُولُ فِيهِ حَقًّا فَإِنَّهُ نَبِيٌّ ) ، وفي رواية للبخاري أيضًا : (( هَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ ، قَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ ، وَلَكِنْ لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْكُمْ ، وَإِنْ يَكُ مَا قُلْتَ حَقًّا فَيُوشِكُ أَنْ يَمْلِكَ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ ، وَلَوْ أَرْجُو أَنْ أَخْلُصَ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءهُ ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ قَدَمَيْهِ ) ، وفي رواية ابن الناطور : (( فَقَالَ هِرَقْلُ : هَذَا مُلْكُ هَذِهِ الأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ ، ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ ، وَكَانَ نَظِيرَهُ فِي الْعِلْمِ ، وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْيَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وَأَنَّهُ نَبِيٌّ ) ؛ فاستدلّ هرقل بصفات النَّبيّ صلى الله عليه وسلم وأحواله على صدق نبوّته ، وازداد يقينًا بشهادة صاحب رومية ، حتَّى إنّه عرض الإسلام على عظماء الروم ، ورغّبهم في الدخول فيه ، وكان من جملة ما استدلّ به من أحوال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ابتلاؤه مع قومه ؛ لأنّ الرُّسل ( تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ ) ؛ قال تعالى : { إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } [هود : 49] ، وقال : {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)} [الأنعام : 34]، وقال : {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)} [يوسف : 110]؛ فخاصة الأنبياء اقتران دعوتهم بحسن العاقبة فعلاً وقولاً ؛ فلهم النصر والنجاة عند حلول العقاب ، ولهم لسان الصدق في الآخرين ؛ قبولاً ، ومحبّة ، وثناءً ، ودعاء ، وصيتًا باقيًا إلى يوم القيامة .
تمت


 

د.عيسى السعدي
  • كتب
  • مقالات
  • الصفحة الرئيسية