بسم الله الرحمن الرحيم
استدل علماء السلف على النبوة بأدلة كثيرة يرجع كثير منها إما إلى المسلك
الشخصي أو إلى المسلك النوعي . وسنتحدث قليلا عن المسلك الشخصي الذي هو عبارة
عن الاستدلال بذات النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وأخباره ، وصفاته وأحواله على صدقه وصحّة دينه ؛
أي أنَّهُ يدور على ثلاثة محاور كبرى ؛
أحدها : الاستدلال بذات النبيِّ صلى الله عليه وسلم على صدقه ؛ كاستدلال سلمان الفارسي رضي الله عنه بخاتم
النبوّة على صدق النَّبيِّ صلى الله عليه وسلموكاستدلال عبد اللّه بن سلام رضي الله عنه بهيئة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم
على صدقه ؛ كما يدلّ لذلك قوله : (( فَلَمَّا اسْتَبَنْتُ وَجْهَ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ )) وهذا المعنى ما
قصده حسّان بن ثابت رضي الله عنه في قوله : ـ
لو لم تكن فيه آيات مبينةُ ...... كانت بداهته تنبيك بالخبر
أي أنَّ بداهته صلى الله عليه وسلم تدلّ على صدقه ؛ وهي أوّل ما يظهر للنّاظر من وجههصلى الله عليه وسلم ، ومنظره
، ونوره ، وبهائه .
والثّاني : الاستدلال بأخبار الأنبياء على صدقهم ؛ فإنّ خاصّة النبوّة الإنباء
الصادق عن الغيب ؛ كإخبار النَّبيّ صلى الله عليه وسلم عن فتح بلاد فارس والروم ، وعما سيحصل
لأصحابه ، وأمّته من الفتن ، ثُمَّ جاء الواقع مطابقًا لخبره ، فدلّ يقينًا على
صدقه ، وصحّة نبوّته . ومن هذا الباب الاستدلال بما تحقّق من وعد الأنبياء
ووعيدهم على صدقهم ؛ فالأنبياء وعدوا أتباعهم بالنصر والتمكين ، وأوعدوا
أعداءهم بحلول العذاب ، فأنجز اللّه عداتهم ، وصدق أخبارهم ، كما قال تعالى :
{ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ
وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)} [الأنبياء : 9]؛ فكان ذلك الصدق في أخبارهم
أكبر برهان على نبوّتهم ، وصحّة دينهم .
والإخبار عن الغيب لا يختصّ بالغيوب الآتية ، وإنّما يشمل الإخبار عن الغيوب
الماضية ؛ ولهذا كان إخبار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عمَّا حلّ بالأمم السّابقة من أنواع
العقاب إخبار من شاهدها وحضرها برهانًا ظاهرًا على نبوّته ، وبخاصّة أنَّهُ أمي
نشأ في أمّة أميّة لا تعلم شيئًا يذكر عن الأمم الغابرة ، قال تعالى : {تِلْكَ
مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ
وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا } [هود : 49] ، وقال : {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو
مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ
الْمُبْطِلُونَ (48)} [العنكبوت : 48]، وقال : { فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ
عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)} [يونس : 16] ؛ فدلّ على أنَّ
إخباره الصادق عن الغيب لم يكن عن تعلّم أو تطلّع وإنّما كان بوحي أوحاه إليه
علاّم الغيوب .
والثّالث : الاستدلال بخصائص الأنبياء وصفاتهم على صدقهم ؛ كما استدلّ هرقل
بصفات النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على صدقه ، روى البخاريّ بسنده عن ابن عَبَّاسٍ ـ رضي اللّه
عنهما ـ قال : (( حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ مِنْ فِيهِ إِلَى فِيَّ ، قَالَ :
انْطَلَقْتُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : فَبَيْنَا أَنَا بِالشَّأْمِ إِذْ جِيءَ بِكِتَابٍ مِنَ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم إِلَى هِرَقْلَ ... ، فَقَالَ هِرَقْلُ : هَلْ هَهُنَا أَحَدٌ مِنْ قَوْمِ
هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ ؟ فَقَالُوا : نَعَمْ .
قَالَ : فَدُعِيتُ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَدَخَلْنَا عَلَى هِرَقْلَ ،
فَأُجْلِسْنَا بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَقَالَ : أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا مِنْ
هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ :
أَنَا . فَأَجْلَسُونِي بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَأَجْلَسُوا أَصْحَابِي خَلْفِي ،
ثُمَّ دَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ : قُلْ لَهُمْ : إِنِّي سَائِلٌ هَذَا
عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ ، فَإِنْ كَذَبَنِي
فَكَذِّبُوهُ . قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : وَايْمُ اللَّهِ لَوْلاَ أَنْ
يُؤْثِرُوا عَلَيَّ الْكَذِبَ لَكَذَبْتُ ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ :
سَلْهُ كَيْفَ حَسَبُهُ فِيكُمْ ؟ قُلْتُ : هُوَ فِينَا ذُو حَسَبٍ ، قَالَ
فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ ؟ قُلْتُ : لاَ ، قَالَ : فَهَلْ كُنْتُمْ
تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ ؟ قُلْتُ : لاَ ،
قَالَ ، أَيَتَّبِعُهُ أَشْرَافُ النَّاسِ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ ؟ قُلْتُ : بَلْ
ضُعَفَاؤُهُمْ ، قَالَ : يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ ؟ قُلْتُ : لاَ بَلْ
يَزِيدُونَ ، قَالَ : هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ
يَدْخُلَ فِيهِ سَخْطَةً لَهُ ؟ قُلْتُ : لاَ ، قَالَ فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ ؟
قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ ؟ قُلْتُ :
تَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالاً يُصِيبُ مِنَّا وَنُصِيبُ
مِنْهُ قَالَ فَهَلْ يَغْدِرُ قُلْتُ : لاَ ، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي هَذِهِ
الْمُدَّةِ لاَ نَدْرِي مَا هُوَ صَانِعٌ فِيهَا ، قَالَ : وَاللَّهِ مَا
أَمْكَنَنِي مِنْ كَلِمَةٍ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرَ هَذِهِ قَالَ :
فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ ؟ قُلْتُ : لاَ ، ثُمَّ قَالَ
لِتُرْجُمَانِهِ : قُلْ لَهُ إِنِّي سَأَلْتُكَ عَنْ حَسَبِهِ فِيكُمْ ،
فَزَعَمْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو حَسَبٍ ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي
أَحْسَابِ قَوْمِهَا ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مَلِكٌ ؟
فَزَعَمْتَ : أَنْ لاَ فَقُلْتُ : لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ قُلْتُ
رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ ، وَسَأَلْتُكَ عَنْ أَتْبَاعِهِ ،
أَضُعَفَاؤُهُمْ أَمْ أَشْرَافُهُمْ ؟ فَقُلْتَ : بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ ، وَهُمْ
أَتْبَاعُ الرُّسُلِ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ
قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ ؛ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ
لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ ثُمَّ يَذْهَبَ فَيَكْذِبَ
عَلَى اللَّهِ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ
بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ سَخْطَةً لَهُ ، فَزَعَمْتَ : أَنْ لا ، وَكَذَلِكَ
الإِيمَانُ إِذَا خَالَطَ بَشَاشَةَ الْقُلُوبِ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ
أَمْ يَنْقُصُونَ ، فَزَعَمْتَ : أَنَّهُمْ يُزِيدُونَ ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ
حَتَّى يَتِمَّ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ ، فَزَعَمْتَ أَنَّكُمْ
قَاتَلْتُمُوهُ ، فَتَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سِجَالاً ؛
يَنَالُ مِنْكُمْ وَتَنَالُونَ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ
تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ ، فَزَعَمْتَ
أَنَّهُ لاَ يَغْدِرُ ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لاَ تَغْدِرُ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ
قَالَ أَحَدٌ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ ، فَقُلْتُ : لَوْ
كَانَ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ قُلْتُ رَجُلٌ ائْتَمَّ بِقَوْلٍ
قِيلَ قَبْلَهُ . قَالَ ثُمَّ قَالَ : بِمَ يَأْمُرُكُمْ ؟ قَالَ قُلْتُ :
يَأْمُرُنَا بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّلَةِ وَالْعَفَافِ ، قَالَ : إِنْ
يَكُ مَا تَقُولُ فِيهِ حَقًّا فَإِنَّهُ نَبِيٌّ ) ، وفي رواية للبخاري أيضًا
: (( هَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ ، قَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ ، وَلَكِنْ
لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْكُمْ ، وَإِنْ يَكُ مَا قُلْتَ حَقًّا فَيُوشِكُ
أَنْ يَمْلِكَ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ ، وَلَوْ أَرْجُو أَنْ أَخْلُصَ
إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءهُ ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ
قَدَمَيْهِ ) ، وفي رواية ابن الناطور : (( فَقَالَ هِرَقْلُ : هَذَا مُلْكُ
هَذِهِ الأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ ، ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ
بِرُومِيَةَ ، وَكَانَ نَظِيرَهُ فِي الْعِلْمِ ، وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى
حِمْصَ ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ
يُوَافِقُ رَأْيَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وَأَنَّهُ نَبِيٌّ ) ؛
فاستدلّ هرقل بصفات النَّبيّ صلى الله عليه وسلم وأحواله على صدق نبوّته ، وازداد يقينًا بشهادة
صاحب رومية ، حتَّى إنّه عرض الإسلام على عظماء الروم ، ورغّبهم في الدخول فيه
، وكان من جملة ما استدلّ به من أحوال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ابتلاؤه مع قومه ؛ لأنّ
الرُّسل ( تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ ) ؛ قال تعالى : {
إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } [هود : 49] ، وقال : {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ
رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى
أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ
مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)} [الأنعام : 34]، وقال : {حَتَّى إِذَا
اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا
فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ
(110)} [يوسف : 110]؛ فخاصة الأنبياء اقتران دعوتهم بحسن العاقبة فعلاً وقولاً
؛ فلهم النصر والنجاة عند حلول العقاب ، ولهم لسان الصدق في الآخرين ؛ قبولاً ،
ومحبّة ، وثناءً ، ودعاء ، وصيتًا باقيًا إلى يوم القيامة .
تمت
|